(4) الإسلام السياسي
تقديم:
يُطلق أكاديميون وساسة وإعلاميون عرب مصطلح الإسلام السياسي، على حركات أصولية تسعى لإقامة دولة إسلامية، تُستمد نُظمها الإجتماعية والإقتصادية والقضائية والعسكرية من أحكام الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد ومطلق، حين ظهر أن هدف معظم هذه الحركات الأصولية هو حكم العالم وإقامة نظام إسلامي عالمي، لا يعترف بالحدود ولا بالخصوصيات الهوياتية لأي قومية ولا بخلفيات أي بلد تحل به، إستناداً إلى كون الإسلام هو دين عالمي نزل لهداية جميع البشر، وهو بالتالي صالح لإدارة شؤونهم أينما كانوا وكيفما كانوا.
إن محاولات إستيلاء الإسلاميين على السلطة في بلدانهم وإقامة دولة إسلامية عالمية، ليست جديدة ولا عفوية، إنها نتاج مخطط بعيد وطويل النفس ما إن ينقطع حتى يستأنف نفسه من جديد، إن لم يكن بالمحاججة فبالقتال (الجهاد)، تُنفق لأجله الأموال وتُبذل دونه الأرواح، ويكفر بسببه المخالفون بل ويقتلون ويصفون إجتماعياً وإقتصادياً.
الإسلام السياسي هو حصيلة عمل دؤوب لمفكرين إسلاميين قُدامى، أمثال الإمام أحمد ابن حنبل والإمام ابن تيميّة والشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومتأخرين أمثال أبي الأعلى المودودي بالهند وسيد قطب وحسن البنا بمصر.
وتستهدف هذه المقالة النفاذ إلى قلب مفهوم الإسلام السياسي، ومحاولة الولوج إلى فكره المتطرف، بقدر ما تتيحه معارفي الخاصة وحصيلة قراءاتي المتواضعة له، والذي أنفقتُ فيه سنوات طويلة انتهى بكتابة رواية كاملة عنهم هي رواية فرسان السُعال.
تحليل فكر الإسلام السياسي
أولاً مفهوم الديموقراطية الذي يقدمه الإسلام السياسي:
يصر كثيرون من منظرّي هذا التيار والمنخرطين فيه بالفعل، أنهم إنما يمارسون الديموقراطية الحقيقية، بل وأن الإسلام إنما أقرّ فكرة الديموقراطية قبل أن يقرها الغرب العلماني، مُستندين على مبدأ الشورى الذي يشهرونه دائماً في وجه من يكذّب إدعائهم، والحقيقة أنه لا مكان لأي ديموقراطية لدى أصحاب هذا الفكر ولن تكون يوماً وذلك للأسباب الآتية:
1- أصحاب هذا الفكر يؤمنون بطاعة ولي الأمر إذ يأخذون بالحديث النبوي: “وأطيعوا ولو وليَّ عليكم عبدٌ أسود كأن رأسه زبيبة”، وكذلك: “من كرِه من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً
مات ميتة جاهلية” أما الحديث الآخر الأكثر جلاءً في منع الخروج على ولي الأمر بل وفي منافسته على الحكم فهو: “من خرج يدعو إلى نفسه أو إلى غيره وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فاقتلوه”، لِما يقولون أن فيه حقنٌ للدماء وتسكينٌ للدهماء وعدم تفريقٌ بين الراعي والرعية، ولهذا يأخذ بعض هؤلاء صراحة بما يعرف في فقه الإسلام السياسي باسم إمارة المُتَغلّب، والأمير المُتَغلّب هو الأمير الذي يصل للسلطة أثناء وجود فراغ أوصراع سياسي، فيملك زمام السلطة في يده حتى يصير راسخاً في مركزه، على أن يكون رجلاً وأن يكون مسلماً وأن يطبق الشريعة، ولو لم ينعقد له إجماع أو تنبسط له يد الرعية بالقبول، فهذا عندهم يجب الخضوع له بالطاعة بحكم الغلبة والقوة والرسوخ في الموقع، وأغلب الظن عندي أن فتوى مفتي الديار