11 أبريل، 2024 5:51 م
Search
Close this search box.

 مغزى الحداثة : تكسير الأنساق واختراق البنى

Facebook
Twitter
LinkedIn

يبدو ، بادئ ذي بدء ، إن الحديث عن تأثيرات الحداثة وانعكاساتها في الوقت الحاضر ، يعد بمثابة ضرب من ضروب النكوص المعرفي والارتداد المنهجي والارتكاس الحضاري ، سيما وان تداعيات وانعكاسات ما بعدها (= ما بعد الحداثة) ، بالإضافة إلى ما تمخض عنها من اشتراطات اجتماعية والزامات قيمية ، قد طالت الذرى وبلغت الآفاق وشارفت على التخوم . بيد أن قليلا”من إنعام النظر وقدح زناد الفكر كفيل بإزالة هذا الانطباع السلبي ، وقمين بحملنا على التخلي عما قد يترتب عليه من تصورات مبتسرة . ذلك لأن حظ المجتمعات البشرية ليس متساويا”ولا حتى متقاربا”- ليس فقط بالنسبة لاستعدادها ماديا”وبنيويا”فحسب ، بل ونضوجها معنويا”ورمزيا”- حيال تقبل هذا الوافد الفكري الغريب والصادم ، الأمر الذي لا مناص من وقوع تفاوت في درجات إدراك معناها وتقبل مغزاها ، وحصول اختلاف في مستويات استيعاب فلسفتها واجتياف قيمها . ولذلك فلا تثريب علينا حين نؤجل الحديث عن إشكالات (ما بعد) الحداثة ، حيث لا زالت – بالنسبة لنا نحن العرب – مجرد أفكار جريئة ورؤى متطرفة ومنهجيات مقلقة ، استخلصنا معظمها عن طريق ترجمات أعلامها الغربيين أساسا”، ونركز من ثم على مدى توافق وعينا وتجاوب سلوكنا مع معايير الحداثة ، لسبب بسيط هو إننا لم نبلغ بعد مراحل الأولى لكي نتخطاها ، ولن نهضم لحد الآن خصائص الثانية لكي نتبناها . قد يبدو عنوان موضوعنا كما لو أنه يحاكي طروحات (ما بعد الحداثة) أقرب إلى كونه يتحدث عن مقومات (الحداثة) ، من منطلق أن خاصية (ما بعد) الحداثة تقوم على أساس هدم الحواجز بين المجتمعات الإنسانية ، وإزاحة الحدود بين الجغرافيات الثقافية ، وإزالة الفواصل بين الخصوصيات التاريخية ، وهتك المحرمات بين المركزيات الحضارية ، وفتح المغاليق بين السرديات المخيالية . أي بمختصر العبارة (عولمة) الأفكار والثقافات والحضارات والديانات والرمزيات ، وجعلها في حالة من السيولة في دلالة المفاهيم والسريالية في معاني الأفكار . ولعل هذا الأمر هو ما أربك تفكيرنا وشوش وعينا ، لجهة غياب إحساسنا بتداخل الأنظمة المعرفية ، وعدم إدراكنا لتخالط الصياغات المفاهيمية ، وقلة خبرتنا بتلابس البراديغمات المنهجية . بحيث لم يعد محرجا”لنا استعارة خطاب (مابعد) الحداثة لتوصيف فكرة أو لتصنيف تصور ، ينتميان من حيث أصولهما السوسيولوجية (الاجتماعية) ، ومصادرهما الابستمولوجية (المعرفية) ، ومرجعياتهما الميتودولوجية (المنهجية) إلى حقول ما اعتقدنا وظننا أنها الحداثة . وهكذا بتنا نمارس على ذواتنا – بسبب من غياب الوعي وتعطل التفكير – قطيعات مركبة ؛ معرفية وعلمية ومنهجية ، حتى دون إرادة منا أو رأيا لنا فيما يحصل لنا وعلينا ، بحيث منحنا وعلى طبق من ذهب صك البراءة للأنظمة التوتاليتارية ، التي كانت السبب المباشر في حشرنا ضمن هذا الخانق الشائك ، على جرائمها العديدة والمتنوعة ، لا في ميدان الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا فحسب ، بل وفي ميادين العلم والثقافة والتربية والدين والهوية . ولأجل وضع خطوات المجتمع العراقي على المسارات الصحيحة والاتجاهات الواقعية ، التي من شأنها حمل مكوناته على الاقتراب من مداخل تلك الحداثة والوقوف على مشارفها ، فان من الضرورة بمكان الاعتبار والافتكار بتجارب المجتمعات الغربية التي ولدت الحداثة من رحمها وترعرعت في كنفها ، لاسيما ما يتعلق بدور النخب (الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمثقفين والكتاب) ، الذين اقترنت تلك الظاهرة بجهودهم ومواقفهم ونضالاتهم ، كل ضمن توجهه الفكري واختصاصه العلمي وانتمائه السياسي . بمعنى إن المناداة بانتهاج سبلها والتزام خياراتها ، والمطالبة بتحقيق شروطها وتهيئة مستلزماتها ، والدفاع عن مبادئها والانتصار لقيمها ، لم تقتصر على جماعة دون أخرى أو تيار دون آخر ، إنما كان الجميع منخرطا”بزخمها ومستجيبا”لمتطلباتها على نحو لافت للنظر ، بحيث إن اختلاف المصالح الاقتصادية وتباين المواقف السياسية وتعارض الخلفيات الفلسفية ، لم يقف حائلا”دون صيرورتها واقعا”حضاريا”لمسوا حصيلته وتمتعوا بثماره . ولا يظنن أحدا”إن الأمر كان يتوقف على مجرد تبني موقف معارض هنا أو مناصرة فكرة مناوئة هناك ، كما لم ينسحب على مجرد اتهام سلطة كنسية أو إدانة نظام سياسي ، بقدر ما كان نضال عملي ونظري دؤوب محفوف بالمخاطر وملئ بالصعاب ، استهدف الأسس البنيوية التي يقوم عليها المجتمع ، وطال الأصول الفكرية التي بمتح منها نسغ وعيه ، وشمل الخلفيات الرمزية التي يحتكم إليها مخزون مخياله . ولهذا فان على من يتنطع بالحديث عن ضرورات الحداثة وتبعاتها في المجتمع العراقي ، عليه أن يضع باعتباره إن المطالبة بانتهاج سبيل التحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، عبر المزايدات الخطابية أو المهاترات السياسية والمساجلات الإيديولوجية ، وإنما من خلال نزع البداهة عن المسلمات الأسطورية الرابضة في الوعي ، وإزاحة النقاب عن البديهيات الخرافية المترسبة في اللاوعي ، وحجب القداسة عن الاعتقادات البدائية القارة في المخيال . وذلك

