18 ديسمبر، 2024 8:49 ص

مع هيكل..كانت لنا أيام

مع هيكل..كانت لنا أيام

بعض الناس يتركون فراغا في الحياة لا يمكن ان يملأه شىء آخر مهما كانت قيمته..وكنت ومازلت أتصور أن الموت رحلة سفر وغياب فقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن الا تلاقيا..وهنا يأتى اليقين بأن اللقاء قادم وإن طال الغياب..واليوم مضى عام على رحيل الأستاذ هيكل وهو لم يترك فراغا في قلوب تلاميذه ومحبيه فقط ولكنه ترك فراغا واسعا في حياة مصر كلها..إن قيمة الأوطان تتجسد في عدد من أبنائها النابغين الذين أضاءوا العقول ورسخوا معنى القيمة وكانت حياتهم وتجاربهم وخبراتهم زادا ومثالا لكل شىء حولهم..

لم يكن الأستاذ هيكل مجرد كاتب سطر بعض الكلمات ومضى ولم يكن مجرد منصب عابر شارك في سلطة القرار حتى وان كان بعيدا عنها ولم يكن شعلة من الفكر أضاءت وتوهجت ثم انطفأت مثل كل الأشياء كان نموذجا في الكفاح والعطاء والعصامية فقد صنع نفسه بنفسه وبنى قدراته بالفكر والوعى والصلابة واستطاع أن يكون مميزا في كل الأزمنة وظهرت حوله نجوم كثيرة ولكنه بقى صاحب الضوء الأكبر والوهج الذى تجاوز كل الآفاق..

حين دخلت الأهرام في شهر يوليو عام 68في مبناه العتيق في قلب القاهرة شاهدت لأول مرة هذا الاسم الرنان محمد حسنين هيكل يهبط من سيارته الفيات السوداء التى لم تتغير حتى ترك الأهرام في فبراير 1974 كان اسم هيكل يحمل بريقا خاصا وأسلوبا خاصا وجملة عربية رصينة صكت بأسمه فهو لم يقلد أحدا في كتاباته ولو لم يكن كاتبا سياسيا كبيرا لكان روائيا من طراز رفيع وتقدم صفوف كل الروائيين في دنيا الأدب والصحافة..هناك ثلاثية قام عليها بناء هيكل الفكرى والثقافى والإنسانى..منذ بداياته كان طموحه يؤكد أننا أمام ظاهرة إنسانية فريدة فقد كان يرى إنه شىء غير الآخرين في بلاط صاحبة الجلالة..هو لم يكتف بطموحه الشخصى كإنسان في مستهل حياته ولكنه كان معتزا بنفسه إلى ابعد الحدود وأكمل صورته بتكوين ثقافى وفكرى جاد ومجهد مع نفسه أولا..حتى آخر أيام عمره كان قارئا جيدا يقرأ في كل شىء..ولم ينس أبدا أنه صحفى يطارد الخبر في كل مكان..وكان متيما بالأضواء ولهذا ظل حياته كلها في مركز الضوء حتى وإن ابتعد عن السلطة وقد أحبها كثيرا واعتاد عليها في رفقة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر..

في سنواتى الأولى في الأهرام كان من الصعب أن أكون قريبا من الأستاذ هيكل بحكم السن والترتيب الوظيفى وتقاليد الأهرام وحساباته وإن كانت الظروف وبعض الأحداث الصحفية جعلتنى أقترب منه أحيانا ولكن كل ذلك فى حدود كاتب كبير ومحرر شاب يشق طريقه في بلاط صاحبة الجلالة..

قلت له يوما بعد سنوات من رحيله من الأهرام لقد تعلمت منك أشياء كثيرة ولكن الدرس الأهم حين ذهبت إليه في مكتبه يوم خروجه من الأهرام وهو يجمع أوراقه وفى عينيه دمعة جامدة يومها أدركت أن المناصب لا تصنعنا وأن هيكل الكاتب هو الأبقى وان من أعطاني المنصب يمكن أن يسلبه منى في يوم من الأيام..