الليبية الصادق الغرياني الأخيرة، التي قال فيها بحرمة الخروج على المؤتمر الوطني (البرلمان) وتحريم أعمال الجيش الليبي ضد المتطرفين هناك، حد أن قال أن قتلى الجيش الوطني هم في جهنم، وأن من يحاربه سيدخل الجنة، هي من باب أخذه بإمارة المُتَغلّب المذكورة، فكل متتبع للشأن الليبي لابد سيرى حجم الخروقات ضد الشرعية والسيادة الوطنية، وضد أرزاق وأرواح الليبيين التي يقوم بها الإخوان المسلمون وأنصار الجماعة الليبية المقاتلة داخل المؤتمر نفسه، وإصرار هذا المؤتمر على البقاء على قلوب الليبيين بالمليشيات والقوة والترهيب، وهي هي ذاتها القبول بإمارة المُتَغلّب السابق (معمر القذافي)، حين كان في سُدة الحكم وحين وافقه مفتي الديار المذكور ودخل معه لا في مناصحات بل في مراجعات لفكر الجماعة الليبية المقاتلة، حين خاطبه كولي أمر لا يجوز الخروج عليه، إذ هكذا أعلنوا جميعهم يومها، أن القذافي ولي أمر الليبيين يجب طاعته، ولو جلد ظهورهم وسلب أرزاقهم وأزهق أرواحهم، وأكاد أرى بعين قلبي لو أن الجيش الوطني الليبي تمكّن من القضاء على المتطرفين، وأوقف عمل المؤتمر الوطني، فسيبايعه مفتي الديار الليبية ولياً آخر للأمر، يحرُم الخروج عليه ليعتبر المعترض عليه مستوجباً للإثم.
إنها اللعبة التي يُجيدها أنصار الإسلام السياسي ببراعة، البقاء دائماً على قدر خطوات من السلاطين والحكام، كل من يأتي منهم مستوجب للطاعة والمبايعة والولاء ولو عاث فساداً وتقتيلاً في البلاد كما فعل القذافي من قبل، وكما فعل من بعده الإسلاميون بالمؤتمر الوطني، وكما فعل أي دكتاتور مستبد آخر بتونس أو بالعراق أو بمصر، المهم أن يظلون يراوحون حوله ويتمسحون به يؤيدونه، حتى إذا انفض الناس من حوله، تحولوا لمن يأتي بعده هكذا حتى يصلون هم إلى السلطة أو يجاورونها على الأقل.
2- إن مفهوم الشورى الذي يتعلق به أصحاب هذا التوجه، كدلالة على أنه يحمل مقاربة للديموقراطية الحديثة، ما هي إلا كذبة يجب أن تتوقف تماماً اليوم، فليس في الفكر الإسلامي كله بما فيه
السياسي منه ديموقراطية بمعناها المتعارف عليه، فالشورى لا تعني الديموقراطية بل تعني النصح وتقليب الآراء بمسألة معينة والأخذ بالأرجح منها، لذا فالشورى في تاريخ الإسلام كله لم ترتهن يوماً لمتطلبات الديموقراطية، التي هي إما الأخذ برأي الأغلبية وإما بالتوافق بين المتحاورين بلا مغالبة، ويمكنني أن أسوق هنا بعض الأمثلة من تاريخ دولة الإسلام، وأول مثل يصادفني هنا هو ما تعلق بردة كثير من القبائل عن الإسلام وعن دفع الزكاة فور وفاة الرسول الكريم، وحين أراد الخليفة أبو بكر مقاتلتهم حتى يعودوا للإسلام أو لدفع الزكاة، عارض كل الصحابة موقف أبو بكر بما فيهم عمر ابن الخطاب المعروف بشدته في الحق، فخالف أبو بكر رأي جميع الصحابة وأخذ برأيه هو وحده، ولم يلتفت لمسألة الشورى برمتها، أما عمر نفسه فقد جمع حوله عشرة من كبار الصحابة ليشاورهم في أمر خروجه بنفسه على رأس جيش لمحاربة الروم، فكان تسعة منهم قد وافقوه على الخروج، في حين أنفرد عبد الرحمن بن عوف برأي مخالف للبقية، وما فعله عمر أنه أخذ برأي بن عوف الذي يشكل رقماً مهملاً في مفهوم الأغلبية برمته.
