لجوء الدبلوماسية إلى الهدوء، لا يعني الصمت على تجاوزات الآخرين، ولا ينفي امتلاك أوراق للضغط عليهم، لكنه يؤكد عدم وجود عداوات دائمة، بل هناك مصالح دائمة.
نكأ مؤتمر الشباب الذي افتتح في الإسماعيلية الثلاثاء جرحا عميقا، عندما تمت الإشارة إلى الدور السلبي الذي يلعبه الإعلام المصري على المستوى الداخلي. وإذا مددنا الخيط على استقامته ستكون النتيجة أشد خطورة على الصعيد الخارجي، ففي الوقت الذي نجحت فيه الدبلوماسية في عبور الكثير من الأزمات، ساهم البعض في تأجيج النيران مع دول مجاورة، لمصر علاقات ومصالح إستراتيجية معها.
كنت ضيفا في برنامج “نقطة الحوار” الذي تبثه محطة البي بي سي من لندن الأسبوع الماضي، ودار موضوع الحلقة عن العلاقات المصرية السودانية، وانصبت غالبية المداخلات الهاتفية من الإخوة السودانيين على الغضب الشديد من الانتقادات التي وجهها بعض العاملين في الإعلام المصري لبلدهم، والتي وصلت لحد البذاءة والإهانة.
وحاولتُ توضيح الصورة بأنها اجتهادات شخصية لا علاقة لها بموقف الدولة، بدليل عدم وجود تصريح رسمي ينتقد السودان، بينما هناك تصريحات سياسية وإعلامية رسمية تنتقد مصر.
الحجج التي استخدمتها للرد، وتعبر عن الواقع الفعلي، فشلت في إقناع الكثير من الأشقاء في السودان، وتشبثوا بأن الإعلام يهاجمهم بضراوة وألصق بهم تهما بالية، وكانوا على يقين من أن الاتهامات التي وُجّهت للحكومة والشعب تنطوي على رسالة رسمية، ولو جاءت من زملاء يعملون في قنوات مصرية خاصة، ولم يلتفتوا إلى الهدوء الذي تتسم به الدبلوماسية، وتجاهلوا أن القنوات السياسية والإعلامية الرسمية كانت حريصة على ضبط النفس، وتجاهل الهجوم الشرس الذي شنه بعض الكتاب في السودان.
لستُ بصدد القيام بدور المدافع أو الواعظ لزملائي والرقيب عليهم، لكن كلما التقيت صديقا عربيا كانت سلبيات بعض الإعلاميين محورا أساسيا في حديثنا، لأن بينهم من أساءوا لمصر، التي تستحق في نظر الكثيرين إعلاما نزيها.
أذكر أنني كتبت في جريدة الأهرام مقالا يوم 10 سبتمبر 2015 بعنوان “من مفكر مغربي للرئيس المصري”، حمل ملاحظات للمفكر المغربي سعيد بن سعيد العلوي على أداء الإعلام، لأن الرجل على يقين أن مصر لديها كفاءات تستطيع مواكبة التطورات والتعبير برصانة عن التوجهات العامة، بل تؤثر بقوة كما كانت في المحيط العربي.
المقارنة بين الدبلوماسية والإعلام، ظالمة للأولى التي تتحلى برصانة وعمق واضحين، فلنا أن نتخيل لو تعاملت الخارجية المصرية بخشونة، كما تتعامل روسيا مع الغرب أو العكس، مع الدول التي تهاجمنا ليلا ونهارا.
وما هي النتيجة المتوقعة إذا صدرت تصريحات رسمية ردا على الاتهامات التي وجهها الرئيس السوداني عمر حسن البشير وغيره من رموز نظامه وإعلامه؟
أعتقد أن الأزمة كانت سوف تتضخم ويصعب حلها، وفرص العودة إلى الشكل الطبيعي للعلاقات تصبح مستحيلة، ولن تتم الزيارة الناجحة التي قام بها وزير الخارجية سامح شكري للخرطوم الأسبوع الماضي وإجراء مشاورات سياسية من ثمارها توقيع برتوكول إعلامي يحترم فيه كل طرف الآخر.