اقتربت كثيرا من الأستاذ هيكل بعد أن ترك الأهرام وفى السنوات الأخيرة كنا نلتقى أسبوعيا وكنت أجد لديه رحابة الفكر وترفع الحوار والاختلاف الذى يؤكد المشاعر ويحفظ الأقدار.. في بعض الأحيان كنت أجادله في قضايا كثيرة في السياسة والأدب وكانت الآراء أحيانا تختلف فى المواقف والأشخاص لكنه بروح الأب كان يسمعنى وبروح الأستاذ كان يرشدنى..هناك أشخاص كان يحبهم ويقدرهم بلا حدود..كان يحب محمد التابعى وعلى أمين وجمال حمدان والمسيرى ويتحدث عن النحاس باشا بتقدير شديد ومحمد عبده والشيخ شلتوت وكان يتحدث بتقدير عن السيدة جيهان السادات رغم خلافاته الحادة مع الزعيم الراحل أنور السادات.. وحين أشترى بعض الوثائق عن حياة مصطفى كامل وسعد زغلول وجد فيها أشياء غير ما أعتدنا عليه تجاه هذه الرموز الوطنية ولم ينشر منها شيئا..كان الأستاذ هيكل عاشقا لشعر أحمد شوقى ولا يرى له منافسا فى شعر العربية الحديث وكان يحفظ آلاف الأبيات من الشعر, وقد اعترف لى يوما بأنه كتب الشعر فى شبابه ولم يكمل الرحلة معه كان يشعر بالعرفان تجاه كامل الشناوى ويحب الشعر القليل الذى كتبه..كانت هناك حساسيات قديمة بين الأستاذ هيكل والأستاذ مصطفى أمين وكلاهما علامة في تاريخ صاحبة الجلالة وكنت أشعر بحرج شديد فقد كانت تربطنى علاقة ود عميقة بالأستاذ مصطفى أمين كما أن الأستاذ هيكل كان وسيظل أستاذى الذى علمنى وقد تشجعت يوما على استحياء وحاولت تقريب المسافة بينهما ولم أنجح..كانت هناك أيضا حساسيات أخرى سببها الرئيس أنور السادات بين هيكل وأنيس منصور وتجاوزتها أيضا فقد كان أنيس من أصدقاء الزمن الجميل..كان الأستاذ هيكل مترفعا فى خصوماته ولم يدخل معارك أو مواجهات مع أقلام كثيرة هاجمته وإن جاءت بعض كتاباته خارج هذا السياق خاصة ما كتبه عن الرئيس السادات أو ما تناوله من أسرار صاحبة الجلالة..

لابد أن نعترف بأن الأستاذ هيكل كان شخصية خلافية..إن تميزه الشديد فى بلاط صاحبة الجلالة ككاتب متفرد كان عبئا عليه..وكان اقترابه الشديد من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مثارا للحقد والغيرة ليس من أهل الصحافة فقط ولكن من رموز كثيرة فى سلطة القرار..

لا شك أن هيكل صنع لنفسه إمبراطورية خاصة بعد أن ترك الأهرام فقد حقق شهرة أوسع وتحولت كتبه إلى مرجعيات للأحداث فى العالم العربى وحققت له دخلا ماديا كبيرا لم يحصل عليه من قبل فى عمله بالصحافة..كنت دائما أزوره فى قلعته البديعة فى برقاش حيث بيته الريفى وكان يعتبره البيت الأصلي وكان يحب البقاء فيه فترات طويلة من العام وفى مساحة كبيرة كان هناك حقل كبير من الورد البلدى يحمل اسم زوجته ورفيقة مشواره السيدة هدايت تيمور, وكان هيكل رغم مشروعاته وأنشطته ومسئولياته الضخمة عاشقا لبيته وأبنائه ويضع لهم أولوية خاصة فى حياته..حين زرت زوجته وكانت زيارة موجعة لقلبى أن أذهب بعد غياب الأستاذ قالت لى: كنت إنسانة محظوظة إلى أبعد الحدود بسنوات عمرى التى عشتها مع محمد كان إنسانا عظيما عطوفا مجاملا كريما, محترما, كنت سعيدة بهذه الرحلة التى قضيتها معه وقالت هناك أوراق كثيرة ووثائق سوف نراجع ما فيها ونقدم للدولة ما يخصها, وقد اخبرنى اخيرا د.احمد هيكل بأنه سيشكل لجنة من الباحثين والكتاب وأصدقاء الأستاذ للتعامل مع هذه الوثائق في الفترة القادمة ووضعها في مكانها الصحيح.

كنت أجلس معه فى الساحل الشمالى حين دق الهاتف وجاء صوت من بعيد أن بيت برقاش أحترق وأن حشودا من البلطجية اقتحمت البيت وأشعلت فيه النيران وأحرقت كل شىء فيه..أخذ التليفون واتصل باللواء عباس كامل مدير مكتب المشير السيسى يومها وأخبره بالكارثة..ولكن البيت كان قد احترق..كان احتراق بيت برقاش صدمة كبيرة فى حياة الأستاذ هيكل فقد حزن حزنا شديدا خاصة أن الحريق التهم وثائق وأوراقا كثيرة من ذكرياته وأيامه وعمره..رغم تجديد البيت بعد ذلك إلا أنه حزن مرة أخرى حين رآه شيئا آخر غير ما اعتاد عليه..ولم يذهب إليه إلا مرة واحدة قبل أن يرحل, وكانت برقاش بكل ما فيها من الذكريات هى أجمل ما عاش هيكل فى سنوات وهجه وبريقه فقد جمعت يوما كل رموز الفكر والسياسة ليس فى مصر وحدها ولكن فى العالم كله..

كنت دائما أحاور الأستاذ هيكل ولا أقترب كثيرا من علاقته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر, سألته يوما لماذا وقفت بكل هذا الإصرار والتفانى مع عبد الناصر رغم رحيله قال لأنى اقتنعت به كزعيم وأحببته كشخص وإذا كنت تتحدث عن الأخطاء مثل الحرية وأموال الناس فلم أرض عنهما أبدا وحدثت فيهما تجاوزات كثيرة ولكننى كنت أقول لنفسى ماذا سأقول لعبد الناصر حين نلتقى فى رحاب الله إذا خنت عهدى معه..ولهذا لم أخنه فكرا ولا شخصا ولا تاريخا..

في أخريات أيامه تألم كثيرا حين احترق بيته في برقاش وحين سقط على السلم في الغردقة وتطلب ذلك علاجا طويلا في ساقه خاصة انه كان دائم الحركة والسفر..

ارتبطت كثيرا بالأستاذ هيكل وحين كنت أغيب عنه كان يسأل عنى أينما كان وأينما كنت وحين دخلت المستشفى كان أول زائر فتحت عينى عليه وأنا فى غرفة الإنعاش وظل يزورنى مرات, وذات يوم سألنى كم عمرك الآن فقلت له أستاذ هيكل لعلك لا تصدق العمر سرقنا..وكبرنا معا..

