(في الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الشاعر الأستاذ محمد علي الخفاجي)
إلتقيته لقاءات كثيرة،ولكنّي سأقصر القول إيجازاً على أهمّها نوعاً،وأغناها دلالة..إلتقيته أوَّل مرَّة ربيع سنة 1968م،في القاعة المحليّة بمدينة كربلاء،حيث كان هو حينئذٍ مُدرِّساً عضواً في لجنة أدبية،قد فُوِّض اليها الحكم،على مباراة بين طلاب ثانويات محافظة كربلاء؛وكنت انا حينئذٍ طالبا،في الخامس الثانوي،أنتظر شوطي مع الطلاب الشعراء المنتظرين أشواطهم،في تلك المباراة الشعريّة السنويّة التي تأهّلت لها مُمثِّلاً ثانويات مدينة النجف (1).وقبل أن أدخل القاعة،وأتخذ مقعدي جوار ثلَّة من رفاقي الأقربين ؛فكّرت مليّاً بما يُتداول من قصص،حول الصراع الكربلائي ــ النجفي،الذي كان يبدأ بالأهازيج الشعرية ،في المناسبات الدينية،ثم ينتهى بشفار السلاح الأبيض.وخشيت أن ينعكس ذلك،على قرار لجنة التحكيم الكربلائية؛فأخسر الرهان،وأعود خائباً الى مدرستي التي أمست سمعتها الأدبيّة ديناً في ذمتي.وفجأة طفق الجو الكربلائي الهادئ المعتدل يعصف ببيارق أملي،وبدأ الورد النديّ المصطف على جانبي مدخل القاعة يشوك واخزاً همّتي.يالنحس الطالع!،وياللهزيمة!.كاد قلبي يبلغ حنجرتي تطيّراً؛لولم يُرسّخ قدمي استاذي المشرف(2) ،حين قال لي:”جئنا لنشارك إثباتاً لوجودنا،ولم نجئ لنفوز”.ثم أذاع عريف الحفل فقرات البرنامج ،وسبقني بضعة شعراء الى منصّة المسرح،وقد استقبلهم مؤيدوهم،من الجمهور المكتظ ،داخل القاعة وخارجها ،بعواصف من التصفيق والتشجيع؛وإن لم يظهروا من جيّد الشعر ما يدعو الى كل ذلك الحماس المفرط إلا شاعرا كربلائيا واحداً،هزّ القاعة بقوة قصيدته هزّا،وأطربني شعره الغزليّ حتى اني،من فرط طربي،نسيت أنه غريمي،وانطلقت ـ من حيث لا أدري ـ أصفّق له معجباً.وكيف لا،وقد أرتني أبياته الجميلة ماأرتني من مفاتن حوّاء؛وأنا لمّا أبلغ الثامنة عشرة من عمري بعد؟.ولم أعِ أن هذا الشاعر المُجيد حقّاً،هو أحد طلاب الأستاذ محمد علي الخفاجي،عضو لجنة التحكيم إلا بعد حين من الزمن.وتلاه شوطي مباشرة.وكان توقيتاً محرجاً بريئاً أوغير برئ.وياله من توقيت!.على اية حال خرجت الى الجمهور بلا ورقة،كما يخرج الفارس للمبارزة وهو أعزل.وأتممت إنشاد قصيدتي الموسومة بـ (الجراح تتكلم) استظهارا؛وقد تعمّدت ذلك الإستظهار،لأفرز نفسي عن الشعراء الآخرين تنفيذا لوصيّة مدرّبي(3).كان مطلع القصيدة: “دمٌ غلَى بعروقِ الحقِّ فالتهبا ــــ ناراً مُسعَّرةً تستنهضُ العرَبا” وكان موضوعها فلسطينياً ساخناً،مثيرا كلّ الإثارة في ذلك الوقت؛إذ لم تمضِ على (نكسة 6 حزيران) العربية سوى تسعة أشهر.لذا نكأ مضمون القصيدة القلوب المقروحة،وصرفها عن همومها المحلية الخاصة إلى الهمّ القوميّ الأعم ،وساد القاعة شرار من التضامن الأخوي حلماً بنصر قريب.وما إن أعلنت اللجنة النتيجة ،مُجيزة قصيدتي بالرتبة الأولى (4)،وانفضَّ الأساتذة مع أَفرقتهم خارجين؛ حتى بوغت فريقنا النجفيّ الصغير بكفّ فتيّة تصافحنا.وبصوت جهير يهنئنا بالفوز،مستئذناً بنشر القصيدة.إنه الشاب الكربلائي الأستاذ الخفاجي.ولم يقف عند هذا الحدّ من الأريحيّة وكرم الخُلق ؛بل جازهما بمرافقتنا،الى موقف الحافلة التي كانت تنتظرنا،لتقلّنا الى حيث نقيم..كان مغتبطاً حقّاً.ولم تكن أستاذيته لتمنعه من أن يغبط تلميذاً على
قصيدة،ويترنّم ببيت استحسنه منها: “فياسمائي أحيلي الشمس عاصفة ــــ تطوي الغزاة تدقّ الرأس والذنبا” قد آن لي،بعد هذا كله، أنْ أشهد الآن أنَّ تلك النزعة المحلية التي رابني منها هاجس؛لم تكن لتؤثّرعلى شخصيتة الوطنية الفنيّة.لقد كان مرتبطا فعلا بمدينته كربلاء،ومشغوفا بحبّها وحب أهلها؛ولكنّ ارتباطه بوطنه العراق وبشعبه كان أعمق وأوثق.وهذا الإرتباط العميق الوثيق هو الذي صان قراره من أن يحيد عن العدالة والحق.ولقد كان ملتزما كذلك بمسؤولية تربوية محكومة بشروط رسمية.ولكنّ التزامه بحريته الفنية كان أقوى وأبين.ولهذا كان يجمع بين التزامين: التزام بواجب المهنة،والتزام بحرية الفن.واذا كان التزامه المهني جبراً؛فانّ التزامه الفني اختيار.وهذا الإختيار الواعي هو الذي ماز شخصيته بالصدق،وبثبات الموقف،من بعد، في مواجهة سلطة الدم والقمع والإستبداد…مضت سنة وبضعة اشهر،على وعده بأن ينشر لي قصيدتي،ولم يتحقّق شئ مما وعد.وما وعدني به، ظننته ضرباً من المجاملة العراقية التي لاتعني الكلمة فيها المعنى الحقيقيّ دائما..وفي ظهيرة من ظهائر الشتاء البغداديّ المشمس الجميل من سنة 1969م،خرجت من الكليّة مجهودا.أطوي الخطى قاصدا (المكتبة الوطنية)،لأستريح عندها من عناء دروس السنة الأولى الجامعية الثقيلة الرتيبة؛وأستنفد مابقي لي من الوقت الفائض في مطالعة المجلات الدورية،والصحف اليومية.وبينما أنا جالس أتصفّح مجلة (الأديب) الشهيرة؛واذا قصيدتي (الجراح تتكلم) على أحدى الصفحات(5).
لم أكد أصدّق ما رأت عيناي.ولم تريا إلا الحق الذي لاريب فيه.فاجأني نشر الأستاذ الخفاجي قصيدتي كلّ المفاجأة؛لكن ما فاجأني أكثر،هوشخصيتة التي طابقت أقوالها افعالها مطابقة،تكاد تكون استثناء،في مجتمع موصوف بازدواج الشخصية في السلوك.وإذا كانت القصيدة قد عكست موقفي التقليدي السطحي المشبوب بثورة عاطفتي القومية،بازاء القضية الفلسطينية ؛فإن نشره إياها تطوّعاً،لم يكن انعكاساً لسطحية تقليد أو انفعال عاطفة؛وانما كان موقفا ادبيا مسؤولاً،وفكرا ثقافيا واعيا،لم يعودا بسائدين،في ميدان الأدب والثقافة،بعد أن استولى (حزب البعث)،على الحكم في العراق صيف سنة 1968م،ودجّن أغلب المثقفين ترهيبا وترغيبا.ومن لم يستطع تدجينه كاستاذنا،اضطهده وأدانه وأقصاه.لذا تهمّش المثقف الأصيل الصدوق،وتصدّر المثقف الفارغ المنافق اهم المؤسسسات الثقافية في الدولة.وكان ماكان من الإنتكاس الثقافي العراقي الذي لم يكن نتيجة لغياب المثقفين؛وانما لحضورهم ضمن قيود سلطوية وشروط حزبية.ولهذا أجللت في أستاذنا موقفه وفكره؛لأنه لم يقبل بتلك الشروط، ولم يخضع لتلك القيود… والتقيته مرة اخرى شتاء سنة 1970م،في قاعة الحصري بكلية الآداب ببغداد،في امسية شعرية.إنعقدت برعاية وزير الإعلام (شفيق الكمالي) إحياء لذكرى الشاعر (السياب)،وتميزت عن سواها من الأماسي الشعرية السابقة المنعقدة في نفس المكان،بازدواج المشاركين فيها من داخل الكلية ومن خارجها.وقد شارك أستاذنا بقصيدة،وشاركت معه بقصيدة كذلك.وعندما انتهت الأمسية السيابية،هبّ معظم المثقفين الى المقاعد الامامية،وهم يتدافعون حافّين بالوزير حفَّ الفلك بمحوره.وانسحب الشاعر الخفاجي ،مع نخبة قليلة من ذوي الوعي وذواته إلى الرواق الجامعي خارج القاعة بحثا عن نفحة نقية من الهواء الكانوني في ليل بغداد القارس.قال لي بصوته الجهوري المتميز:”كلما زرت كلية التربيةــ ياعبدالإله ــ تعمقت غربتي بين الطلاب والطالبات،واشتدت حاجتي الى صديق يرافقني مثلك.” (6)ولم تمضِ إلا بضع سنين على كلماته هذه حتى تعمقت غربته اكثر.ليس بين طلاب (كلية التربية) وطالباتها وحسب؛وانما بين المثقفين المتبعثين،لاسيما قائلو الشعر المتنافسون على العطايا والمناصب والشهرة يوم انقسم الشعراء العراقيون،في نهاية السبعينيات،الى حكوميين خاضعين مهرجين،يمجدون الجلاد ويزدرون الضحية؛لأنهم بلا ضمير.والى
وطنيين مقاومين صامتين،أبقوا على ذممهم محتملين أذاه وعسفه؛لأنهم ذوو ضمير.وما كان شاعرنا واستاذنا الخفاجي الا ذا الضمير الحيّ حتى رحيله في 17 ــ 12 ـ 2012م،ولهذا سميته شاعر الضمير.والرهان معقود،في ساحة الصراع الإجتماعي،على ضمير الشاعر لا على شعره؛لأنّ القصيدة قد تقلب الخير شرا والشر خيرا.ومتى يرضَ الشاعر أن يبيع ضميره في سوق الحكام المجرمين؛تكن أية مهنة مهينة في الحياة هي أشرف من مزاولته الشعر…والتقيته،في يوم قائظ أواخر السبعينيات،وحيدأً سائحاً بين الكتب، بشارع المتنبي ببغداد؛فتفاجأت به حرّاً طليقا،وتفاجأ بي حرّاً طليقاً.كأننا رفيقان سجينان،قد فرّا من سجنيهما،فالتقيا صدفة،في وطن غير وطنهما،وبين قوم غير قومهما..وشرعنا نبوح بما في صدرينا من هموم ثقيلات ،باحتراس وحذر شديدين.ولم نُعرّج على الشعر طول الطريق(من شارع المتنبي حتى الباب الشرقي)إضراباً عنه ونسياناً له أو تناسياً؛إِذ أطمع فينا السلطان،وأصارنا هدفاً لرماته.ثم تداولنا مصائب مهنتنا التعليمية ،وما آلت اليه حال التعليم من هزال،بعد أن جعل الحزب الحاكم سير االمعلمين والمدرسين في ركبه شرطاً لإستمرار حياتهم اليومية.وبعد أن نصّب التلاميذ فيما يُدعى بـ (الإتحاد الوطني) في المدارس حكّاماً على أساتذتهم وزملائهم،وجواسيس يشون بهم الى منظماته السريّة.وبعد أن أكره أساتذة الجامعةعلى أن يتنازلوا عن عقولهم،وألا يفكّروا إلا بعقله الواحد.ولم نكد نفهم كيف يستطيع ان يحيا ذو الفكر مالم يكن عقله حيّاً وحرّاً؟.وأيقنا أنْ لم يعد لنا من مكان في التعليم،ولا حتى في أرض العراق الغنيّة الواسعة.ثم انعطفنا من شارع (ابو نواس)،الى شارع (السعدون)،وقد طال بنا المقام جالسينِ؛ونحن نحاذر الرقباء محاذرة الحمائم حبائل الصيادين.ومازلت أذكر آخر ماقال لي وهو يقاوم وجع جرح عميق:”لن اتنازل عن قيمتي في الحياة.وليعتقلوني،او ينقلوني،أو يفصلوني.ماذا يستطيعون أن يجعلوني؟أيّ شئ هو أرحم من ان ينضمّ الإنسان الى القطيع المساق..وتعانقنا عناق جنديين ينزفان في ساحة المعركة.لايريان غيرالدماء والأشلاء،ولايسمعان غير دويّ الأسلحة،ولا يرجوان غير سلامة الوطن.ولم أكن أحسب ذلك اللقاء وداعاً بيننا.بل حسبتنا سنلتقي بعد أن يزول الكابوس السياسي الجاثم على صدر العراق.وقد زال فعلاً،لكننا لم نلتقِ؛لأن الحاكمين الجدد الذين جئ بهم الى بغداد،بغفلة من التاريخ في سـنة 2003 م،قد أعادوا الكابوس نفسه بقناع آخر،وحالوا بيننا والوطن.ولئن زعموا أن شاعرنا واستاذنا قد مات؛فقد كذبوا.هيهات منه الموت.لن يموت شاعر الضمير.ألا انّهم هم الميتون هوناً وفساداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كانت مدينة النجف يومذاك تدعى (قائمقامية النجف).وهي تابعة إداريا لمدينة كربلاء التي كانت تدعى هي الأخرى (متصرفية كربلاء).(2) هو مدرس اللغة العربية الشاعر الأستاذ زهير غازي زاهد(الأستاذ الدكتور حاليا).(3)هو الشاعر الخطيب الشيخ عبد الصاحب البرقعاوي الذي أوكل اليه استاذي زهير غازي زاهد مهمة تدريبي على فن الخطابة قبيل موعد المباراة بأيام.(4)كوفئت على القصيدة كاسا من يد المحافظ السيد جابر حسن حداد وديوان شعر للمتنبي من يد رئيس بلدية كربلاء السيد صادق الخطيب مع إهداء بخط يده في 28/3/1968م .(5) مجلة الأديب ــ ديسمبر9619م ــ الجزء 12 ــص40 ــ بيروت ــ لبنان. (6)كلية التربية هي دار المعلمين العالية سابقا.وقد ألغتها الحكومة في 1969م،لكثرة المعارضين فيها لسياستها الإستبدادية مستبدلة اسم بنايتها باسم كلية الآداب.