(الـتراجـيديا الكبرى ليست الاضطهاد والعـنف ، الـذي يـرتكبه الأشـْـرار، بل صـْـمت الأخيار على ذلك) .
السكوت كما هو متعارف عليه يأخذ مسارات شتى ، وطرائق متعددة ، ودروب مختلفة ، وتعريفات متنوعـّـة ، ففي بعض الأحيان قـد يكون مستحباً ، ومثاله السكوت عن انسان تافه أوعدم مجادلة الجاهل ، والأنتهازي ، والمغرور، وهنا يكون السكوت أبلغ تعبيراً في الأحتــــقار .
السكوت مقدس عندما يسكت الصامدون دفاعا عن مبدءٍ ، إيمانا منهم به ، ووفاءً منهم إليه ، وعن قيم ، وافكاربها يؤمنون ، وفي التأريخ امثلة كثيرة عن ابطال خالدين ، صعدوا المشانق يهتفون باسم مبادئهم ، وافكارهم التي بها يؤمنون ، قطعت أجـساد المناضلون الصامدون في سجون الطغاة ، وشفاههم لم تنبس بكلمـة واحدة ، حماية لأرواح رفاق لهم في المبدأ ، فخلــّد التأريخ اسماءهم باحرف من نور لتستـمر وتبقى تنير درب الشعوب ، والأجيال الصاعدة ، و( الجود بالنفس اسمى غاية الجود ) .
إن القوانين المدنية لاتعتبر السكوت عملا ايجابيا الا في بعض الحالات الأستثنائية ، والتي اعطته موقعـاً متميـّـزاً فيـه ، حيث تقول القاعدة القانونية : (لاينسب إلى ساكت قول ) ، ولكنهم قـالوا أيضـاً : ( السكوت في معرض الحاجة بيان ) ، أو( السكوت من علامات الرضا ) ، ومثالنا على ذلك ، ما هو متداول في أعـراف مجتمعاتنا العراقيـة والعربيـّـة ، وعند الزواج حيث اعتبر سكوت العروس (عـًرفـاً) دليل على موافقتها الأقتران بمن تقدم للزواج منها .
وكذلك من الناحية الصحية .. فقد اثبتت الأبحاث ان السكوت ، وعدم الكلام عن مايعانيه الإنسان ، يؤدي الى الأصابة بامراض خطيرة ، مثل الأكتئاب ، حيث أن كبت المشاعر يولـّـد التشاؤم ، والنظرة السوداوية للحياة ، والأنزواء ، والتطيـّـر، وبالتاي إلى الحزن الذي يؤدي الى التوتر ، والأصابة بأمراض مزمنة ، مثل ارتفاع ضغط الدم وامراض القلب ، وغيرها من امراض العصر .
ويعتبر السكوت احيانا تصرفا حكيما ، وذلك في حالة الغضب اذا كان البديل قولا سيئا ، فالسكوت هنا يكون لتجنب الأنزلاق فيما لا تحمد عقباه ، ويصبح السكوت منزلـقـاً خطيرا ونقمة تقود نحو منزلق مدمـّـر .. السكوت عن المعتدي ، وعدم ردعه ، وكبح جماح الشر داخله ، والتغاضي ، وعدم محاولة مساعدة المخطأ بالرجوع الى صوابه قبل استفحال المرض ليكون آفة خطيرة ، مدمرة تنعكس اثارها على المخطئ ، وتمتد احيانا لتخريب المجتمع بجميع مكـونـّاته ، ومن يغض الطرف عن الأخطاء الجسام ، التي تتجاوز الخطوط الحمراء ، والتي تكون اثارها السلبية عامة وتهرب من التدخل وآثر السكوت وهو في مستوى المسؤولية ، يكون قد ساهم ( حتماً ) في استفحال الأزمة ، لا بل يكون ركناً من اركان التخريب ، لذلك اما ان يكون جديرا بالمكان الذي يشغله ، او عليه التنحي ، واناطة
المسؤولية الى أيادي أَمينة قادرة قبل ان تتلقفها الأيادي التي ستقود المجموعة الى مصير مجهول ، والسكوت هنا رمح يصيب في مقتل .
