رغم ان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر قرر مرتين خلال الاعوام الثمانية الماضية الابتعاد عن المشهد السياسي والنأي بعيدا عن كل ما يحصل به من اخطاء وسلبيات وانحرافات، الا ان قراره الاخير بمغادرة الحياة السياسية والاكتفاء بالنشاط الثقافي والديني، بدا مختلفا عن قراراته السابقة المماثلة من حيث التوقيت والظروف التي احاطت بذلك القرار، وما يمكن ان يترتب عليه من اثار ونتائج وتبعات على عموم الوضع السياسي في البلاد.
في عام 2006 قرر الصدر مغادرة المشهد السياسي والانشغال بالدراسة الحوزوية، وقد قرأ البعض قراره ذاك، بأنه هروب من الضغوطات التي كانت تمارسها ضده القوات الاميركية، في حين قرأه البعض الاخر بأنه تعبير عن احتجاج ورفض لكثير من السلوكيات والممارسات الخاطئة لاتباعه، التي تركت ردود فعل سلبية لدى فئات وشرائح عديدة من المجتمع العراقي، علما ان ذلك القرار لم يكن بعيدا عن مذكرة القاء قبض اصدرتها المحكمة الجنائية المختصة بحق الصدر بتهمة ضلوعه بأغتيال السيد عبد المجيد الخوئي في العاشر من شهر نيسان-ابريل 2003.
وفي عام 2013، وتحديدا في مطلع شهر اب-اغسطس منه، اعلن السيد الصدر اعتزال العمل السياسي، وتراجع عن قراره بعد وقت قصير بفعل ضغوطات والتماسات من داخل التيار الصدري وخارجه.
وبالنسبة لقرارات الانسحاب والاعتزال المشار اليها، وقرارات تصحيحية لمسار التيار، من قبيل حل او تجميد جيش المهدي(الجناح العسكري للتيارالصدري)، فأن الصدر كان يتوقف عند المظاهر والسلوكيات السلبية لبعض الافراد المحسوبين عليها، سواء كانوا في الهرم القيادي، او من العناصر الشعبية في التيار، ولعل الحديث عن مثل تلك المظاهر، التي تتمثل بأساءة استخدام السلطة والنفوذ والمواقع، وتغليب المصالح الخاصة على العامة، والتجاوز على الناس، قد تكون موجودة في مختلف المنظومات الحزبية، ومن الممكن ان يتسع نطاقها، حينما تزداد حدة التنافس المحموم على السلطة ومغرياتها المادية، اي بعبارة اخرى تزداد عندما يكون هذا الكيان الحزبي او ذاك في مواقع سلطوية حكومية. وجانب من ذلك حصل في التيار الصدري.
والقرار الاخير للصدر بالاعتزال، وان لم يكن مختلفا في اطاره العام عن سابقاته، الا انه انطوى على حدة ووضوح وصراحة اكبر في تشخيص مواضع الخلل، ومكامن الخطر، التي حددها الصدر في بيانه بأطارين، الاول الاطار الحزبي، والثاني الاطار الحكومي، وبدا واضحا امتعاضه واستيائه الشديدين من الممارسات والسلوكيات والاداءات الخاطئة والسلبية والمنحرفة في منظومته الحزبية، وفي المنظومة الحكومية.
ولان القرار جاء بعد وقت قصيرة من تصويت مجلس النواب العراقي على مشروع قانون التقاعد الموحد، الذي تضمن منح رواتب وامتيازات تقاعدية عالية جدا للرئاسات الثلاث والدرجات الخاصة، علما ان اغلب اعضاء كتلة الاحرار الصدرية في البرلمان، قد صوتوا على فقرة رواتب وامتيازات الرئاسات والدرجات الخاصة، فأن البعض اعتبر ان تجاوز نواب التيار الصدري التعليمات والتوجيهات الصادرة اليهم في عدم التصويت، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير –مثلما يقولون-والتي بأزائها لم يعد بأمكان السيد الصدر التزام الصمت والتبرير والدفاع عن اتباعه، وهم يسيرون بالاتجاه المعاكس لرغبات وتوجهات عموم الناس في العراق.
وبما ان قرار الصدر الذي جاء قبل موعد اجراء الانتخابات البرلمانية العامة المزمع في الثلاثين من شهر نيسان-ابريل المقبل، بحوالي شهرين ونصف، فأنه كان مفاجئا في بعض جوانبه، وغير متوقعا، لذلك فأنه كان من الطبيعي جدا ان يخلق حالة من الارباك الشديد في مختلف الاوساط والمحافل السياسية، التي برزت بالنسبة لاتباعه بصورة استقالات من المواقع الحكومية، ومن مجلس النواب، وبالنسبة للاخرين بدعوات ومطالبات بالعدول عن ذلك القرار، لما للتيار الصدري ولزعيمه من ثقل وتأثير وحضور قوي وفاعل في المشهد السياسي العراقي، وهذا ماتحدث به عدد من كبار الساسة العراقيين، فضلا عن اللغط الواسع الذي اوجده قرار الاعتزال في الاوساط الشعبية من مختلف المشارب والاتجاهات.
