في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة.
الاجتماع تم في سلطنة عُمان، ذلك البلد الفريد الذي يمكنه جمع القاتل بضحيته، ثم إقناع العالم أن كليهما “يتحدثان باحترام متبادل”، عُمان، حيث تُمتصّ التوترات النووية كما تمتص الرمال شاي النعناع، اللقاء الأول، كما كشف المفاوض الإيراني، جرى في منزل وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، لأن لا شيء يُضفي مصداقية على التفاهم النووي مثل كنب مخملي وأصص زهور اصطناعية وشاي عُماني تفوح منه رائحة الترقب، في ذلك المنزل المعطر بالبخور والزيت العُماني، وتحت ثريا تُشبه قنابل الدموع من فرط تألقها، اجتمع رجال السياسة، يضعون الأقنعة على الوجوه بربطات عنق مُحكمة وابتسامات مرهقة، يتداولون الكلمات كما لو كانت قنابل موقوتة أو أكواب شاي بنعناع دبلوماسي، نعم.. إنها مفاوضات إيران وأمريكا… ذلك المسلسل الذي لا نهاية له،خمسة من كل طرف، وثلاثة وسطاء عُمانيين، كانوا يترجمون الكلمات والنيات والابتسامات… وربما بعض الإشارات تحت الطاولة، جلس الطرف الإيراني من جهة، والأمريكي من جهة، يتوسطهم العُمانيين بمهام مستحيلة: الوساطة بين من يتحدث بلغة التخصيب النووي ومن يرد بلغة العقوبات.
عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني الذي يبدو كمن قرأ كل كتب فن التفاوض، ثم قرر استخدامها كورق للتدخين، خرج علينا مبتهجا ليبشّرنا بأن المفاوضات كانت “بناءة” وفي “أجواء هادئة” و”بعيدة عن لغة الإساءة”،وبالطبع، حين يستخدم المسؤولون هذه العبارات، اعلم أن كل شيء كان على وشك الانفجار لكنهم تمكنوا من تجميله كما تُجمّل الجنازات بالزهور، وكأن ما سبق من سنوات الشد والجذب والتصريحات المزلزلة لم يكن سوى سوء تفاهم بين جارين في عمارة واحدة اختلفا على موقف السيارة، وما هي هذه “الأجواء الهادئة”؟! هل هي هدوء ما قبل القصف؟ أم ذلك الهدوء القاتل الذي يُشبه صمت السفاح قبل أن يُخرج المنشار؟ كل شيء ممكن… فالمشهد مكتوب بقلم هوليوودي، يُغذيه خيال دبلوماسي مختلّ.
على الجانب الآخر من الطاولة، ستيفن ويتكوف، المبعوث الأمريكي الذي يُشبه رجال المافيا أكثر من الدبلوماسيين، كتب على منصة “إكس” وقال: “المحادثات كانت إيجابية وبنّاءة للغاية“، وهنا علينا التوقف قليلا: ما تعريف “إيجابي” في القاموس الأميركي؟ هل هو نفس تعريف “بناء” في اللهجة الإيرانية؟ أم أن الطرفين اتفقا فقط على عدد فناجين القهوة؟ إنهم يتحدثون عن المفاوضات كما يتحدث موظف خدمة العملاء عن تجربة الرد على مكالمة غاضبة: “كان الزبون يصرخ، لكن بطريقة بناءة“.
وبينما العالم يتثاءب من التكرار، وكانت التصريحات تتطاير كحمام سلام من شرفة الأخبار، دخل قائد السيرك العالمي وعرّاب القرارات الانفعالية دونالد ترامب على الخط بتصريح مقتضب كعادته من طائرته الرئاسية “المكان الوحيد الذي يبدو فيه ذكيا لأنه فوق الجميع حرفيا” يقول فيه: “المفاوضات تسير على نحو جيد للغاية”، ولمن يعرف ترامب، فإن هذه الجملة قد تعني أي شيء من: “نقترب من اتفاق” إلى “سأقصفهم غدا“، فالرجل يملك موهبة تحويل الغموض السياسي إلى فن تعبيري معاصر، ثم أضاف، بكل عبقرية فيلسوف غارق في الحماقة: “لكن لا شيء يهم حتى تنتهي“، تصريح يصلح لأن يُقال عن طبخة لازانيا أكثر من مفاوضات نووية.. ترامب يُجيد الحديث عن الأمور وكأنه يعلق على مباراة كرة قدم، لا مفاوضات قد تؤدي لنهاية العالم، وكأن أحدهم يُمسك بزر أحمر ويقول: “لا تقلق، الأمور تمضي على ما يُرام“.
لكن المفاجأة جاءت من الجنرال إيرج مسجدي، مستشار قائد فيلق القدس، الذي قالها بصراحة وبدون لف أو دوران: “ترامب هو من طلب المفاوضات”، أي أن الولايات المتحدة جاءت إلى طهران وهي تلوّح بغصن زيتون وتقول: “دعونا نتحدث… قبل أن نقصفكم بحُسن نوايانا، وأخيرا عرفنا أن كل هذا المشهد التفاوضي بدأ برسالة حب سياسية من ترامب إلى طهران، كتبها على الأرجح بعد وجبة ثقيلة وهو يتصفح تويتر بنصف وعي، ننتظر الآن أن نعرف: هل كتبها بيده؟ أم أرسلها عبر حمامة نووية؟ وهل احتوت الرسالة على “قلبي معكم”، أم “دعونا نساوم على مصير المنطقة”؟
وأكد مسجدي أن إيران دخلت هذه المفاوضات بدافع الأمل، وكأنها تُشارك في برنامج “ذا فويس” الدبلوماسي، تنتظر أن يدير أحدهم كرسيه قائلا: “أحببتُ طريقتك في تخصيب اليورانيوم“.
إذا إيران استجابت، ليس خوفا، بل “أملا في نتائج إيجابية”، وهذه جملة تُقال عادةً في علاقات الحب السامة، لا بين دولتين على وشك إشعال حرب عالمية ثالثة، يبدو أن الجميع يُفاوض من باب “دعونا نجرب، يمكن تنجح… وإذا ما نفعت، نرجع للدرونز“.
لكن قمة الإثارة لم تأتِ بعد، الجولة الأولى من المفاوضات جرت في منزل الوزير العُماني! أجل، ليست قاعة رسمية، ولا مقر أممي، بل في بيت رجل! جلس الحاضرون على أرائك الصالون الفاخر، يشربون الشاي وهم يتناقشون حول القنابل النووية وكأنهم يتحدثون عن ديكور الستائر.
ولأن لا شيء يُضاهي سريالية الشرق الأوسط، فجأة، وبلا سابق إنذار، قرروا أن الجولة المقبلة من المفاوضات لن تُعقد في عُمان، ولا في جنيف، ولا حتى في ركن مظلم من مقهى فيينا، بل… في دولة أوروبية حيث العاصمة الايطالية روما، فهناك لا أحد يكتب النص، كأنهم سيعقدون الصفقة في قبو قلعة مهجورة، يحضرها مندوب الشيطان شخصيا، وبحضور مترجم يتقن اللاتينية القديمة ويشرب دمه من كأس كرستالية تعود للعصور الوسطى، الجميع يرتجل، وكلما اعتقدت أن العرض انتهى، أطلّ مهرج جديد من خلف الستار وهو يلوّح بسيف من كرتون ويهدد بسحق الجميع.