وفي السكوت ينتعش الشر ، وتشتد شكيمته ، وطغيانه ، ويسود البطش ، والجور ، والتعسف ، والأستبداد ، والطغيان ، لذلك وُصف الساكت بالشيطان ‘ فقيل ( الساكت عن الحق شيطان اخرس ) ومن امن العقاب اساء الأدب .
الكثير منا يسكت عن قول الحق عندما يرى ان الحقيقة يجب ان تظهر ، بل لا يقوم بأي ردة فعل ، وكأنه أصيب بالصمم ، فيجف حبر قلمه تمسكا بالمثل الدارج : ( اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) ، او عاميا ( نارهم تاكل حطبهم ) ، ناسيا بذلك من ان السكوت رمزا للضعف ، والمذلة ، والنفاق ، حيث ان الأغلبية الصامتة (ومن خلال صمتها) ، قد اعطت الفرصة للتلاعب بالقوانين ، والأنظمة ، واستشـراء الفساد .
وتفشي الجهل ، وضياع الطبقة المسحوقة من الشعب ، وتهميش دور المثقف ، مما يخـلق حالة من اليأس ، والجبن ، والأنزواء ، ويصبح الصمت لـغـةً ، والسكوت موقفا .
كما أن الكلام يتحول إلى نقاشات تافهة ، ويقود إلى النقد الواهي الهدام ، والتجريح ، والأفتراء ، وخلـق الأكاذيب ، وبــث السموم المخجلة .. ليفـرز بالتالي صوراً مشوهـّـة من صور الرفض ، والأحتجاج ، وافرازات اخرى مثل الحزن ، والـبكاء ، والندب ، واللطم ، والعويـل .. الخ .
السكوت يصنع الأنتهازيه المقيتة ( الياخذ امي يصير عمي ) ، و باستطاعة الأنتهازي كما هو معروف ، تغيير جلده ، ولونه ، حسب المتطلبات والأهواء الجديدة ، ومحاولة اغتنام الفرص ، وتوظيفها لتحقيق مكاسب شخصية ، ونزوات نفسيـة ، على حـسـاب كل القيم والمبادئ الأخلاقية ، مجتهداً لتطويعها لمصلحتـه حسب الهدف المراد الوصول اليه ( الغاية تبرر الوسيلة )-
السكوت اداة هدم لكل المبادئ ، والقيم الأنسانية ، فلولا السكوت لما ولدت الدكتاتوريات التي تسرق الأوطان ، وتتوارثها ، بما فيها وتمعن في إذلال الشعوب ، التي تتمحور حول الخوف من الأنظمة المتسلطة ، التي تسلب الحريات ، والحقوق ، وتعيث في الأرض فسادا وقمعا وتجويعا وتقتيلا وتهميشا ، في كل المجالات الإجتماعية ، والإقتصادية ، والسياسية ، ومن خلال ذلك يتحول السكوت الى آفة مدمرة ، يصاحبه الخوف ، ويحيـطـه الرعب ، ويتوجـه الخنوع ، ويحتظنه الأستسلام ، وتتبناه اللامبالاة ، ليفسح المجال لهضم الحقوق ، وقتل الجرأة ، وعدم التعبير عن الغضب ، والأستياء والصمت في احرج واشد الظروف ، حتى لو قتل النظام المستبد الآف الناس ، على حساب موت القيم الأنسانية ، فتحل الكوارث التي تدمر الوطن ، بما فيه وما عليه ، وهنا يجترالساكت بصمت !!! اليأس والمرارة والذل والمهانة .
اما سكوت أصحـاب القـرار ، وصمت المثقفين ، فهو يعني بالتالي التنحي عن موقع القيادة ، واتخاذ القرار ، وابـداء الرأي ، فتسقط (دفة القيادة) بيد من لايصلح للقيادة أصلاً ، ليعيثون في الأرض فـساداً ، وتخريبا ، وتدميرا ، وهذا يعني أنهم ( اصحاب القرار والمثقفين ) شركاء مساهمين في التخريب ، والفرقة ، وتشجيع الأنقسامات المدمرة ، والتكتل المقيت ، وبصمتهم وسكوتهم هذا قد تحقق اغتيال الحاضر وقتل المستقبل .
الآن أَدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح