صباح يوم الأحد 18/12/2011 ، كنتُ أقطع الطريق ، مشياً على الأقدام من ساحة المتحف في علاوي الحلة بالعاصمة العراقية ، بغداد ، باتجاه فندق الرشيد . لا أبالغ حين أقول : وقتها إنتابتني مشاعر التوجس ، واكثر من ذلك : القلق . سأتجه نحو واحدٍ من بوابات المنطقة الخضراء ، وسأدخل الى مبنى يُعتبر جزءاً من هذه المنطقة . وفي طريقي نحو ذلك ، سأمر على مبنى وزارة الخارجية الذي شهد أحداثاً دموية مؤلمة في آب 2009 ، ثم أن هذا الطريق لم أسلكه منذ عام 2002 ، أي قبل الاحتلال الأجنبي لبلادنا . والفندق لم أدخله منذ ذلك التاريخ .
وللتوجس المصحوب بالقلق الكبير ، سبب مهم آخر . كان هدفي من التوجه للفندق ، تغطية جانب من اجتماعات اتحاد الصحفيين العرب التي بدأت في العاصمة العراقية يوم السبت 17/12/2011 ، واستمرت لمدة يومين . لست أدري إن كان ما نويتُ القيام به مغامرة محسوبة ، أم غير محسوبة . فأنا لا أحمل بطاقة دعوة للحضور ، ولا (باج) ولا كتاب تخويل من جريدة ما ، كأن تكون جريدة الزمان – بغداد .
فكيف سأدخل الفندق في ظل إجراءآت أمنية مشددة . وللحقيقة والانصاف أقول : أنني لم أطلب كتاباً من الجريدة ، كما لم أطلب من زملائي في ادارة نقابة الصحفيين دعوة للحضور ، ولا (باجاً) ، كما أنهم لم يتذكرونني ويدعونني للحضور .
إنها مجازفة في أمرٍ ومكان وزمن لا يتحمل المجازفة . وهكذا كنت أحث السير باتجاه تقاطع الشاكرية حيث يتقابل في جانبين منه : فندق الرشيد وقصر المؤتمرات . إجتزت تقاطع وزارة الخارجية . مشيتُ بمحاذاة الجدار الكونكريتي العازل ، كان عالياً بشكل ملفت للنظر ، والملاحظ أن المشاة على جانبي الشارع قليلون جداً ، وكذلك السيارات . هدوء حذر يسود الشارع .
وبمواجهة أول نقطة أمنية (عسكرية) ، كان السؤال الهادئ : استاذ وين رايح ؟ . الجواب : الى مؤتمر الصحفيين . سؤال : الباج ، الدعوة ؟ هذا ما تقوقعتُه . والآن (الفاس وﮔﻊ عالراس) . تظاهرتُ بتجاهل سؤال العسكري ، وأبرزت هوية نقابة الصحفيين العراقيين . كانت الوانُها الحمراء تخطفُ البصر . أردفتُها بهوية قديمة صادرة عن اتحاد الصحفيين العرب ، تحت عنوان : هوية صحفية عالمية . وكانت الهوية الثالثة ، هي : شعري الناصع البياض مما يُوحي بالاطمئنان . والنتيجة : تفضل إستاذ ! ؟ .
وهُنا بدأت الاجراءآت الأمنية . كانت عديدة ، دقيقة ، سلسلة ، بدأتْ بالفحص الليزري ، مروراً بالتفتيش اليدوي ، وإنتهت بـ (شَّمة) ، أو (لَحْسة) من كلب بوليسي لم يكن عدائياً ، وربما أقول كان وديعاً . شَمَّ الحقيبة التي لم تكن تحوي سوى قلمي وأوراقي وكامرة تصوير بسيطة ، إشتريتُها عام 2006 ، من محل مقابل مرقد السيدة زينب بالعاصمة السورية دمشق .
قال بعض (الحاسدين) لهذا الكلب (المسكين) ، أن راتبه يبلغ عدة آلاف بالعملة الصعبة (عداً ونقداً) . وأن صاحبه ذا القامة الطويلة ، ولون البشرة البرونزني (ذلك يرجح أنه من أحد بلدان أمريكا الجنوبية ، ومن أحفاد طيب الذكر كولومبس) .. أن صاحبه يتقاضى راتباً يفوق راتب أي استاذ جامعي عراقي . ويمضي بعض (الحاسدين)، وقاكم الله شرهم ، بالقول : أن الصحفي والباحث العراقي ، حميد المطبعي ، يتقاضى أقل من (نصف دولار) امريكي ، معنى ذلك أن الراتب الشهري لهذا الفارس البرونزي الذي يقود الكلب الذكي الوديع ، يعادل عشرة آلاف مرة راتب باحث عراقي مثل : حميد المطبعي ، (إذا قدرنا راتبه بخمسة آلاف دولار) .
