22 ديسمبر، 2024 11:39 م

مفاهيم قرآنية – الجنة البرزخية

مفاهيم قرآنية – الجنة البرزخية

في المفهوم السائد لدى الأغلبية إن الميت الذي يودع الدنيا يبقى في قبره في عالم يسمى ” عالم البرزخ ” بدون ثواب ولا عقاب , ويترك كأنه أله عاطلة ينتظر صيحة القيامة .. هذا فهم خاطيْ ..

رجعت إلى التفاسير القرآنية فوجدت صواب الرأي من القران أفضل من السماع من الناس , وعدم التحقق في تلك الفترة المهمة , ووجدت تعارضا لرأي بعض ممن يعتقدون ان البرزخ فترة ركود وفناء, ليس هناك جنة ولا نار , هذا القول خلاف الحقيقة التي قررها القران الكريم .. نحن جميعا نعتقد- حسب منطوق القران الكريم أنّ الإنسان بعد الموت يُبعث يوم القيامة . لكن هناك فاصلة زمنيّة بين الموت والقيامة تمتدّ طويلا .. فكيف تكون الحال في هذه الفاصلة؟ هل سيكون الموت سبات وفناء , أو هو لون آخر من ألوان الحياة؟

لا بد ان نرى القران ما يقول عنها .. ثم هل الموت تلفاً وفساداً للإنسان، شبيه الآلة المعطلة . إذن ما فائدة أعمال الخير التي نبعثها أليه ..؟ فوجدت رأي القران مخالفا تماما لهذا حيث يخبرنا القران بشكل واضح إن الموت في المنطق القرآنيّ ليس تلفاً وفساداً , بل هو انتقال من عالم إلى عالم آخر يعيش فيه فترة أطول من فترة عالم الأرحام وعالم الدنيا .. هنك في البرزخ مكانٍ يبقى فيه الإنسان حيّاً إلى يوم القيامة، إلى ساعة انبعاث البشر من القبور أحياءً ينشرون بين يدي الله تعالى … أليك الدليل ..

تشير مجموعة من الآيات القرآنيّة إلى حقيقة الفترة الفاصلة” البرزخ ” يكون الإنسان حيّاً . وتستمرّ حالته إلى يوم القيامة، والبرزخ في اللغة هو الفاصل بين شيئين. في القرآن تشير هذه الكلمة إلى فترة ما بعد الموت إلى يوم البعث: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وبالطبع فإنّ كلمة (وراء) استعملت بمعنى: (ما هو آتٍ في المستقبل) يقول تعالى:﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ ، وفي آية أخرى:﴿…وَلَكِنْ أَعْبُدُ الله الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾ هنا تحقق الموت والانتقال .. والموت قد يعتقد البعض انه زوال وعوده إلى التراب وانتهى كل شيْ إلى يوم القيامة . فهل يترك الإنسان بدون حساب لا جنة ولا نار ..؟

القران يشير إلى حياة بشكل تختلف عن الدنيا يعيشها الإنسان بعد الموت ..هذا واضح في قوله تعالى:﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) الآية واضحة الدلالة على الحياة بعد الموت، ولكن الذين أنكروا الحياة بعد الموت أوّلوها وحملوها على المجاز، فقالوا إنّها بمعنى أنّ الشهداء يبقون بعد موتهم أحياء في قلوب الناس، أي إنّ ذكر الشهداء وأسمائهم خالدة حيةّ بعد فقدهم، …في الواقع هذا الكلام في غير محلّه: لان تعبير الآية واضح ﴿ولكن لا تشعرون﴾ ينافي تماماً ما ذُكِر بهذا الرأي الذي لا يستند إلى دليل.! لو كان المعنى إنّهم ما زالوا خالدين في النفوس، يشعر الناس بهم كأنّهم أحياء، فكيف يعود ليخاطبهم ﴿ولكن لا تشعرون﴾؟!