عبور أزمة السودان لا يعني عدم تكرار الأخطاء السابقة، لأن البعض ممن يجدون تدليلا من هنا أو هناك لن يتوقفوا عن السب والردح، الذي يشعرك أحيانا أنه مطلوب في حد ذاته، ويوحي في جوهره بوجود أشخاص يريدون أن تظل الدولة المصرية “مرتبكة ومشوشة”، ولديهم قناعة بأن تماسكها يؤدي إلى أضرار بالغة على مصالحهم، لذلك هم ومن يقفون خلفهم حريصون على مواصلة صخبهم وعدم الاعتداد بالتحذيرات التي توجه إليهم.
لنا أن نتخيل حال هؤلاء الذين هاجموا المملكة العربية السعودية بضراوة، عندما مرت سحابة قاتمة الأشهر الماضية، فما هو موقفهم أمام الجمهور بعد أن عادت العلاقات؟ وما هو المصير المنتظر لو أن الدبلوماسية المصرية سايرت موجة الانتقادات التي وجهت للرياض؟
من حسن الحظ أن السياسة الخارجية ذكية وفطنة لطبيعة دورها، وتتصرف بطريقة تليق بها، وتملك رؤية لما تريده حاليا، ولا تنجرف وراء موجة التحريض السافر الذي يقوم به البعض، وتمكنت من ترميم ما جرى تخريبه بأيدي إعلاميين، يحسبهم كثيرون أنهم قريبون من النظام.
من المؤكد أنه توجد مساحة من النقد مقبولة لدى وسائل الإعلام لأي تصرفات خاطئة، داخلية أو خارجية، لأن الإعلام بحكم تكوينه يميل ناحية التركيز على السلبيات، لكن الذم والتجريح الشخصي والصعود إلى قمة الجبل ينطوي على خطورة بالغة، ويؤدي إلى نتائج كارثية، لأنه يضاعف من صعوبة المهام الدبلوماسية، التي لم تعدم التعامل بقسوة مع بعض الدول، عندما كانت هناك ضرورة لهذه المسألة.
ورأينا نماذج لذلك مع تركيا، لأن تجاوزات أنقرة رسميا بلغت حدا يصعب السكوت عليه، لكن في النهاية كانت الردود والانتقادات المصرية ملتزمة بالأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وانصبت على مواقف سياسية معينة ولم تتطرق إلى مكانة الشعب التركي، في حين انفلت لسان بعض الإعلاميين بسيل من السباب، كاد يفقد الدولة جزءا من رصيدها المعنوي.
لجوء الدبلوماسية إلى الهدوء، لا يعني الصمت على تجاوزات الآخرين، ولا ينفي امتلاك أوراق للضغط عليهم، لكنه يؤكد عدم وجود عداوات دائمة، بل هناك مصالح دائمة، كما أن طبيعة المرحلة تفرض تخفيف التوتر ورفض الانجرار وراء مهاترات من يريدون سحب مصر إلى معسكر طويل من الخلافات والتوترات الخارجية، تلقي بظلال سلبية على الكثير من التصورات الإيجابية.
بالتالي يظل ضبط النفس من الأدوات الرئيسية لتفويت الفرصة على من يسعون لإغراق الدولة في تفاصيل هامشية وتوسيع نطاق العداوات المجانية، في وقت مليء بالأزمات ولا تملك رفاهية تمكنها من الدخول في مشاحنات سياسية جديدة.
الآن نحن أمام مرحلة فارقة، تتطلب قدرا من التعقل والتمهل وتحمل المسؤولية، وإدراك أن الطبل والمزمار والنفاق لن يفيد الدولة المصرية، والشتائم والإهانات والفضائح تكبدها خسائر سياسية.
كما أن الجيل الحالي لم يعد يتقبل الإعلام التقليدي، ولديه قنوات بديلة على مواقع التواصل الاجتماعي يستطيع من خلالها التعبير عما يريده، بلا حسيب أو رقيب، وبطرق مشروعة وغير مشروعة، وقبل أن تنصرف البقية التي لا تزال تثق في بعضنا، علينا التحلي بدرجة عالية من الحنكة والحكمة ودقة المعلومات ليكون إعلام مصر مسايرا للتطلعات المستقبلية.
نقلا عن العرب