إنتهتْ ، والحمدُ لله ، الاجراءآت التفتيشية الدقيقة ، غير المطولة ، ومن خلال النفق المار تحت الشارع ، وصلت فندق الرشيد . هذا المبنى المحمل بالابهة التي تستلب المشاهد ، بُني في أخر فترة التخمة الدولارية في العراق (عقد السبعينات) من القرن الماضي ، وهي الفترة التي ذاق فيه العراقيون نسبة غير قليلة من ثمار ثروتهم . كان بامكان العراقي ، خلال عقد السبعينات ، أن يسافر الى أي جهة في الأرض (طبعاً عدا إسرائيل) ، وجيبه مليئ بالدولارات ، ويقصد تايلند (لاسباب معروفة تتعلق برغبة العراقي) ، وكذلك بلدان أوربا الاشتراكية (قبل أن يحررها أبطال الديمقراطية !!) ، لأنها رخيصة ، آمنة ، تريد اصطياد الدولار بأي ثمن ، مما يرفع سعره ، (وبلغة الشفّافية المعاصرة) يسمون ذلك (السوق السوداء) .
فندق الرشيد ، بني مع مجموعة فنادق أخرى (فلسطين مرديان ، وعشتار شيراتون ، والمنصور ميليا ، والسدير نوفوتيل ، وبابل) كجزء من استعدادات العراق لاستضافة قمة دول عدم الانحياز .
وهنا أستيقظتْ ذكريات نائمة . ففي الاعوام 1976 ، 1977 ، 1978 ، كنت مهندساً في المؤسسة العامة للسياحة ، ومديراً لمشروع فندق السدير نوفوتيل الذي بُنٌي قرب ساحة الفتح ، وليس بعيداً عن مبنى إتحاد الكتاب والمؤلفين العراقيين . وبهذه الصفة إلتقيت مع مختصين في طليعتهم : الدكتور سيروان الجاف ، مدير عام دائرة المباني في وزارة التخطيط آنذاك . اشتركت في لجان شكلت لغرض متابعة تنفيذ هذه الفنادق التي صُرف عليها ببذخ كبير . كانت السلطات العراقية ، وبالذات رئيسها آنذاك ، تريد أن تظهر عظمتها ، وغناها ، وكرمها (الحاتمي) أمام ضيوفها من وفود الدول غير المنحازة . والنتيجة : إندلعت حرب طاحنة على الحدود الشرقية للعراق ، وتأجل مؤتمر دول عدم الانحياز ، ثم تقرر نقل مكان إنعقاده من بغداد ، الى كوبا ، ذلك البلد الفقير (مالياً) ، والذي يشكل قصب السكر جزءاً أساسياً من عائداته ، هذا إذا تجاوزنا عائد استئجار قاعدة (غوانتانامو) التي إشتهرت بمعتقلها الرهيب . والنتيجة أيضاً : أنجزت الفنادق ولا يوجد من يشغلها ، بقيت كل واحد منها : مثل عروس جميلة خرساء .
ضيوف الدولة العراقية قبل الاحتلال ، وخاصة من الاعلاميين ، يعرفون فندق الرشيد جيداً إذ كان المكان المفضل لاقامتهم . وفي 2003 ، أطبق عليه الاحتلال ، مثلما أطبق على بغداد ، وكافة مدن العراق . أصبح جزءاً من المنطقة الخضراء ، وبلغة أصدقائنا (المحررين) ، تسمى : (Green Zone) . عند الدخول للقاعة الاولى ، تطالعك أبيات من شعر علي بن الجهم ، الشاعر العباسي المشهور . ومجموعة (ثريات) كل واحدة منها ، كلفت مليون دينار عراقي ، بسعر صرف (3ر3) دولار لكل دينار ، أي (3300000) ثلاثة ملايين وثلاثمائة دولار بأسعار ذلك الوقت ؟ ! .
بعد هذه المجازفة ، بدأت مهمتي الصحفية . بوضوح جئتُ من أجل تفعيل علاقات صحفية قديمة ، ومن أجل تأسيس علاقات جديدة . كنتُ أريد أن أجعل الذكريات تستيقظ ، بدل أن تبقى نائمة على وسادة النسيان . والصعوبة : من أين أبدأ ؟ أعرف أن هناك أجيال صحفية جديدة (معظمها شابة) ، لا أعرفها ، وحتى إذا عرفتني من خلال نشر كتاباتي على بعض المواقع الالكترونية (وفي مقدمتها موقع جريدة الزمان : طبعة العراق والطبعة الدولية) ، فانها لا تعرفني جيداً .
