18 ديسمبر، 2024 4:15 م

مفاهيم نظرية في الهجرة الطلابية

مفاهيم نظرية في الهجرة الطلابية

الهجرة السكانية قديمة قدم وجود الإنسان، إلا أن نظرياتها تُعدّ جديدة. ففي الخمسينيات من القرن العشرين، انتقلت نظريات الهجرة من النماذج الميكانيكية البحتة إلى نظريات أكثر تطورا. وعلى الرغم من أن كارل ماركس لم ينشر أي نظرية خاصة بالهجرة، فإن أعماله تتضمن مفاهيم مفصلة حول نزوح العمل نحو المدن. كذلك أشار إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص فائض القيمة من الطبقة العاملة ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام، وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع من خلال الاستعمار. إلا أن الملاحظ أن نظريات الهجرة الجديدة اهتمت بالتنظير لهجرة العمالة غير الماهرة، في حين ظلت هجرة الكفاءات تعاني من نقص التنظير وينطبق هذا أكثر على الهجرة الطلابية. ولعل ذلك يعود إلى أن هجرة العمالة غير الماهرة كانت بأعداد ضخمة، بينما ازدادت أهمية الصنفين الآخرين من الهجرة من الناحية الكمية والنوعية في السنوات الأخيرة.

كانت الحركية الدولية للطلاب، قد ازدادت منذ عام 2000؛ إذ ارتفعت أعدادهم، عالميا، من 2,1 إلى 4,5 مليون، خلال الفترة 2000-2012(1). وثمة اتجاه متزايد للطلاب العرب للدراسة في الخارج؛ إذ أرتفع عددهم من 160,419 عام 1998 إلى 281,575 عام 2011(2) وإلى 323,340 عام 2013(3). نحاول هنا تسليط الضوء على بعض المفاهيم النظرية المتعلقة بالهجرة الطلابية على قلتها.