يمكنني أن أضيف هنا، أن الفكر الإسلامي عموماً بما فيه السياسي لا يعرف لا مفهوم الأغلبية ولا مفهوم التوافق أيضاً، فمفهوم الأغلبية كمفهوم الأقلية هي مفاهيم سياسية حديثة وليست مفاهيم دينية بالمطلق، لإن الله نفسه سبحانه يغلّب الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذنه هو وبتدخله هو، إنه يتدخل سبحانه في هذا تدخلاً مبرماً، والآية الكريمة بسورة البقرة وغيرها تدلل على ذلك لقوله تعالى (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ)، ثم إنه في الطرح السياسي المعاصر يجوز لأيٍ كان أن يترك الأغلبية ويدخل في الأقلية، بل قد تتغير الظروف السياسية يوماً فتصير الأغلبية هي الأقلية والعكس صحيح، والفكر الإسلامي كله لا طاقة له بملاحقة هذا لإنه فكر جامد مهما تكلف المرونة أو ادعاها.
3- القول بوجود ديموقراطية يستدعي بالضرورة وجود معارضة، وليس في الإسلام السياسي أي معارضة إذ يؤمن منظرّو هذا الفكر بأنهم وحدهم الفرقة الناجية، فهم يؤمنون بالحديث الشريف الذي يكلمنا عن أن أمة الإسلام ستفترق في آخر عهدها إلى ثلاثٍ وسبعين شُعبة وأن شُعبةً واحدةً فقط هي التي ستدخل الجنة والبقية ستهلك في النار، ولطالما قدّم هؤلاء أنفسهم كوكلاء حصريون عن الله وأمناء موكّلون بأمر الأمة، فهم لا يمكنهم أن يتقبلوا أي معارضٍ لهم، إنهم ببساطة سيجيرون المسألة كلها نحوهم لكونهم الفرقة الناجية وحدها، ولا أخالني أبالغ إن قلت أن هذا هو ما يفعلونه اليوم على أرض الواقع، إنهم يقاتلون شعوبهم المسلمة لإنهم يرونها على ضلال مبين، يرون أنها شعوب منحرفة عن الإسلام ومبتدعة، وهم بهذا يستعملون التكفير كسلاح إيديولوجي وسياسي جاوز تماماً تكفير المثقفين والليبراليين والمصلحين، إلى تكفير شعوب بأكلملها وتكفير جيوشها وقضاتها وموظفيها وكل من
يتقاضى راتباً من الدولة، ولعلنا لم ننسَ بعد أن هذا هو ما حدث في الجزائر إبان العشرية السوداء، حين كفرّ الإسلاميون هناك الجزائريون قاطبةً بإستثناء من إلتحق بهم هم فقط، أما في ليبيا، فإن خطاب التكفير العلني الذي أعلنه محمد الزهاوي زعيم أنصار الشريعة في بنغازي منذ أسابيع خلت، قد أيقظ كثيراً من الليبيين على هول ما ينتظرهم، فقد صرّح الرجل بأن الجيش الوطني كافر ومرتد عن الملة، ورمى كل من يقف معه بالكفر والضلال، مع ما يستتبع ذلك من ذبح واستعانة بغير الليبي ممن أسماهم الزهاوي بالموحدين، وكأني بالليبين شعب مشرك بالله يطوف حول الأوثان أو يعبد إلهاً آخر من دون الله.