كان الأستاذ هيكل سعيدا بشباب ثورة يناير وكان يقول إنها من أعظم لحظات تاريخنا الحديث ولكن أرجو أن تكتمل..وكان رافضا لقضية التوريث وحين ألقى محاضرته الشهيرة أحدثت دويا فى كل أرجاء مصر وخارجها كانت طلاقا بينه وبين النظام.. وقد اختلف كثيرا مع الرئيس السادات وظل بعيدا فى حكم مبارك ولم يأمل كثيرا فى تجربة الإخوان وكان يرى أن الفشل مصيرها ونهايتها وكان حزينا لما وصل إليه العقل المصرى من التخلف والتجريف, وكان يقول هل تصدق أن ما كان يقال فى مصر من مائة عام فى عهد محمد عبده لا يمكن أن يقال الآن وأن قضايا الفكر المصرى كانت أكثر رحابة وإنطلاقا وتحررا..وقد قدر الأستاذ هيكل كثيراً جسارة الرئيس عبد الفتاح السيسى وهو يقود مصر في مسار جديد وان الشعبية التى حصل عليها في 30 يوليو لم تحدث لرئيس آخر في هذه الفترة الزمنية القصيرة جدا وان على الرئيس أن يحافظ على هذه الثقة التى منحها المصريون له لكى يخرج بهم من هذا السرداب المظلم وأن على الشعب أن يقف خلفه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر..

كانت جلساتنا معا تمتد فى آفاق حوار ممتع وعميق فيه أحاديث عن الناس والذكريات والأحداث وكان دائما يسألني ما هى آخر هواجس الشعراء لأنني أصدقها, وكنت أحكى معه بلا حساب فى أى شىء..

عام مضى على رحيله ومازال بيننا لم يبرح مكانه فى قلوبنا, إن أمثال هيكل نسخة وحيدة فى الحياة غير قابلة للتكرار وإذا كان البعض يرى أن السلطة صنعت هيكل فأنا أقول إن هيكل هو الذى صنع السلطة ولو حملناه بعيدا عنها لفقدت الكثير..هيكل صنع نفسه ببراعة وأخلص لمشروعه بوعى وثقة ومنحه عمره بكل الحب والسخاء, ولهذا سوف يبقى نموذجا فريدا فى قصة نجاح فريدة.

..ويبقى الشعر

تغيبينَ عنـي..

وأمضي مع العُمر مثلَ الســـحابِ

وأرحلُ في الأفقِ بينَ التمنِّــي

وأهربُ منكِ السنينَ الطوالَ

ويوماً أضيعُ..ويومَاً أغنِّــي..

أسافرُ وحدي غريباً غريبا

أتوه بحلمي وأشقى بفنِّــي

ويولَـدُ فينا زمانٌ طريدٌ

يخلِّفُ فينا الأسى..والتجنيّ..

ولو دمَرتنا رياحُ الزمانِ

فما زال في اللـحنِ نبضُ المُـغنّي

تغيبينَ عني..

وأعلمُ أنَّ الذي غابَ قلبــــي

وأني إليكِ..لأنـكِ منِّـي

***

تغيبينَ عني..

وأسألُ نفسي تُـرى ما الغيابْ ؟

بعادُ المَكانِ..وطولُ الســفرْ!

فماذا أقول وقد صرتِ بعضي

أراكِ بقلـبـــي..جميعَ البشـَــــرْ

وألقاكِ.. كالنور مأوَى الحيارىَ

وألحانَ عمرٍ شجىِّ الوترْ

وإنْ طالَ فينا خريفُ الحياة

فما زال فيكِ ربيعُ الزهرْ

***

تغيبين عني..

فأشتاقُ نفسي

وأهفو لقلبـــي على راحتيكِ

نتوهُ..ونشتاقُ نغدو حَيارى

وما زال بيتــَي..في مقلتيـكِ..

ويمضي بيَ العـمـرً في كـل دربٍ

فأنسى همومي على شاطئيكِ..

وإن مزقتنا دروبُ الحياة

فما زلتُ أشـــعر أني إليكِ..

أســـافرُ عمري وألقاكِ يوماً

فإني خُلقتُ وقلبي لديكِ..

***

بعيدان نحنُ ومهما افترقنا

فمازال في راحتيكِ الأمانْ

تغيبين عني وكم من قريبٍ..

يغيبُ وإن كان ملءَ المكانْ

فلا البعـدُ يعني غيابَ الوجوه

ولا الشَّـــوقُ يعرفُ..قيدَ الزمانْ

” قصيدة لأنك منى ” 1983

نقلا عن الأهرام