ثانياً: قوله تعالى:﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ّ هذه الآية تتحدّث بصراحة عن الشهداء بعد موتهم يُرزقون ويفرحون ويستبشرون، وهذا يتنافى مع القول بأنّ حياتهم مجرّد خلود أسمائهم في القلوب. او ان البرزخ فناء وانتهاء كما تقول أطروحات البعض .

ولو قلنا ان هذا خاص بالشهداء فقط , فقد تابعت آراء القران فوجدته يختلف عن منطق ان البرزخ فترة فاصلة وحسب دون حساب أو عقاب فقوله تعالى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وسؤل الإمام الباقر {ع} في راية بالمعذبين في الحياة الدنيا في عالم البرزخ ..

القران يبين أنّ لكل إنسان حياةً بعد الموت تناسب ما عمله في الدنيا. وهذا رأي جميع المسلمين , وحين نزور أئمتنا نقول لهم اشهد انك اسمع سلامي .. وألا ما فائدة زيارة القبور . خاصة والأحاديث الكثيرة تحثنا زيارتها والدعاء عندهم والدعاء لموتانا وطلب منهم الدعاء لنا ..؟ ثم هناك حوار يجري بين الملائكة وجماعة من الأشقياء، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مصيرا ) هذا الحوار دليل على أنّ هؤلاء يعيشون ضرباً من الحياة في البرزخ ..

كما ورد حوار آخر بين الملائكة وجماعة من الطيّبين بعد الموت مباشرة، في الآية الشريفة:﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.. وهناك آيات تبين حال الأموات لما يرى وضعه سيئا يطلب العودة إلى الدنيا ليعمل الصالحات: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ ،هذا يدلّ على أنّ الإنسان يبقى حيّاً بعد موته، فيكون له شعور وإدراك، وأمانٍ وطلبات…

وقصة ال ياسين واضحة الدلالة .. يتحدّث القرآن أنّه وبعد أن قُتل أُدخل مباشرة إلى جنّة في عالم البرزخ: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ . وحياتُه في جنّة بعد موته مباشرة، وتأسّفُه على قومه وتمنّيه أن يهتدوا لينالوا مثلها، خيرُ دليل على الحياة بعد الموت وقبل القيامة.وهنا نلفت إلى أنّه مؤمن آل ياسين دخل الجنّة قبل يوم القيامة، إذ الآيات القرآنيّة لا تتحدّث عن جنّة واحدة فقط بل عن جنّات متعدّدة، فهناك (جنّة الخلد)، و(جنّة عدن)، و(جنّة الله) وجنة المأوى التي هي فوق بقيّة الجنان…والذي يفهم من القرآن أنّ الجنّة ليست مكاناً يختصّ بالآخرة. وقد نقل الفريقان، السنّة والشيعة، الحديث عن النبيّ\{ص} (القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران) والآية الكريمة “(فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾.. في هذا المقطع يذكر القرآن أنّ الحدّ الفاصل والأخير بين الحياة والموت هو بلوغ الروح الحلقوم، حيث لا يمكن إعادة الحياة للمحتضر عندما تبلغ ذلك المكان- كما يستفاد من الأخبار والروايات- وأنّ الإنسان في هذه الحالة يعيش حالتين: من ناحية هو ينظر إلى هذه الدنيا ومن حوله من الناس، ومن ناحية أخرى يعاين بعضاً من معالم العالم الآخر فيشاهد وضعه هناك، فيرى أعماله والأشياء بصورة مثاليّة، كما يرى الملائكة وأولياء الحقّ.

وفي النتيجة، تشير هذه الآيات إلى خروج النفس أو الروح من البدن تدريجيّاً حتى تصل إلى الحلقوم، المرحلة الحاسمة التي يعاين فيها الميت عالمه القادم فضلاً عن الحالي. وهذه الحالة هي حالة الموت. وعلى ضوئها يتّضح أنّ ماهية الموت قرآنيّاً هي الانفصال والانقطاع، وليس الفناء والاندثار.