ثمة نقاشات نظرية متباينة تحاول فهم الهجرة| الحركية الدولية للطلاب. وقد لخص كلير مايج Clare Madge وآخرون هذه النقاشات في ثلاثة مسارات رئيسة: يرتبط المسار الأول بحركية الطلاب الحديثة من خلال منظور أدب الهجرة، ويكتشف المسار الثاني الهجرة الطلابية الدولية ISM بوصفها جزءا من الحركية الكلية وعولمة التعليم العالي، بينما يركز الثالث على القضايا البيداغوجية التي تنشأ عن حركية الطلاب(4) المتزايدة على المستوى الإقليمي والعالمي.
اُستخدمت نظريات الطرد والجذب لتفسير الهجرة الطلابية. ووفقا لنظرية الطرد، توفرت للبلدان النامية خيارات قليلة بعد نيلها الاستقلال في الستينيات غير بعث الطلاب للدراسة في الجامعات الأجنبية. حينذاك، كان معظم البلدان تعاني من نقص العمالة الماهرة التي تحتاجها للعمل في الوظائف الحكومية، والجامعات، والقطاعات الأخرى. في حين كانت البلدان ذات الحجم السكاني الكبير، خصوصا تلك التي كانت مستعمرات بريطانية، لديها جامعة أو جامعتين عند الاستقلال، ومعظمها لديها عدد قليل من حاملي الدكتوراه، ولا تقدم تدريبا متقدما؛ لذلك، ومن أجل تعزيز التنمية رأت البلدان النامية أن الدراسة في الخارج تعتبر وسيلة لتنمية رأس مالها البشري. ولإنجاز ذلك، استثمرت الكثير في منح الدراسات العليا في الستينيات لتمكن الآلاف من مواطنيها من دراسة المرحلة الثالثة في بلدان الشمال.
في نهاية السبعينيات، برزت أدلة متنامية تشير بأن كثيرا من الطلاب الذين تمتعوا بالمنح الدراسية لم يعودوا إلي بلدانهم الأصلية بعد إكمال دراستهم. النتيجة، تنامي القلق بأن الدراسة في الخارج باتت”تستنزف” قادة المستقبل من البلدان النامية(5) بما فيها العديد من البلدان العربية ومنها العراق.
هذه النتيجة تتوافق مع اُستخدم الاقتصاد السياسي، على نحو واسع، لتحليل هجرة الطلاب باعتبارها نزيفا للعقول خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. إذ يُنظر إلى الطلاب على أنهم يمثلون بوادر الهجرات الماهرة؛ حيث إن لتحركاتهم تأثيرات أكبر من مجرد اشتراك عدد منهم فيها. ويُنظّر هذا المنهج لكل من مكان الإرسال والاستقبال بالتزامن، وضمن الإطار التحليلي ذاته. إذ يربط التفاوت البنيوي الذي يدفع إلى الهجرة أماكن الإرسال والاستقبال، ربطا عضويا. ويمتد هذا التفاوت إلى الماضي، ويستفيد من التكوين التاريخي، خصوصا من السيطرة الاستعمارية؛ حيث يتوجه طلاب المستعمرات السابقة إلى البلدان التي كانت تمثّل مراكز الإمبريالية، وهذه الحالة تديم التفاوت الذي نشأ خلال الفترة الاستعمارية. لذلك، يناقش بيتر كيل Peter Kell وجيليان فوغل Gillian Vogl بأن القوى الاستعمارية السابقة، استخدمت هذه الارتباطات مصدرا للطلاب الدوليين للحفاظ على هيمنتها، وعلى تبعية جديدة للمستعمرات السابقة؛ إذ يأتي كثير من الطلاب، الذين يختارون الدراسة في فرنسا مثلا، من البلدان الفرانكفونية، والتي كانت مستعمرات فرنسية(6)، كما هي الحال بالنسبة إلى بلدان المغرب العربي.
كذلك عولجت الهجرة الطلابية العابرة للحدود الوطنية، أيضا، من خلال الاتحادات الطلابية العابرة لهذه الحدود، والتي توفر الصلات على المستوى المحلي، وعلى مستوى الشتات، وظلت قيد البحث باعتبارها وحدات من الهجرة العابرة للحدود الوطنية، وجهات فاعلة سياسيا عبر هذه الحدود. تدمج هذه الاتحادات الفضاءات الاجتماعية المتعددة في الحرم الجامعي، وهي تسمح بملاحظة كيفية تشكل التوجهات المختلفة وديناميات السلطة أو النفوذ ما أسمته سيلا بن حبيب Seyla Benhabib الخطابات العابرة للحدود لتكرار الديمقراطية(7)؛ أي إمكانية نقل التجارب الديمقراطية من البلدان المتقدمة إلى بلدان الأصل عبر الهجرة الطلابية. وهذه مسألة يتداخل فيها الكثير من العوامل البنيوية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تخص مجتمعات الأصل، ولا يمكن النظر إليها بهذه البساطة.
من جانب آخر، حللت دراسات الحركات الاجتماعية، الاتحادات الطلابية كعوامل سياسية مؤثرة في مقاومة الطغيان والاضطهاد في سياقات جيوبولتيكية مختلفة. وسلط علماء الهجرة الضوء أيضا على التأثير الإيجابي للطلاب المهاجرين في العملية الديمقراطية في بلدانهم الأصلية.
يمثّل رسم خريطة خطابات الاتحادات الطلابية العابرة للحدود الوطنية بشأن الديمقراطية، ومتابعة نتائجها تحديا منهجيا. وأثبت البحث أن المهاجرين يعززون نقل الديمقراطية على المستوى غير السياسي. ومن خلال عمليات التبادل المنظر لها في أدب التحولات الاجتماعية، فإن هذا التواصل يمكن أن تنتج عنه تأثيرات متعددة وبعيدة المدى(8) في بلدان الأصل.