4- الديموقراطية تقتضي الشفافية، وتتطلب وضوح البرنامج السياسي المقدم للحكم والثبات عليه وعدم تغييره، لئلا يخالف المترشح إرادة الناخبين الذين صوتوا له على أساس ذلك البرنامج، ولئلا يصل بأصواتهم لبرنامج آخر غير الذي بايعوه عليه بالذات، لكن ما رأيته ورآه غيري، أن التقيّة لا الشفافيّة هي التي يستعملها أصحاب الإسلام السياسي، وذلك بإظهار برنامج وإخفاء آخر مختلف، ويكفي أن نعود بالذاكرة قليلاً لفترة الإنتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها كلاً من مصر وتونس وليبيا بعد ما يسمى بالربيع العربي، فقد قدّم الإخوان المسلمون في الدول الثلاث برنامجاً يزعم مراعاته للهوية الوطنية الجامعة للبلاد، وباحترامهم للقوانين والشرعية السابقة على وجودهم كما بتونس ومصر بالذات، وما إن وصل هؤلاء للبرلمان وللحكومة حتى بدأ الوجه الحقيقي يظهر بجلاء، فقد تعمّد مترشحون ليبيون تقديم أنفسهم كمستقلين عن أي حزب أو توجه مؤطر، وما إن وصلوا للسلطة حتى أظهروا إيديولوجيا إخوانية شديدة التطرف، وحدث ما يشبه هذا بتونس حين زعم أنصار الإخوان هناك، مراعاتهم للمكتسبات التي حققتها المرأة التونسية ولمدونات تشريعية تحفظ الكثير من الحقوق، فإذا بهم ينقلبون على برامجهم ما أجج عليهم الشارع التونسي، وضيق عليهم حتى ألزمهم الإعتذار وأجبرهم على الإنحناء أمام مطالب النخب والاستدارة قرابة 180 درجة في مقارباتهم لمفهوم حقوق المرأة حد أن يزعم راشد الغنوشي، بأن منع تعدد الزوجات هو اجتهاد من علماء جامعة الزيتونة، بل وأفاض في الحديث عن العُري على الشواطئ وشرب الخمور في الفنادق السياحية هناك، وقال بعدم منعها طالما كانت في نطاق السياحة وبالفنادق، ولعلنا لم ننسَ بعد تصريحات الإخوان المسلمون بمصر الذين ادعوا سعيهم للديموقراطية، فإذا بالرئيس المنتخب محمد مرسي يصدر إعلانات دستورية تحصّن قراراته من الطعن والإلغاء، ولولا وعي النخب المصرية وسعيها لحمله على التراجع عن تأليه نفسه وتحصين كل ما يصدر عنه لما عدل عن ذلك.
ثانياً مفهوم الجهاد الذي يقدمه الإسلام السياسي:
لطالما أعلن منظرو هذا الفكر أن جهادهم إنما هو ضد دولة إسرائيل، وضد الغرب الذي تدخل في العراق وأفغانستان، وقطعاً هو لرفع الظلم عن المسلمين في الشيشان وكشمير، لكن هذا الزعم غير صحيح للأسباب الآتية:
1- إن واقع أفعال الإسلام السياسي يكذّب ذلك بالمطلق، فأفعالهم لطالما وقعت في بلدان مسلمة بالأساس كليبيا ومصر وتونس والعراق والجزائر واليمن وأفغانستان والباكستان … الخ، بل إن أفعال هؤلاء تعد موجهةً بالذات ضد مسلمين، سواء من نفس الطائفة وهم السنة أو ضد الشيعة، وأعلام بارزة مثل الزرقاوي بالعراق والزهاوي مؤخراً بليبيا وأيمن الظواهري وأبو بكر البغداد وغيرهم كثير، تعد أفعالهم موجهةً بالخصوص ضد أبناء دولهم لا ضد الإسرائيليين أو ضد الغرب، ذلك أنهم يعتقدون بكفر شعوبهم ووجوب عودتها لحظيرة الإسلام.
2- بزعمي أن الجهاد الذي يؤمن به الإسلام السياسي، إنما ينصرف لآداء الفرض (كالصلاة والصوم والحج) الذي لا ينقطع ولا يتوقف ولا يخبو، ذلك الفرض الأزلي والمستمر ضد من لا ينضوي تحتهم بالذات ولو كان مسلماً، إنه باختصار الغزو الذي تُحدثهم أنفسهم به ليل نهار لئلا يموتوا ميتة جاهلية، إستناداً إلى الحديث النبوي: “من مات ولم يغزُ أو لم يحدث نفسه بالجهاد مات على شعبة من نفاق” وبرواية أخرى: “مات ميتة الجاهلية”، إنه الغزو الذي بدأ منذ 1400 عام تقريباً، حين بدأته جيوش خرجت من شبه الجزيرة العربية لم تكن يوماً في حالة دفاع عن النفس، بل في حالة غزو لغيرها لنشر الإسلام تارة بالدعوة وتارة بالسيف، إنه الغزو الذي يأتيهم بالمال والأراضي والنساء الجميلات، حين يكون رزقهم تحت ظلال سيوفهم (البنادق الآن) كما جاء بالحديث النبوي الذي يتمسكون به والقائل: “بُعثتُ بين يدي الساعة وجُعِل رزقي في ظل رمحي وجُعِل الذل والصغار على من خالفني ومن تشبّه بقوم فهو منهم” الذي رواه أكثر من واحد منهم البخاري، وهؤلاء كل ما يفعلونه الآن هو استئناف الغزو المقصود وفق الحديث المذكور حين توقف بسقوط الدولة العثمانية فقط.
