18 ديسمبر، 2024 10:04 م

مع عزيز الحاج على قارعة الطريق !

مع عزيز الحاج على قارعة الطريق !

بعد سنوات من انهيار التنظيم اعترف لنا قيادي في حزب البعث، ينحدر من أسرة إقطاعية في الفرات الاوسط، انه كان يفتش الستائر في بيت والده الكبير، كل ليلة ” خوفا من ان يكون عناصر عزيز الحاج قد تسللوا الى المنزل لاغتياله وأفراد أسرته “!
هكذا زرع تنظيم القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، المنشق بقيادة عضو اللجنة المركزية عزيز الحاج علي
الرعب في قلوب البعثيين الذين قفزوا الى السلطة في تموز 1968 “بقطار امريكي ” كما ورد في البلاغ الصادر عن القيادة المركزية بعد الانقلاب مباشرة. كان ” حزب عزيز الحاج” وفق تعبير الحزب الشيوعي العراقي اللجنة المركزية الذي كان يقوده بعد انقلاب شباط عام 1963 عزيز محمد، وثلة من أعضاء المكتب السياسي التقليدي؛ اتهموا الحاج ،ورفاقة؛بمحاولة الاستيلاء على الشرعية،وشق الحزب والانحدار به الى منزلقات التطرّف ،والطفولية اليسارية.
وانتشرت شائعات عن ان الانشقاق الذي وقع أواسط العام 1967 شهد صدامات بين أعضاء اللجنة المركزية، و الكوادر المتقدمة؛ وصلت الى حد العراك للاستيلاء على الأوكار الحزبية والمالية والمطبعة السرية. ( يمكن العودة الى كتابات عزيز الحاج وبشكل خاص؛كتابه شهادة للتاريخ أوراق من السيرة الذاتية السياسية؛ للتعرف على روايته للانشقاق ومقدماته وأسبابه ووقائعه).
بيد ان الأساطير التي حيكت حول القيادة المركزية وزعيمها عزيز الحاج، غير المعروف لجيل الشيوعيين ما بعد انقلاب شباط 1993 ذابت كتمثال شمع ما ان ظهر “جيفارا العراق” بجسم نحيل وعيون مطفية، ورباط عنق موديل الأربعينات، كأنه أنشوطة مشنقة على العنق النحيل. يتعثر في أجوبته على اسئلة محمد سعيد الصحاف مدير عام الاذاعة والتلفزيون اثناء المقابلة.
” اندفعنا وأنطخ راسنا بالحايط”. قالها بصوت خفيض ، مرتبك، مبلل بالخجل.
هذه “الطخة”، كلفت الحزب حياة المندفعين الشباب الذين حملوا السلاح بوجه نظام الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف،ورئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز الذي كان يحضر لعودة الحياة البرلمانية الى العراق الجمهوري وتعهد بإجراء إصلاحات في البنية السياسية.
وتم إطلاق سراح السجناء الشيوعيين ممن انتهت محكومياتهم فيما هرب اخرون من سجن الحلة وبينهم الشاعر مظفر النواب .
وسيتضح بعدها ان تنظيم “القيادة المركزية” كان وراء عمليه الهروب.واتهمت تنظيم اللجنة المركزية بعرقلته وغيرها من الاتهامات المثيرة للجدل الى الان.
ظهر عزيز الحاج امام الصحاف متخاذلا
خلال المقابلة الشهيرة على شاشة التلفزيون العراقي في نيسان ابريل 1969 ووصفها الحاج نفسه في المذكرات بالسقطة.
وبالفعل فقد سقطت كل الأحلام والاوهام التي الهبت مخيلة الاف الشيوعيين واليساريين الناقمين على السلطة لإسقاطها بالكفاح المسلح، وحرب الانصار.
لقد اتاحت الحريات النسبية التي اختطها نظام عبد الرحمن محمد عارف-عبد الرحمن البزاز( الرحيمان مع الشعب) انتشارا واسعا للكتب الثورية المتدفقة من مطابع بيروت.
وصدرت صحف يحررها مثقفون يساريون وشيوعيون أطلقت السلطات سراحم، وغدت صور كاسترو وجيفارا أيقونات في البيوت تعلق على الجدران وياتي بعض قراء المناحات الحسينية على ذكرهم في مصاف الشهداء.
فيما كانت الشبيبة الشيوعية تعري صدورها مع المواكب الحسينية، و تطلق هوسات ثورية،مطلبية مثل تأميم النفط وإطلاق سراح السجناء، وإجازة الحزب وغيرها من الهتافات الممزوجة بنكهة كربلائية لم تقلق السلطات؛ الا انها مثلت جرس إنذار لحزب البعث جناح احمد حسن البكر بان عليهم ازاحة الرئيس ( الضعيف) عبد الرحمن عارف والاستيلاء على السلطة مجددا بانقلاب عسكري ( ابيض) كناية عن ان احدا لم يقتل اثناء اقتحام القصر الجمهوري.
وبعد عام من الانقلاب الذي اعتبرته قيادة عزيز الحاج؛ اميركيا مع انها لم تتردد في أدبياتها عن نعت نظام الرحمانين عارف والبزاز بالعمالة ايضا؛ حتى تمكن حزب البعث من الكشف عن التنظيم السري للقيادة المركزية، وألقي القبض على اهم القيادات.
