إن مقتضى المُحَافَظة على شيء ما، يتطلب بالضرورة توافر خمسة شروط، أولها وجود مالك أو حائز هو “المُحافِظ”، وثانيها وجود “شيء” ما مملوك له أو بحوزته، وأن يكون هذا الشيء المطلوب المحافظة عليه موجوداً من زمن سابق على التملك، وهذا يعني انتقال ملكية هذا الشيء إليه من الماضي، إذ لا يتصور عقلاً أن يُحافظ أحدهم على شيء لم يوجد بعد بحوزته، أو كان ليوجد لكن بالمستقبل، ووجود “خطر” يتهدد هذا الشيء بالزوال من المكان والزمان، وإلا لما كان للمسألة كلها من مبرر، وأخيراً وجود “سلطة مادية” تخوّل المحافِظ المحافظة على الشيء والحيلولة دون زواله.
فمثلاً المباني العامة والآثار والثروات الطبيعية … الخ، هي أشياء مادية ترثها مؤسسة الدولة بشكل مستديم ومتواصل، أغلبها أشياء وجِدت حتى قبل وجود الدولة نفسها، كالثروات الطبيعية والآثار والكنوز الفنية، ولكونها أشياء مهمة وذات فائدة لوجود الدولة ذاته، فإن الدولة تمارس عليها واجبات الحفظ والترميم والحكامة حتى لا تندثر، والظهور عليها دائماً وطوال الوقت بمظهر المالك لها والمستأثر بها، وهي تفعل هذا بموجب سلطة مادية، أياً كان مظهرها: قانونيّاً أو عقديّاً أو نفعيّاً ـ وذلك بفرض جزاءات وتدابير موضوعية متفاوتة الشدة على أي منتهكٍ لها، وذلك للحيلولة دون زوالها.
وفي إطار تناولي لمفهوم المجتمع المُحافِظ، بتطبيق الشروط الخمسة أعلاه على المجتمعات العربية ومنها المجتمع الليبي، فإنني سأتجاوز الدولة بحديثي إلى الحديث عن المجتمع، لأن المجتمع في مجموعه لا يحافظ على الماديات بل على المعنويات، والمعنويات هي تلك الأشياء غير القابلة للتجسيم، كالأفكار، والعادات والتقاليد، والدين، والفضائل والقيم، من غير التي يحميها القانون بالعقاب.
نحن هنا أمام مالك يستأثر بما يملكه هو المجتمع، وهو مجموع الأفراد الممتدين ـ من جيلٍ إلى جيل ـ في الزمان والمكان ضمن جغرافيا محصورة، وأمام شيء “معنوي” مُتَمَلَك هو منظومة العادات والتقاليد والفضائل والدين .. الخ، وهذا المُتَمَلَك “ماضوي” متوارث، أي قديم وينتمي لماضٍ بعيد جداً عن الوقت الحاضر، وهو ـ أي المجتمع ـ يواجِه بالوقت الحاضر مقاومة ورغبة ملحة في التغيير، من جيل الشباب والنخب المثقفة من الرجال والنساء، تُمليها سيرورة الحياة وتطور الأجيال وغزو التكنولوجيا، الذي جاء لتلك المجتمعات بأساليب للعيش والتعامل، وبنمط من التفكير وبتطلعات لم تعهدها هذه المجتمعات من قبل، كمروق النساء على مؤسسة الحجاب مثلاً، أو تصدرهن للمشهد العام ومزاحمة الرجال على السياسة، أو كتابات جريئة لبعض الشباب في الدين والجنس، أو مطالب نسائية بالمساواة مع الرجل على أساس المواطنة، أو المطالبة بإعادة قراءة الدين وأحكامه من البعض الآخر … الخ، وهو، أي المجتمع يُجابِه ذلك بـ “سلطة معنوية”، هي الرقابة المجتمعية، والإزدراء، والعزل الإجتماعي أو التلويح به، والتشنيع على المختلِف، والتشبث بثقافة الحرام والعيب وغير المسموح به والمرفوض بوجه كل متمرد، وقد تسلك السلطة المعنوية أحياناً سلوكاً مادياً يستطيل إلى جسد المارق عليها، كالتكفير وما يترتب عليه من هدر للدم أو الممتلكات، والتخوين كنزع الوطنية أو الأخلاق عنه، والعنف الجسدي واللفظي ضده، واستحلال التحرش الجنسي وتسويغه، كما يحدث بحق النساء اللاتي يتمردن على مؤسسة الحجاب، أو يخترقن فضاءات جرى احتكارها من الرجال، كمداومة التظاهر والاعتصام بالميادين العامة، أو ارتياد نوادي الرياضة أو التريض بالطرقات العامة.
