لقد أولت المناهج الدراسية اللغة العربية وأدبها حصة وافرة، في مختلف مستويات التعليم، ابتداءً من رياض الأطفال والصفوف الأولى من الابتدائية، حيث يعد المعلمون الأناشيد المادة والوسيلة الأولى في التعليم وفي التربية أيضاً، فيقرؤون هذه الأناشيد أمام التلاميذ ويحفظونها لهم. وإذا كانت بعض هذه الأناشيد باللغة الفصيحة، فإن كثيراً منها باللغة الدارجة. وهو نشاط يقوم به المعلم خارج الكتاب المدرسي لجذب التلميذ إلى رحلة الدرس، وطرد الملل والخوف وغير ذلك مما يعانيه التلميذ في أيامه الأولى.
وعلى المستوى الرسمي، فإن كتب القراءة في المرحلة الابتدائية حافلة بالقصائد المناسبة لأعمار التلاميذ، والغالبية العظمى منها لشعراء العصر الحديث ولشعراء معاصرين ممن كتبوا للطفل. واختيار هذه القصائد في كتب القراءة في المرحلة الابتدائية، لا يخضع للمعايير الفنية بقدر ما يخضع بأمور تتعلق بفلسفة الحكومة في التربية، وأهداف التعليم في هذه المرحلة.
ولا تخلو كتب ( المطالعة والنصوص ) في المرحلة المتوسطة، من الخضوع لما أشرنا إليه، ولكنها تشير بشكل عام نحو عرض أنواع مختلفة من الأدب، شعراً ونثراً. والسمة الغالبة على الشعر في كتب المطالعة والنصوص للصفوف المتوسطة هي نماذج الشعر التقليدي العمودي، باستثناء خمسة قصائد في كتاب الأدب والنصوص للصف الثالث المتوسط، وهي لنازك الملائكة والسياب والبياتي ولميعة عباس عمارة وغازي القصيبي. والملاحظ أنهم من شعراء مرحلة الرواد . أي إن الطالب يتخرج من المرحلة المتوسطة ولم يطلع إلا على خمس قصائد من الشعر الحر، كلها تعود لمرحلة الرواد. وتحرم عقلية الطالب من تصور إنموذج واحد لقصيدة معاصرة لشاعر من الذين يكتبون في الجرائد والمجلات الشائعة، أو الذين تحتفي أمسيات فروع اتحاد الأدباء العراقيين بهم. إن اختلافاً ظاهراً واضحاً بين ما يقدمه الكتاب المدرسي للشعر وبين ما تقدمه الساحة الثقافية الشعرية المعاصرة من أسماء شعرية و قصائد قد تختلف اختلافاً كبيراً عما يتصوره التلميذ في القصيدة، أو لنقل ما يفترضه فيها.
أما في الإعدادية فيتخصص الصف الرابع والصف الخامس بدراسة الأدب القديم، ويعطى الطالب شيئاً من الأدب الحديث في الصف السادس الإعدادي، حيث يخصص أكثر من نصف كتاب الأدب للشعر ويعطى نماذج من شعر الرواد ومن شعراء الستينات. فضلاً عن قصائد الشعر التقليدي التي يمتلأ بها هذا القسم ابتداء من شعراء النهضة حتى ما بعد الشعر الحر.
إن قلة اهتمام المناهج الدراسية في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية بالشعر المعاصر، وكثرة اهتمامها بالنماذج القديمة والتقليدية من الشعر، تعكس ضعف اهتمام واضعي هذه المناهج بالشعر المعاصر، كما تعكس لا مبالاة المؤسسة التربوية والتعليمية تجاهه، وكذلك تعكس ضعف اهتمام معلمي هذه المواد ومدرسيها، ومن ثم تلامذتهم.
وقد تكون هذه الظاهرة التربوية معقولة بشكل ما، في هذه المراحل الدراسية المتقدمة، بل في مراحل الدراسة اللاحقة أحياناً، حينما تدرّس بعض أقسام الكليات مادة ( العربية لغير الاختصاص )، فيكون التركيز في الشعر على صورته القديمة والتقليدية، مع استبعاد الشعر المعاصر. قد تكون هذه الظاهرة مقبولة بشكل أو آخر، ولكن لا وجه من المعقولية، حينما نجد الظاهرة نفسها، وهي شائعة بفداحة في الأقسام المتخصصة باللغة العربية وآدابها، على مستوى الدراسة الأولية والعليا.
فقد وزعت أقسام اللغة العربية دراسة الأدب على المراحل الدراسية الأربع في كليات الآداب والتربية وفق العصور. إذ يدرّس الأدب القديم لطلبة المراحل الثلاث، ويخصص الأدب الحديث للمرحلة الرابعة. وإذا كان الشعر يشكل الجزء الأكبر في دراسة العصور الأدبية القديمة، فإن الشعر الحديث أخذ جزءً قد يكون متساوياً وأنواع أدبية أخرى كالمقالة والمسرحية والقصة، لذا فإن الغالب في دراسة الأدب الحديث أن الشعر يتوقف تدريسه عند مرحلة رواد الشعر الحر دون أن يتعداها، لاسيما في كليات التربية التي تخصص وقتاً من الفصل الدراسي الثاني في مقرر التطبيق.
وفي الدراسات العليا يوضع مقرر للشعر أو الأدب القديم، ولا يوضع للشعر المعاصر. وينعكس ذلك في موضوعات رسائل وأطاريح الدراسات العليا: فما بين سنة 2002 إلى 2005 نوقشت في جامعة الموصل ( 202 ) رسالة وأطروحة في قسم اللغة العربية في كليتي الآداب والتربية، كان ( 40 ) منها في الشعر القديم و ( 6 ) في الشعر الحديث و ( 3 ) فقط في الشعر المعاصر. وفي جامعة البصرة نوقشت ( 125 ) رسالة وأطروحة بين سنة 2003 وسنة 2007 ، كان ( 25 ) منها في الشعر القديم، و ( 11 ) في الشعر الحديث، و( 3 ) فقط في الشعر المعاصر.
من خلال هذا العرض السريع الموجز، يتبين أن الظاهرة الواضحة في درس الأدب في مختلف المستويات الدراسية، بما في ذلك المستويات المتخصصة، هي الاهتمام بالشعر القديم وضعف الاهتمام بالشعر المعاصر، ولا يفسر هذا الضعف إلا بضعف تلقي القائمين على هذه المقررات الدراسية للشعر المعاصر، مما جعل ذلك واحداً من أهم مظاهر ضعف تلقي الشعر المعاصر، وفي الوقت نفسه، كان ذلك سبباً مهماً فيه، لأهمية المقررات الدراسية والمناهج في تكوين المرجعية الشعرية للطالب، ومن ثم المجتمع.
[email protected]