عندما يناقش منظرو رأس المال البشري المحفزات الكامنة لقرار الهجرة، يشيرون غالبا إلى أن التعليم يفتح العالم للأفكار ولفرص التقدم. ووفقا لهؤلاء، يُنظر إلى الهجرة باعتبارها حسابا اقتصاديا مصمما لتعزيز وزيادة كامل إمكانيات المهاجر، إلى الحد الأقصى، خصوصا باستخدام المهاجر للتحصيل الدراسي، ومستوى المهارة والعمل لكسب أجور أعلى، ومن ثم تحسين مستواه المعيشي. هذا الإطار يفترض أن العمالة العالية المهارة تنجذب نحو العمل في المراكز الصناعية والاقتصادية، حيث الوظائف مضمونة نسبيا، مقارنة بحالة عدم الهجرة. إذ يجلب التعليم باعتباره رأس مالا بشريا عائدا كبيرا إلى الذين يمارسون مهاراتهم خلف الحدود(9).
لكن لا يعمل معظم المهاجرين بشكل طليق عالميا، حتى أولئك المتسلحين برأس المال الاقتصادي والبشري المهمين، إذ تتشكل وتتحدد أعمالهم واختياراتهم من جانب العلاقات الاجتماعية، إضافة إلى السياقات الثقافية والسياسية-الاقتصادية التي تؤطر حياتهم. حيث يبقي كثير منهم على شبكات اقتصادية واجتماعية قوية عابرة للحدود، ويتواصل بشكل متكرر ويسافر إلى بلده الأصلي خلال دراسته في الخارج(10).
يشير العلماء إلى أن الدراسة في الخارج تمثّل إستراتيجية مهمة للحركية الاجتماعية، والهيبة، والتقدم الوظيفي عالميا، بالنسبة إلى كثير من العائلات الآسيوية. إلا أن وجهة النظر هذه تختلف بعض الشيء عن السياق الأوروبي الذي يقترح بأن المحفزات الأصلية للدراسة في الخارج تتراوح بين ممارسة الفردانية عبر التجربة الشخصية، والبحث عن الغنى الثقافي واكتساب مهارات معينة مثل التمكن من اللغات أو الرغبة بالسفر.
تم التركيز قليلا في الأبحاث المعاصرة على قرارات الهجرة، إذ جرى التركيز أكثر على الحركية الدولية للطلاب بعد حصولهم على الشهادة الجامعية، والانجاز المهني المبكر للعلماء. وقد أكد البحث إن الروابط الاجتماعية مثل الشراكة والأبوة أو الأمومة يمكن أن تكون مؤثرة للغاية في قرارات الحركية المرتبطة بتحقيق الانجاز المهني؛ إذ يكافح كثير من الباحثين الشباب للموازنة بين رغبتهم في تحقيق الإنتاج العلمي الأفضل ووضع عائلاتهم وحياتهم الشخصية(11).
يمكن أن تتباين الهجرة الطلابية تبعا لعدد من الموجهات التي تساعد في فهم تنوع أنماطها. وتتمثل واحدة من القضايا الاصطلاحية المثارة، في ما إذا يمكن التمييز بين “هجرة” و”حركية”. إذ من المؤكد، ينزع الأدب والنقاش السياسي بصفة متزايدة في أوروبا، لتفضيل المصطلح الأخير. على اعتبار أن الحركية تلقي الضوء أيضا على الحركة المتضمنة بالهجرة، بدلا من التمييز بين أماكن الإرسال والاستقبال ووجهات نظرهم(12).
أخيرا، تبقى الدراسة في الخارج ضرورة معرفية وعلمية، للاستفادة منها في نقل المعارف والخبرات الجديدة على أن تكون ذات منافع متبادلة، وأن لا تكون على حساب استنزاف كفاءات البلدان النامية. وعلى الأخيرة أنجاز تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة كي تكون مركز جذب لطلابها الدارسين في الخارج.
نظرا لتنوع أصناف الهجرة الطلابية وتعقد مساراتها في ظل العولمة، فهي تستدعي توجيه المزيد من الجهد العلمي المستمر على مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث للتعمق في البحث والتنظير لإنتاج ما هو جديد لفهم وتفسير آليات عمل هذه الظاهرة بشكل أفضل.
الهوامش
1- OECD, International Migration Outlook 2014, pp. 26-30.
2- Samia Satti O. M. Nour, Migration of International Students and Mobilizing Skills in the MENA Region, Working Paper Series (Maastricht: 2014), p. 11.
3- الإسكوا والمنظمة الدولية للهجرة، تقرير حالة الهجرة الدولية لعام 2017، الهجرة في المنطقة العربية وخطة التنمية المستدامة لعام 2030 (2018)، ص 44-45.
4- Russell King & Parvati Raghuram, “International Student Migration: Mapping the Field and New Research Agendas,” Population, Space and Place, vol. 19, no. 2 (March| April 2013), p.128.
5- Mary M. Kritz, “International Student Mobility and Tertiary Education Capacity in Africa”, International Migration, vol. 53, no. 1 (2015), pp. 31-32.
6- Parvati Raghuram, “Theorising the Space of Student Migration,” Population, Space and Place, vol. 19, no. 2 (March| April 2013), pp. 144-145.
7- Tamirace Fakhoury, “Transnational Immigrant Narratives on Arab Democracy: The Case of Student Associations at UC Berkeley,” International Migration, vol. 53 no. 3 (2015), p. 10.
8- Ibid., p. 10.
9- John A. Arthur, African Diaspora Identities: Negotiating Culture in Transnational Migration (Lanham: Lexington Books: 2010), pp. 42-43.
10- Kate Geddie, “The Transnational Ties that Bind: Relationship considerations for Graduating International Science and Engineering Research Students”, Population, Space and Place, vol. 19, no. 2, March| April (2013), p. 198.
11- Ibid., p. 199.
12- King and Raghuram, p. 129.