مرجعية فكر الإسلام السياسي:
أولاً: فقه الجهاد الذي يُدرّس في الجامعات الإسلامية كالسعودية وجامعة الأزهر وجامعات لاهور والباكستان وأفغانستان، هو الذي يغذي فكرياً هذا التيار الأصولي الساعي للسلطة اليوم، وعلى رأس الكتب التي تحظى بموافقة وإستحسان علماء الأزهر، يأتي كتاب مهم في الفقه الحنبلي يعلّمه الأزهريون لطلبة العلم الشرعي على مدعى عقود طويلة، إنه كتاب “روض المربع بشرح زاد المستنقع” الذي ينتهي إلى أن الجهاد هو المبالغة في قتل العدو وهو أفضل ما يتطوع به المسلم الحقيقي، وأن قتال غير المسلمين هو واجب على كل مسلم صحيح قادر، ويستدلون معه بكثير من أقوال أئمة المذهب الحنبلي كابن تيمية وأقوال فقهاء وهابيون، كما
يسترشدون بآيات كثيرة من القرآن الكريم لعل أهمها لديهم جميعاً هي الآية 4 من سورة الممتحنة (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ..) فالأسوة الحسنة في فكر هؤلاء هي العداوة والبغضاء، التي يجب أن يُكنها أحدهم لأهله قبل أن يُكنها للكافر، تأسياً بما يقولون أنه سُنة إبراهيم أبو الأنبياء التي استنها لمن تبعه من الأنبياء، هذا الفكر هو بالذات ما دفع رئيس دولة طاجكستان إمام علي رحمان إلى سحب تلاميذ طاجيك بالمئات من جامعة الأزهر سنة 2010، لإنهم كما يقول يغادرون طاجكستان متسامحون معتدلون ليعودون إليها قتلة وإرهابيون.
ثانياً: توصيات مؤتمر لاهور التي أصدرتها رابطة العالم الإسلامي على مرتين، الأولى سنة 1956 التي انتهت إلى ضرورة تجريف منطقة الشرق الأوسط من غير المسلمين، والثانية سنة 1981 (إن لم تخني الذاكرة) التي قررت أنه يجب أن لا تحل سنة 2000 إلا ومصر خالية من الأقباط، ومنشأ هذه التوصيات بالذات، الرغبة في تخلية المنطقة من أي عنصر يحول دون إرساء إمارة إسلامية خالصة، فوجود ملل أخرى كالأقباط والسريان والأرمن والصابئة والمعمدانيين واليهود سيعطل من هذا الأمر إن لم يمنعه، فوجودهم سيلح في فكرة وجودة دولة مدنية ديموقراطية حديثة تتسع للكل.
خاتمة
بآخر هذه المقالة التي أتمنى ألا تكون قد أرهقت القارئ الكريم، أرغب بتسجيل ملاحظات شخصية لي، لا تُحتسب على فكر الإسلام السياسي الذي أجهدت نفسي في دارسته لسنين:
1- إن الإسلام السياسي لم يغادرنا مذ جاء النبي برسالته للبشرية، وقد حكمنا هذا النوع من الإسلام طوال فترة وجود عمر بن العاص فينا، ثم تلاه ولاة الدولة الأموية، فالعباسية، فالخلافة العثمانية، ولم ينقطع عنا لحظة واحدة باستثناء فترة دخول الإستعمار الغربي لبلداننا، ليستأنف نفسه من جديد من خلال حكام مؤمنين آخرين كمعمر القذافي وصدام حسين وأنور السادات، لقد حكمنا هذا الإسلام قرابة 1400 سنة ونيّف، لم تحظَ خلاله بلداننا بأي أمن أو كرامة، فلم نحصّل به أي علوم أو معارف ولم نخترع به شيئاً، ولم نرتقِ به بمجتمعاتنا وبمواطننا المقهور، حتى فوجئنا ذات يوم بالإستعمار الغربي يدخل علينا بأسلحة ودبابات ومخترعات لا قِبل لنا بها، ومعظم دولنا نالت استقلالها إما بسبب منظمة علمانية غير مسلمة هي منظمة الأمم المتحدة (كما حدث في الحالة الليبية) أو بسبب أفكار تحررية لنخب غربية، اخترقت تلك الدول الإستعمارية نفسها، فظهرت تنادي بحق شعوبنا في الحرية والكرامة، وبضرورة إستقلالنا عنهم حتى نبني دولاً كدولهم.