وقبلها شن النظام،حملة اغتيالات طالت الكوادر الاكثر نشاطاً في صفوف الحزبين الشيوعيين، حزب عزيز الحاج وقيادته المركزية وحزب عزيز محمد ولجنته المركزية.
لقد مثل سقوط عزيز الحاج علامة فارقة في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية رغم ان انهيارات في صفوف القيادات كانت حصلت على مدى العقود من نشاط الحزب الذي تأسس أواسط ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن السقوط امام عدسات تلفزيون بغداد والمقابلة المهينة التي اجراها الصحاف مع الحاج؛ كانت سابقة لم يعهدها العراق حتى في اشد سنوات القمع وملاحقة التنظيمات الشيوعية وتسقيط قيادات صلدة في السجون وزنزانات التعذيب .
فجرت المقابلة بحورا من الخيبات والأحزان، وانزوى الشيوعيون المنهزمون في حانات بغداد يجترعون كؤوس النكبة المرة.
كان بعض سجناء نقرة السلمان وسجون الحلة وبغداد، يشيدون بصلابة عزيز الحاج فيما مضى.
ومن حكاياتهم المتناقلة؛ نسجت الخرافة عن “جيفارا العراق” الذي الهم الشيوعيين الرومانسيين وحفز شبانا تركوا جامعاتهم الراقية في الخارج مثل المهندس المرموق خالد احمد زكي لان يعود الى بغداد من لندن، ويشكل فصيلا مسلحا ذهب الى الأهوار، ليقتلوا على يد الصيادين كما اعلنت السلطات حينها.
في اب / اغسطس 2018 التقينا عزيز الحاج في باريس اثناء زيارة خاصة الى العاصمة الفرنسية.
وكنت خلال زياراتي المتعددة الى باريس، أسعى للقاء صحفي، نسجل عبره واحدة من اهم المحطات في تأريخ العراق ما بعد الاستقلال.
كانت لدي اسئلة كثيرة وددت لو ان الحاج اجاب عليها امام عدسات الكاميرا؛ خاصة وإنني عاصرت تلك السنوات العاصفة، والتحقت بصفوف المقاومة الفلسطينية وتركت دراستي الجامعية وكنت حينها في الشهور الاولى من سنتي الاولى؛ للتدريب في معسكرات الجبهة الديمقراطية بالأردن وباتفاق بين الجبهة وما تبقى من تنظيم قاعدي في الحزب الشيوعي القيادة المركزية بعد السقوط الفاجع لعزيز الحاج.
لكن جميع الاصدقاء والمعارف في باريس كانوا يقاطعون الحاج لشتى الأسباب،على رأسها موقفه السياسي، وتعاونه مع النظام العراقي السابق بمنصب ممثل العراق في اليونيسكو.
ولم اجد سبيلا اليه الا قبل عامين بفضل الصديق عبد المهدي الحافظ (ابو نور ) احد ابرز ابناء الجالية العراقية في فرنسا. وكان الوحيد تقريبا يتواصل مع الكهل عزيز الحاج ويرعاه بدوافع إنسانية واخلاقية عابرة للمواقف السياسية.
التقينا والصديق العتيد جمال العتابي و”أبو نور” الحاج في مقهى على مفترق ازقة يضج بحركة الترامواي.
واتفقنا على لقاء اخر لتسجيل حلقات تلفزيونية.
ولم تكن ظروف الحاج آنذاك وهو ينوء بثقل تسعة عقود وعامين تسمح بالتصوير. واكتفيت بتسجيل بعض اللقطات على الهاتف النقال.
وفِي صيف العام 2019 لم تتح فرصة اللقاء، فقد اخبرنا الصديق “ابو نور” ان الحاج في المستشفى يتعافى من عملية في العين.
وكما كان يردد ابو سعود؛؛
خليها على الجايات!
وجاءت 2020 ؛؛
شابات وشبان لم يسمعوا بعزيز الحاج،ولا يعرفون الكثير عن الحركة الشيوعية في العراق؛ يطرزون سوح الانتفاضة في بغداد ومختلف مدن العراق بأجسادهم الغضة ؛ يطالبون بالتغيير وإسقاط تحالف احزاب الفساد والاستبداد.
يباد اكثر من 600 ويجرح اكثر من 20 الف، ويواصلون الاحتجاجات ضد المليشيات المسلحة التي اعلنت مع الحكومة الفاسدة ” الكفاح المسلح” على المنتفضين، وعلى كل الشعب العراقي.
في هذه الأثناء فارق عزيز الحاج الحياة عن 94 حولا منها خمسة عقود عاشها في باريس.
كان يتابع الاخبار كما ذكر “ابو نور “الذي لم يفارقه حتى النبض الاخير .
الشريط يسجل دردشة غير معدة مسبقا مع الراحل على ناصية في باريس الصاخبة والمزدحمة بالأفكار والمدارس والنظريات الطليعية على مر العصور.
السبت 18 كانون ثاني 2020 سيوارى جثمان عزيز الحاج في مقبرة بباريس، وسوف يمشي خلف نعشه ” ابو نور” وكريمة الراحل “ندى”المقيمة في إيطاليا.
وربما بعض المعارف الذين يؤمنون بان الموت عابر للأيديولوجيات وخارج المنظومات السياسية؛ والأشد رعبا من كل النكسات والسقطات!
شاهدوا الفيديو