أما في الطرف الآخر من الكوكب، فقد ظهر دونالد ترامب مجددا، ببدلته التي تصرخ: “أنا لا أقرأ، أنا أرتجل!”، وأعلن من على منبر البيت الأبيض أنه عقد اجتماعاً مع مستشاريه لبحث الملف الإيراني، دون أن يفسد علينا حبكة التشويق بتفاصيل إضافية، كل ما نعرفه هو أن “قراراً سريعاً” يلوح في الأفق، وربما يهبط علينا كما تهبط الصواريخ… دون مقدمات، ثم، وكأنه نسي أنه لا يزال في بث مباشر، هدد ترامب بتوجيه ضربات إلى المواقع النووية الإيرانية، متهماً طهران بـ”المماطلة“.
يبدو أن الإيرانيين لم يقرأوا جدول أعماله جيداً، لأنهم تجرأوا على المفاوضة يوم سبت! وهذا في عرف ترامب جريمة أخلاقية تستدعي الرد الفوري، قالها بوجه نصف جدي، نصف برتقالي: “كان لدينا لقاء معهم يوم السبت، ولدينا اجتماع آخر السبت المقبل، وقلت إن هذا وقت طويل. تعرفون أن هذا وقت طويل.”
طبعا نحن لا نعرف، لكننا نؤمن.. ثم جاء الهجوم المعتاد، عندما اتهم الإيرانيين بأنهم “كانوا متعودين على التعامل مع أشخاص أغبياء” في إشارة ضمنية إلى إدارة بايدن،وكالعادة، لا يكتمل العرض إلا بجملة ختامية من النوع الذي يُطرز على قمصان المتظاهرين: “إذا كان علينا أن نقوم بأي شيء قاس، فإننا سنقوم بذلك.”
وحين سئل إن كانت الإجراءات تشمل ضرب المواقع النووية، أجاب ترامب بابتسامة شخص يشاهد نفسه بطلافي فيلم أكشن: “بالطبع“، وهكذا يستمر العرض، مشهد بعد مشهد، تهديد بعد تهديد، مفاوضة بعد مفاوضة، الشرق الأوسط ما زال يرقص على حافة بركان، والمخرج – على ما يبدو – في إجازة مفتوحة، أما أهم ما خرجنا به من هذه المهزلة المُهذبة، فهو أن “الطرفين لا يرغبان في إطالة أمد المفاوضات”.. بعد عقد ونصف من المباحثات المتكررة، كأنهم يقولون: “لقد انتهينا من ترتيب مائدة الشطرنج، الآن دعونا نبدأ تحريك البيادق”، ولتُفاجأ أن اللعبة لم تكن شطرنجا أصلا، بل مونوبولي، والجميع يحاول فقط ألا يفلس.
إنها دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، مفاوضات غير مباشرة، في بيوت خاصة، بوساطة ثلاثية، وحضور وسائل التواصل الاجتماعي كضيف شرف، ويُعاد فيها تدوير العبارات، وتدوير الكراسي، وتدوير الخرائط.. وقد نرى في الجولة القادمة وزير الخارجية الإيراني وترامب يتبادلان نكات خفيفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يلعب بدر البوسعيدي دور الحكم الرابع ويطلق الصافرة بين الجولات، فكل طرف يُريد أن يبدو كأنه المنتصر، وكل طرف يخاف من أن يُنادى بالخائف، أما الشعوب، فليست أكثر من جمهور في مسرح الدمى، ينتظر أن يُسدل الستار، على أمل أن لا يكون الستار هذه المرة.. سحابة مشرقة من الفناء النووي، لكن لا داعي للقلق، فالجولة الثانية قادمة، وكما في كل جزء جديد من هذا المسلسل، سيُعاد المشهد ذاته، مع تغيير في زاوية الكاميرا وربطة العنق، وربما نكتشف في النهاية أن “الحوار البنّاء” لم يكن سوى مقدمة لسقف ينهار.. ببطء، لكن برشاقة دبلوماسية، وإلى أن تعقدالجولة المقبلة، سنظل نحن نتابع الأخبار كما نتابع مباريات كرة القدم: نصرخ ونحلل، لكن دون أن ندري ما إذا كانت الكرة دخلت المرمى… أم أننا ما زلنا نلعب في الشوط الإضافي.