2- إن دولة الخلافة العثمانية، التي حكمتنا قرابة الـ 600 سنة والتي يحلم بها البعض الآن، قد جاءت لشعوب مسلمة موحدة بالله تعرف دينها ونبيها وقرآنها حق المعرفة، فقد جاءت لنهبنا وسرقتنا وهتك أعراضنا، ويمكن لأي زائر لإسطنبول أن يرى متاحف توب كاباي وأكسراي التي تعرض مقتنيات النبي وصحابته، حين سرقها أولئك الهمج ولم يستأذنوا أهل نجد فيها، كما سرقوا تماماً مِسلات أثرية مصرية عمرها 4000 سنة وعرضوها بقلب حي السلطان أحمد باسطنبول حين لم يستأذنوا أهلها من المصريين، فعلوا تماماً كما فعل الفرنسيين والطليان والإنجليز حين سرقونا وهتكوا أعراضنا، الأول كانت حجته الفتح والثاني كانت حجته نشر المدنية.
3- إن الإسلام السياسي لم يشهد تداولاً سلمياً على السلطة ولو مرة واحدة، ولم يحفظ لشعبه ومعتنقيه الأمان والكرامة يوماً، بل لم يحفظ حتى للخلفاء الراشدين أمنهم وكرامتهم حين قُتِل ثلاثة منهم من أصل أربعة على يد مسلمين، وحين لم يترك أي واحد منهم ولا من أتى بعدهم السلطة طواعيةً، بل تركها بفعل السم أو بتسلل خنجر لمخدعه أو بفعل انقلاب أحد أبنائه أو إخوته عليه، وهكذا فقد خاض بنا سيرة تيه تخبطنا فيها أكثر حتى من سيرة التيه المكتوبة على اليهود في التوارة، دون أن نحقق أي تقدم يذكر، فحدث أن تقدم اليهود وتراجعنا نحن بسببه.
4- أخيراً، إن المشروع الذي يقدمه لنا الإسلام السياسي اليوم، هو مشروع رباني لا يقدر على إجرائه إلا الواحد القهار سبحانه، فأن يعتنق العالم كله الإسلام وأن يصل الإسلام لأقاصي غابات الأمازون، وللكهوق الغائرة في جبال الأنديز، وأن يحل في بيوت الثلج التي يسكنها الإسكيمو في أقصى آلاسكا لعمري إنه المُحال بعينه، بل إنه برأيي مخالف لإرادته هو نفسه في التنوع والتعدد الذي ارتضاه سنةً لنا، هذا المشروع يستطيع الله أن يجريه بنفسه إن أراد، فهو يملك من الجيوش ما ينفذ أمره، إن لديه طيوراً أبابيل وريحاً صرصر وأياماً حسومات، ولديه ضفادع وحتى قمل، فللّه جنوده من الحشرات ومن الريح والمطر يسخرّها لإنفاذ مشيئته، فجنوده كمعجزاته لمّا تنقضي بعد حين أخبرنا بنزول دابة تكلمنا بآخر الزمان، كما أخبرنا بدخان يعم الكون حين تدنو الساعة، هذا البرنامج الرباني لا يطيق البشر تأديته ولن يصلوا به لأي نتيجة غير خراب أوطانهم وقتل شعوبهم واستجلاب عداء سائر الأمم عليهم وعلينا، لذا أنصح أي رجل أو امرأة يقرأ هذه المقالة أن يدعو لله دائماً بالموعظة الحسنة، وأن يتخلق بأحسن الأخلاق حتى يقنع غير المؤمن فيلحق بالإسلام، وأن يترك هذا الأمر برمته لله وحده، وأن يلتفت هو لبناء نفسه وتهذيبها والمشاركة في بناء مجتمعه لا في هدمه.
يتبع ….