وأنا حين أتحدث عن مفهوم المُحَافَظة في مجتمعاتنا، إنما أعني ما تقصده هي عن نفسها، بأنها مجتمعات تتمسك بأهداب الدين والفضيلة، تدرأ عن نفسها المفاسد الأخلاقية، وترفض المُنكرات وتُدينها، ودائماً ما تكون المرأة بالذات هي المقصودة بهذه المُحَافَظة، وذلك من خلال تحديد الأدوار بصرامة بينها وبين الرجل على أساس الوظيفة البيولوجية، فتُقصِر تربية النّشْءِ والاعتناء بالبيت والأسرة عليها، وتُسنِد الوظائف المأجورة له هو، وتُسند له وفقاً لذلك تبعات اتخاذ القرار بالبيت وخارجه، فيكون هو قيّماً ومراقِباً وموجِهاً وفاعلاً، وتكون هي متلقيّة ومراقَبة ومنفعلة ومكرَّسة للبيت والأطفال والمهن المتعلقة بهما.
غير أن واقع الحال الذي تُثبته التقارير الدولية، وشهادات المتخصصين، وأرقام ضحايا تلك المجتمعات من الأطفال، تُثبت لنا أننا لسنا إلا أمام أكذوبة هشة وغير متماسكة، من إدعاء الفضيلة والتدين، وأن المُحافَظة المزعومة، لا تعدو أن تكون هي المُحَافَظة على التخلف وإجادة التصنع وتكلف الأخلاق لا غير.
إن واقع المجتمع المصري على سبيل المثال، كونه مجتمعاً محافظاً في عمومه، تلتزم فيه معظم النساء بالحجاب والاحتشام في استعمال الفضاء العام، ويتغشّاه الطابع الريفي المنضبط، لم يحُل دون أن تكون مصر، هى البلد الأكثر خطورة على المرأة، عنها في أي مكان عربي آخر، وهذا بموجب تقارير لخبراء في شؤون النوع الإنساني ( الجندر ) بوكالة رويترز، انتهى إلى خلاصات مرعبة عن وضع المرأة هناك، حيث تحدث التقرير عن اغتصاب علني لـ 91 امرأة، وذيوع التحرش الجنسي عموماً في صفوف جميع فئات النساء اللاتي استعملن الميادين العامة أسوة بالرجال أثناء الإنتفاضات التي شهدتها مصر مؤخراً، وأن التحرش الجنسي بالمرأة زاد لحد مخيف جداً هناك وللتثبت من المصدر انقر هنا للاطلاع http://www.reuters.com/article/2013/11/12/us-arab-women-idUSBRE9AB00820131112
وواقع المجتمعات العربية والإسلامية بالذات، الشديدة المحافظة على القيم والتدين، لم يحُل دون أن تتدحرج تلك المجتمعات بالذات إلى الفساد المالي والإداري، والتربح غير المشروع والرشوة على نحو فاحش. بل إن دولاً عربية، لا تترد في التمسك بالشريعة الإسلامية أسلوباً للحكم والتشريع كالسعودية، تجوب فيها الشرطة الدينية الشوارع، لتصيُّد أي مخالف للدين أو الآداب من الجنسين، تُحصي على الناس أنفاسم وخطواتهم، تنتشر فيها المساجد بالآلاف، تُسمع فيها الخطب الدينية كل يوم تقريباً، تغص بالدعاة والوعاظ، جاء بلد كهذا بالذات في مرتبة محرجة جداً في ذيوع الفساد المالي، على كل مستوياته الإدارية والخدمية، بالنسبة لدول أخرى لا ترفع شعارات الفضيلة والخصوصية الدينية، مثل السويد والدنمارك ونيوزيلند، وللتثبت من المصدر الرجاء النقر هنا، بكتابة اسم أي بلد عربي مسلم ومنها السعودية بالذات، وأي بلد غربي آخر للمقارنة، مع ذكر السنة المطلوب معرفة سلوك تلك الدول المالي فيها http://www.transparency.org/ (