معظم حملة الاقلام الصحفية ، الآن ، هم من (السنافر) ، مع محبتي لهم (أو، على وجه الدقة : لَهُنَّ …) ، وتمنياتي بالنجاح . والمسألة الآن : كيف أُؤسس لحوار بين الأجيال الصحفية مع الفارق الكبير بالعمر ؟ كان أول طير اصطادته شبكتي ، هو : الصحفية الليبية زينب شاهين التي تتولى رئاسة الشؤون الصحفية لفرع النقابة الليبية في بنغازي ، ونائبة رئيس نقابة الصحفيين في ليبيا .
كانت زينب طيراً بريش حمل زرقة البحر المتوسط الذي تتعانق مياهه مع ساحل مدينة بنغازي ، طار من هناك وحطَّ بفندق الرشيد ، في مدينة الرشيد . حينما كنت أحاورها ، تذكرت قولا للأديب السوري شوقي بغدادي ، ونَصُّه : كنتِ الطالبة الاجتماعية الخجول التي جاءت تسأل استاذها عن معضلة دراسية ، فقفزَ قلبه من صدره وسقط على دفترها . لكن زينب لم تسأل محاورها ، بل كان هو البادئ بالأسئلة .
حاورتُها . ومساء نفس اليوم دفعتُ الخبر (الحوار) الى جريدة الزمان – طبعة بغداد . ونشرته الجريدة في الصفحة الثانية من عددها (4075) بتاريخ 20/12/2011 ، وتحت عنوان : الصحفية الليبية زينب شاهين لـ (الزمان) : انزال العلم الامريكي من سماء العراق أفرحني كثيراً . ولم يكن الخبر يحمل إسمي ، بناءً على طلبي . فأنا كاتب عمود صحفي ، وكاتب مقالة (سياسية) خاصةً . لكنني – بسبب الرغبة والهواية وربما المهنة – أمارس الكتابه في حقول صحفية أخرى . إبني شاهين ، وهو قارئ ومتحدث ومستمع وصيرفي (أضيف لهذه الصفات كلمة جيد) ، . قال لي : إن ما فعلته هو عمل مندوب صحفي ، وقد لا يُليق . ومع إحترامي لوجهة نظره ، ومع نظرتي الخاصة لحقل (المندَبة) الصحفية ، فاني – وهذا ما يهمني – قد استجبتُ لنداء الكتابة الصحفية . وأصارحكم : في أعماقي يعوي ذئب صحفي . يعوي كمن لسعه برد صحراوي في أخريات ليل شتوي . ومثل هذا الذئب لا يكف عن العواء مالم أدفئهُ برداء الكتابة الصحفية ، أو بالكلام الواضح ، بـ (بطانية) الكتابة الصحفية .
الصيد الثاني كانت الصحفية نجيبة الحمروني ، نقيبة الصحفيين التونسيين ، وزميلتها الصحفية سعيدة بوهلال . وكان الصيد الثالث الاعلامية الموريتانية : أم كلثوم محمد مصطفى . قد تقولون : كلهن من الجنس الناعم . وأقول : نعم .. ومن فصيلة (السنافر) . ولكن من الرجال الصحفيين التقيت الصحفي : شلبي ، من العاملين بصحيفة الأهالي المصرية ، والصحفي الياس مُراد ، نقيب الصحفيين السوريين ، الذي علا صوتُه ، وسُمِع من خارج القاعة المغلقة ، يتحدث في اجتماع لاعداد البيان الختامي للمؤتمر ، وكان (الموضوع السوري) من القضايا الساخنة – ولعله القضية الساخنة الوحيدة – التي لم يحصل عليها إجماع . وعندما سألته ، عن رأيه بالبيان ، الذي ناقشوه ولم يصدر بعد ، أجاب باقتضاب : دون المطلوب .. مِشْ إكويَّس !! . كان الزميلان : الصحفي السوري ألياس مُراد والصحفي المصري شلبي ، هما الوحيدان من الصحفيين العرب الذين إلتقيتُهم ، وكان بياض شعر رأسيهما ، يقترب كثيراً من بياض شعر رأسي ، ولكن لا يتفوق عليه .
وما ذكرته هو بعض محطات هذه المغامرة . والآن : هل هدأ الذئب الصحفي ، وكفّ عن العواء ؟
نعم .. ولكن لبعض الوقت ؟!
[email protected]