وبالفعل فأن غياب التيار الصدري، الذي يمثل اليوم احد العناوين السياسية البارزة في الساحة العراقية، سيخلق ارباكا كبيرا، وربما يحدث تغيرات في الخارطة السياسية، قد لاتكون مناسبة ومطلوبة في هذه المرحلة.
بيد ان القراءة المتأنية البعيدة عن اجواء ومؤثرات صدمة القرار المفاجيء، وتجنب التركيز والاستغراق في اسوأ السيناريوهات المتوقعة على ضوئه، والحقائق المترتبة فيما بعد، مثل تلك القراءة يمكن ان ترسم صورة اخرى اكثر قربا من الواقع.
وهذه القراءة الموضوعية، تتمحور حول حقيقة عامة وكلية، هي ان السيد مقتدى الصدر كشخصية سياسية ودينية، لها امتداد وعمق تأريخي، وقاعدة جماهيرية واسعة وعريضة، وحضور سياسي مؤثر، لايمكن له ان يغيب ويختفي عن المشهد العام بالكامل، ولا التيار الصدري، من حيث طبيعته الشعبية والجماهيرية يمكن له ان يتلاشى ويتحول الى ملف ارشيفي بهذه البساطة، رغم ان قرار الاعتزال جعل البعض من اتباع التيار يفكر في الانتقال الى عنوان اخر، ودفع تيارات سياسية الى التفكير والتخطيط لاستقطاب اكبر عدد ممكن من قيادات وكوادر وقواعد التيار الصدري، لتحقيق مكاسب سياسية انتخابية من خلالها.
وتستند القراءة الموضوعية الى جملة معطيات ومؤشرات، من بينها ان السيد الصدر اعلن في بيانه انه سيعتزل العمل السياسي، دون ان يغيب او يختفي عن المشهد الثقافي-الديني، الذي هو في الواقع ينطوي على الكثير من الابعاد والجوانب السياسية، ولعل المؤسسات الثقافية –الدينية- الاجتماعية التسع عشرة، التي اعلن الصدر انه سيستمر بالاشراف عليها وادارتها، تؤشر بوضوح الى ان سيبقى حاضرا وفاعلا ومؤثرا في مجمل الحراك العام في المشهد العراقي.
والمؤشر الاخر، هو ان الصدر دعا في كلمته المتلفزة التي القاها بعد بيان الاعتزال، الى المشاركة الواسعة في الانتخابات المقبلة، واختيار المخلصينن والنزيهين، معتبرا مقاطعة الانتخابات بمثابة الخيانة العظمى، ومؤكدا انه سيشارك فيها، اضف الى ذلك حث الصدر “الاصوات الشريفة” الى العمل كمستقلين بعيدا عنه، واصفا نفسه بأنه “لكل العراقيين”.
وبعد ماجاء في كلمة الصدر المتلفزة، واجتماع اعضاء الكتلة الصدرية في الحكومة والبرلمان بمحافظة النجف الاشرف، تغير ايقاع الاحداث، ليتراجع من اعلنوا استقالاتهم عبر وسائل الاعلام عنها، ويعلن التيار الصدري بأنه سيشارك في الانتخابات.
والمؤشر الثالث، هو ان هناك شخصيات من عائلة ال الصدر، يمكن ان تتصدى لجانب من مسؤولية العمل السياسي في التيار الصدري، مثل جعفر الصدر نجل الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الذي كان قد خاض الانتخابات البرلمانية السابقة في عام 2010 ضمن ائتلاف دولة القانون، وحصل على مقعد برلماني، الا انه سرعان ما قدم استقالته وابتعد عن مسرح الاحداث، وهذه المرة قرر جعفر الصدر خوض الانتخابات ضمن عنوان التيار الصدري، وهذا من شأنه ان يحافظ على تماسك التيار، فضلا عن كونه يمكن ان يجلب له جمهورا اخر من اتباع ومريدي ومقلدي الشهيد محمد باقر الصدر، الذين ربما كانوا في وقت من الاوقات قريبين من اجواء ومناخات حزب الدعوة الاسلامية.
والمؤشر الرابع ان قرار الصدر بالاعتزال، ادى –عن قصد او غير قصد-الى تسليط الاضواء على التيار مرة اخرى، واستعادة بعض البريق الذي فقده في المرحلة السابقة، وفي ذات الوقت اوجد تعاطفا وتفاعلا شعبيا غير قليل في صفوف انصار التيار، وبالتحديد اتباع الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر ووريثه ونجله السيد مقتدى.
ولاشك ان القراءات الاخرى، التي تتمحور حول فرضية ان الصدر اراد ان يتنصل مبكرا عن اي تراجع محتمل للتيار الصدري في المرحلة المقبلة ارتباطا بالانتخابات المقبلة، او فرضية انه يهيأ الارضيات والمقدمات لاعلان مرجعيته، كما حصل مع شخصيات دينية خرجت من عباءة التيار الصدري خلال الاعوام العشرة الماضية، تبقى مثل تلك القراءات حاضرة، بيد انها قد لاتجد لها صدى كبيرا، لافتقارها الى المعطيات والمؤشرات الواضحة، في هذه المرحلة بأدنى التقادير.