يثرثر سائقو سيارات الاجرة من الشعوب السوفيتية سابقا ( وما أكثرهم الان في المدن الروسية الكبيرة ) مع الركاب في موسكو , ويذكروني بالقصص الطريفة عن ثرثرة الحلاقين في مادة القراءة بمدارسنا الابتدائية ايام زمان , وهذا ما حدث معي قبل فترة قصيرة في موسكو, اذ لاحظ سائق سيارة الاجرة ملامحي غير الروسية رأسا , وسألني بفضول واضح وصريح ومباشر – من اين انت ؟ اضطررت طبعا ان اجيبه عن سؤاله ( خصوصا واني لاحظت ان ملامحة وكلامه بالروسية تبينان بوضوح انه ليس روسيّا ), وقلت له اني من العراق , فصاح باندهاش واضح – آه لو كان المرحوم جدي يعلم , ان عراقي جلس معي في سيارة الاجرة التي أقودها في شوارع موسكو . تعجبت انا طبعا من رد فعله غير الاعتيادي هذا , ومن اندهاشه , ومن مضمون جملته تلك التي قالها لي , وسألته رأسا – وما علاقة جدك بكل ذلك ؟ فقال , لأن جدي قد مرّ في بغداد عندما سافر الى الحج مع مجموعة كبيرة من الحجاج الطاجيك الآخرين, الا ان الباص الذي كان يقلّهم قد تعطّل في بغداد اثناء تلك الرحلة, ولم يستطيعوا تصليحه رغم كل محاولاتهم , وقد احتاروا ولم يعرفوا ما العمل , فنصحوهم ان يتوجهوا الى السلطات العراقية بطلب للمساعدة و بالذات الى صدام حسين, وفعلوا ذلك فعلا , فجاءت المساعدة , وتم توفير باص جيد لهم , واكملوا سفرتهم الى الحج , وانتظرهم الباص العراقي هناك وعاد بهم الى بغداد , حيث وجدوا ان حافلتهم قد تم تصليحها مجانا من قبل السلطات العراقية, وهكذا عادوا الى طاجكستان سالمين , وقد بقي جدي يتحدث عن هذه الحادثة طوال عمره في البيت وفي كل مكان يحل به , وعندما تم اعدام صدام , كان عند جدي مأتم حقيقي , وكم حاولنا ان نقنعه , ان الشعب العراقي يفكّر بشكل آخر حول صدام , ويعتبره دكتاتورا قاسيا , ولكن دون فائدة , اذ كان جدي يكرر قصة مساعدته لهم عندما كانوا في رحلة الحج , ويقول لولا صدام لما استطاع لا هو ولا رفاقة من الوصول الى مكة واكمال مراسم الحج ولا الرجوع الى طاجكستان . صمت السائق قليلا , ثم سألني – هل فهمت الان لماذا قلت لك جملتي الاولى عندما عرفت انك عراقي ؟ ابتسمت أنا , وقلت له – نعم فهمت , فارتاح جدا لاجابتي , وأضاف قائلا – ولهذا قلت لك آه لو كان جدي يعرف ان عراقي جلس معي وانني حدثته عن هذه الحادثة المهمة جدا في حياته , ثم سألني – ما ذا تقول حول هذه القصة , التي نرويها في عائلتنا دائما و حتى بعد وفاة جدي قبل عشر سنوات من الان ؟ اذ اننا لا نستطيع نسيانها . قلت له ان جدك على ما يبدو كان انسانا بسيطا جدا وساذجا, وانه تأثّر بالحادث طبعا , ولكنه لا يعرف بتاتا ماذا عمل صدام في العراق طوال تلك السنين الطويلة التي حكم فيها , ففرح السائق بجوابي , وقال , اننا جميعا في عائلتنا كنا نقول له ذلك الرأي , ولكنه كان يرفض الاستماع الينا , وانني الان , عندما سأعود الى بيتنا في طاجكستان , سأحكى لهم ماذا قال العراقي الذي جلس معي في سيارة الاجرة في موسكو حول قصة جدي . سألته , وهل ستعود نهائيا الى بيتكم في طاجكستان؟ فأجاب بحسرة – ياليت , اذ ان هناك زوجتي و اطفالي , ولكني أعمل في موسكو لعدم وجود العمل هناك , وان والدي ووالدتي وزوجتي يعملون في طاجكستان , ولكنهم لا يستطيعون العيش حتى بشكل متواضع , ولهذا فانني مضطر ان أعمل سائقا في موسكو لمساعدتهم في العيش , وازور بيتنا في طاجكستان مرة كل ستة أشهر , ولمدة اسبوعين لا أكثر , وأعود الى العمل في موسكو . قلت له , الا تستطيع ان تعمل هناك سائقا ايضا , اذ ستكون عندها قرب عائلتك واهلك , فقال , ان السائق في موسكو يكسب أضعاف السائق هناك , وانه لهذا يعمل في موسكو , فقلت له , ولكنك تصرف هنا ايضا اضعاف ما تصرفه هناك , فقال لالالا , انا وخمسة من اصدقائي الطاجيك نعيش سويّة في غرفة واحدة صغيرة و متواضعة جدا نؤجرها في اطراف موسكو لأن الايجارات خارج موسكو أرخص , ونقتصد في كل شئ , و حتى في اكلنا وشربنا , من اجل ان نساعد عوائلنا هناك , ثم أضاف ضاحكا انه يرتاح فقط اثناء الاسبوعين تلك , عندما يزور بيتهم في طاجكستان , ويكون مع والديه وزوجته واطفاله , وتأسف جدا لان الايام الجميلة في تلك الاسبوعين تمرّ بسرعة مثل لمح البصر .
عندما وصلنا الى العنوان المطلوب , اعطيته اجرته (وبخشيشا ) جيدا ايضا , وقلت له , انها لشراء هدية متواضعة بهذا المبلغ لعائلتك , وان يقول لهم انها من العراقي الذي لا يؤيد بتاتا المرحوم جدكم في احاديثه , فضحك وقال , سأحكي لهم ذلك حتما , وستكون هذه القصة الجديدة المرتبطة بالعراق ايضا مهمة جدا في مسيرة حياة عائلتنا بطاجكستان.