تعارفنا عام 1961 في موسكو( حيث جاء اليها للدراسة و بقي فيها لحد الان) , و في عام 2016 , اي بعد خمس وخمسين سنة من تعارفنا, سنحت الفرصة ان نلتقي معا مرة اخرى, وان نتنزه سوية في شوارع موسكو, و ان نتحدث بهدوء عن شذرات من الماضي والحاضر والمستقبل , وقد حدث هذا اللقاء اثناء مشاركتنا معا في اعمال المؤتمر الدولي الرابع لمترجمي الادب برعاية معهد الترجمة الروسي , والذي انعقد في موسكو ( من 8/9 الى 11/9 – 2016).
قال لي عبدالله انه – لو بقي في بغداد – كان سيصبح فنانا تشكيليا او قاصا , قلت له – لقد شاهدت مرة عدة لوحات جميلة له منشورة في احدى مقالاته , ولكني لم أقرأ اي قصة له , اجابني ضاحكا – عندما زرت بغداد قبل عدة سنوات وجدت في بيتنا القديم قصة كنت قد كتبتها وكان عمري 17 سنة. قلت له – انني أشعر وكأنك نادم الآن لانك بقيت في موسكو طوال حياتك ؟ قال مبتسما – لا ابدا , ولكنه نادم فعلا – قلبا وقالبا – لانه أضاع كثيرا من سنوات عمره في موسكو بترجمة نصوص سياسية و تعليقات اخبارية عامة في وكالة انباء (تاس) وغيرها من المؤسسات الاعلامية السوفيتية آنذاك , وذلك من اجل كسب ( فلوس !) المعيشة ليس الا . ذكرني هذا الموقف بما قاله لي مرة الروائي الكبير والمترجم المرحوم غائب طعمه فرمان حول ذلك الموضوع ايضا , وقلت هذا لعبد الله , فاجابني مؤيدا – نعم , لقد عانى غائب من ذلك طبعا , بل اني شاهدت كيف كان غائب ( يجبر نفسه) ان يترجم تلك النصوص البعيدة كل البعد عن عوالمه ونفسيته واهتماماته الثقافية والفكرية , ومن اجل نفس الهدف . الكلام عن غائب جرٌنا الى الحديث عن مخطوطته التي ترجمها ولم يمهله الموت كي ينشرها , وهي رواية أليكسي تولستوي – ( بطرس الاول ) . تحدث عبد الله عن هذه المخطوطة , وكيف انه أراد ان ينقحها ويشرف على نشرها باعتبارها خاتمة أعمال غائب الترجمية , وقال بأسى ان أرملة غائب لم تتفهم موقفه بتاتا , وأخذت تتحدث عن حقوق مالية ومبالغ خيالية تطالب بها ( لم يطلبها حتى ورثة همنغواي! كما قال عبد الله ) , وشرح لي بالتفصيل – وهو متألم جدا – معاناته من جراء موقف ارملته الساذج هذا وتخبطها العشوائي وثرثرتها الفارغة ايضا , وقال انه يريد الانسحاب من هذه القضية برمتها حفاظا على ذكرى المرحوم غائب . حاولت تغيير موضوع الحديث المؤلم هذا ( لاني أعرف طبيعة العلاقات الحميمة والصادقة لعبد الله بالمرحوم غائب والاحترام المتبادل بينهما طوال حياتهما معا في موسكو , بل واعرف ان عبد الله كان شاهد زواج غائب آنذاك) , وقلت له انني معجب جدا بنشاطه الترجمي الاخير, و الذي بدأه في مجال تاريخ العراق المعاصر في الوثائق الروسية , وان ذلك موضوع مهم جدا , اذ لم يسبق لاحد من العراقيين ان تناوله بهذا الشكل سابقا, وهو يذكرني بما قام به المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة بالنسبة للعراق في الوثائق البريطانية . قال عبد الله ان التقرير الذي ترجمه عن الروسية ونشره لقاسم حسن هو بداية لنشاط يريد القيام به في هذا المجال شبه المجهول للقارئ العراقي تقريبا . قلت له انني اؤيده تماما , وسألته عن الخطوة اللاحقة في هذه المسيرة , فقال انه عثر على وثيقة لخالد بكداش يطالب فيها من منظمة (الكومنتيرن) ان يكون هو ( اي بكداش) مسؤولا عن كل الاحزاب الشيوعية العربية , ولكن ديميتروف ( المسؤول الاول في تلك المنظمة آنذاك ) اعترض على هذا الطلب ولم يوافق عليه , واخبرني عبد الله انه يخطط للقيام بترجمة الوثائق الخاصة بالعراق والموجودة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ( وفيها اسرار كثيرة ! ) , و كذلك الوثائق الخاصة بالعراق في وزارة الخارجية الروسية , فتمنيت له الموفقية بانجاز هذه العملية الكبيرة والمهمة للتاريخ العراقي الحديث, والتي ارى انها بحاجة الى مساندة الدولة العراقية نفسها , او في الاقل بعض الجهات العراقية الرسمية, وانها بحاجة ايضا الى جهود لجان علمية متخصصة باكملها , رغم قناعتي التامة ان الحماس الشخصي يبقى هو العنصر الاول والاهم في تنفيذها , فقال لي عبد الله , ان هناك جهات عراقية مستعدة لنشر هذه الوثائق فعلا , ومنها دور نشر محترمة مثل ( دار المدى) في بغداد وغيرها.
تحدثنا ايضا عن زملاء لنا درسوا معنا في الستينات من القرن العشرين , وتوقفنا عند المرحوم الفنان والكاتب المسرحي قاسم محمد , الذي قال عنه عبد الله حبه انه كان ألاقرب روحيا له بين كل الفنانين المسرحيين العراقيين الذين درسوا معه في موسكو (تذكرت طبعا انني كتبت حلقة خاصة عن قاسم محمد ضمن سلسلة مقالاتي بعنوان – عن بعض العراقيين الذين مروٌا بموسكو ) , وذكرنا المرحوم عزيز حداد , الذي توفي في السويد , وقال لي عبد الله اننا كنا ندعوه – عزيز سينما , نتيجة تعلقه واندماجه بفن السينما , وذكرنا مقالاته المترجمة في الصحف والمجلات العراقية آنذاك , و تحدثنا عن عبد القادر رحيم , الذي لا نعرف – كلانا- ما مصيره واين هو الآن , وتذكرنا ادوا ره الشعبية المعروفة في المسرحيات التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث في بغداد , وخصوصا مسرحية (النخلة والجيران)… تحدث عبد الله حبه ايضا عن علاقاته الواسعة مع الادباء العرب , الذين مروا بموسكو في عهدها السوفيتي مثل محمود درويش ومواهب الكيالي وغيرهم , وكيف التقى ببعضهم خارج الاتحاد السوفيتي , وهي حكايات تستحق التسجيل والتحليل ايضا , لأنها تعكس واقعنا العربي الثقافي بكل ما فيه من وقائع مريرة وتعيسة وتراجيدية .انهي هذه المقالة بما ابتدأنا به من ذكريات عبد الله حبه حول حياته في بغداد قبل السفر الى موسكو , اذ انني سألته عن تلك الفترة , التي لا اعرفها عنه , فقال لي , انه كان تلميذا في الاعدادية المركزية , وانه ساهم برمي الحجارة مع تلاميذ آخرين ( منهم الصحافي العراقي الكبير محمد كامل عارف ) من على سطح المدرسة , على موكب الملك فيصل الثاني عندما كان يمر من قرب المدرسة في طريقه الى البرلمان لالقاء خطاب العرش ( يعرف العراقيون اين تقع الاعدادية المركزية ولحد الآن , واين كان يقع البرلمان الملكي آنذاك , الذي تحول الى المحكمة العسكرية الخاصة ( المهداوي).. ثم ..ثم.. ثم , واخيرا اصبح – بيت الحكمة ) . تم اعتقال التلاميذ طبعا من قبل الشرطة, وتدخل وزير المالية ( وهو زوج شقيقة عبد الله حبه ) و أنقذه من التوقيف , ولكن ادارة الاعدادية المركزية فصلته لمدة سنة , فاخذ يعمل في احدى المصارف الاهلية في بغداد , وعاد بعد سنة الفصل تلك الى الاعدادية , واكملها , وتم قبوله في قسم اللغة الانكليزية بكلية الآداب في جامعة بغداد , والتحق في الوقت نفسه في قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة / القسم المسائي , وساهم في الحركة المسرحية العراقية آنذاك بشكل او بآخر , واختلط برموز تلك الحركة وتعامل معها مثل حقي الشبلي وجاسم العبودي وغيرهم من الاسماء الكبيرة في عالم المسرح العراقي …وحدثني عبد الله عن كلية الآداب ومرسمها الذي كان يمارس فيه هوايته , وهي الرسم , وتوقف عند بعض طلبة تلك المرحلة في كلية الآداب , و كان من بينهم طارق عزيز , وخالد طبره الذي انقذه عبد الله حبه من موت محقق , عندما طاردوه اعضاء من اتحاد الطلبة في كلية الآداب بالمسدسات , وكيف احتمى خالد طبره بعبد الله حبه في المرسم , وكيف قام عبد الله بتهريبه من شباك المرسم بمساعدة شقيقة الشاعر الفريد سمعان , وكيف شكره طارق عزيز بعدئذ على ذلك , وكيف أراد خالد طبره في ما بعد ان يقتل شقيق عبد الله حبه باطلاق الرصاص عليه
الحديث مع عبد الله حبه ممتع ومتشعب وواسع جدا, اذ انه يتناول تاريخ العراق الحديث في نهاية العهد الملكي وبداية العهد الجمهوري الاول , و كذلك تاريخ العراقيين الذين يقطنون في روسيا ومشاكلهم العديدة والمتشابكة جدا وتاريخ علاقاتهم الواسعة والمتناقضة مع بعضهم البعض ومع الادباء والسياسيين العرب الذين مروا بموسكو في الفترة السوفيتية وما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , ولا يمكن لي في أسطر قليلة ان اعرض ابعاد هذا الحديث الشائق كله والوقائع التي تناولها , لهذا فانني مضطر ان اتوقف الآن , واتمنى ان اعود اليه في يوم- ما …