أما بلد كاليمن، معروف بقبليته وتشدده، تقتصد فيه المرأة من استعمال الفضاء العام، وتتضاءل حصتها إلى الحدود الدنيا في الحياة السياسية، من المتعذر جداً ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن تُرى سافرة في الطريق أو متحررة المظهر، هي البلد الأشرس على الطفلات بالذات، حيث تموت العديد منهن سنوياً بسبب الزواج المبكر، وللتثبت من المصدر انقر هنا لمطالعة تقرير منظمة الهيومن رايتس ووتش بالإنجليزية http://www.hrw.org/news/2013/09/10/yemen-end-child-marriage وانقر هنا أيضاً لمتابعة لقاء متلفز مع شخصيات يمنية مسؤولة، للحديث عن حجم العنف ضد المرأة اليمنية، حيث تُقتل النساء لأسباب تافهة كاستعمال الهواتف المحمولة، أو لقاء الخطيب بعيداً عن مؤسسة الأسرة، وهي بلد يرفل في التخلف والجريمة والفساد والتطرف الديني http://www.youtube.com/watch?v=PrOchSr6K5I
وفي ليبيا، البلد الذي يُفاخر دائماً بأنه بلد مُحافظ، بلد المليون حامل لكتاب الله، البلد المسلم بنسبة 100%، الذي يتغنى بانسجام مكوناته القبلية والإثنية بسبب المصاهرة والجوار التاريخي، فإن ما أفرزته انتفاضة 17 فبراير على حكم القذافي، جاء بالكثير جداً مما يكذّب هذا الادعاء ويفضح زيفه، فقد كشفت الكثير من الوقائع التي ضبطتها منظمات حقوقية داخلية ودولية، عن تجاوزات فظيعة وغير مسبوقة في مجال حقوق الإنسان والاعتداء على النساء، وفي إنهيار منظومة القيم والأخلاق لدى الليبيين، وفي التحرش الجنسي ضد المرأة، حتى أن مريضةً شابة، ترقد في غيبوبة بمركز طرابلس الطبي، لم تسلم من التحرش الجنسي بها من أحد أعضاء الأمن بالمستشفى، هذا إن لم يصل الأمر لحد الاغتصاب أو الشروع فيه.
وفي العراق، البلد الذي نُعده جميعنا مهداً لمعظم الحضارات بالمنطقة والعالم عبر التاريخ، والمعروف بتنوعاته الفكرية والدينية والثقافية واللسانية والإثنية، والذي يُفاخر أهله بأنه المتفضل حتى على حضارة أثينا بالفكر والفلسفة، قامت فيه دولة العباسيين بكل ما يحمله عصرها الذهبي من منجزات، فإنه لم يُفلح في خلق حالة تعدد، تقبل بوجود تسامح بين الشيعة والسنة، الأكراد والعرب، المسيحيين والمسلمين، إذ لم يُنتج العراق الآن غير امتهان النساء، والاحتقان الطائفي، والاقتتال الأهلي، والإرهاب، والفساد غير المسبوق، وبيع الذمم، والدموية في أبشع صورها.
أما حكاية الطفلة ملالة يوسف زاي، التي تعرّضت لإطلاق نار متعمد على رأسها في الباكستان، بسبب تحريضها للفتيات على التعلم والذهاب للمدرسة، فهي أبلغ ما يمكن أن تُدلل عليه هذه المجتمعات التي ترفل في الادعاء والزيف ووهم المُحَافَظة المزعوم.