ليس قبل أن نحوز على الأدوات المعرفية والوسائل المنهجية التي تسمح لنا بولوج تلك المناطق المحرمة ، للحفر في قيعانها والتنقيب في طماها والبحث في طبقاتها فحسب ، بل وكذلك أن نمتلك الجرأة والشجاعة للقيام بمثل هذه المغامرة الضرورية ضرورة قصوى لمصيرنا ومصير أجيالنا ، إن كنا نتحسب لمثل هذا الترف الإنساني الباذخ . والواقع إن سياق الحداثة وسيرورات تشكلها تحذرنا من مغبة نسيان حقيقة جوهرية مؤداها ؛ إن الطموح المشروع لتحقيق مثل هذه الأحلام وبلوغ تلك الأمنيات ، لن يتم إلاّ بعد أن نشرع – كخطوة أولى – بتكسير الأنساق الثقافية المتخشبة التي لم تبرح تغذي أوهامنا عن قيمنا ورموزنا ، واختراق البنى الاجتماعية المتيبسة التي لم تفتأ تنتج أباطيلنا عن طبيعة اجتماعنا وعلاقاتنا . وهكذا فالحداثة التي ننشدها وإياكم أيها السادة ليست ورائنا كما نتوهم أو توهمنا بها خطاباتنا المتحذلقة ، وإنما هي لا تزال أمامنا وبعيدة عنا تفصلنا عنها مراحل ومسافات ، لا يتطلب اجتيازها الدعوة للاستعجال بحرقها أو القفز فوقها بخفة ، ولكن خوض غمارها بكل مثابرة وتجشم أعبائها بكل عناد وتحمل معاناتها بكل صبر ، وإلاّ فإننا سنبقى نرسف في أغلال عبوديات ؛ التباس ماضينا وإفلاس حاضرنا واحتباس مستقبلنا . إما الزعم بان واقعنا مفتوح على معطيات ما بعد الحداثة وفتوحاتها ، فاعتقد إن ذلك لا يعدو أن يكون مغالطة فاضحة صادرة عن تفكير قاصر ، الأمر الذي يتوجب ترك هذه الأمور للزمن حيث هو الأب لكل حقيقة ! .

*[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب