27 ديسمبر، 2024 10:11 م

مع سائق أرمني في موسكو

مع سائق أرمني في موسكو

ما ان جلست في سيّارة الاجرة , فاذا بسائقها يقول لي رأسا بعربية ركيكة ولكن مفهومة – ( كيفك ؟). اندهشت انا طبعا من سؤاله, واجبته مبتسما – ( زوين ) , فقال لي بالروسية , انه لم يفهم جوابي , واضاف انه كان يتوقع ان اقول له – ( كويّس), فضحكت أنا واوضحت له باختصار ( صلب الموضوع !) , وهكذا بدأنا ندردش معا وبحيوية ومرح طوال الطريق , ورغم هذا المرح , فان المواضيع التي تكلمنا حولها كانت في غاية الاهمية والجديّة .
انه أرمني يسكن ويعمل في موسكو , وقد تعلّم عدة كلمات عربية من أصدقائه الارمن , الذين هربوا من سوريا . قال لي , ان هؤلاء الارمن يحنون للعودة الى سوريا ويعتبرونها وطنهم , رغم انهم واقعيا عادوا الى وطنهم الحقيقي ارمينيا , و ان الارمن كافة قد هاجروا فعلا من سوريا , وهاجروا ايضا من العراق , ولم يبق اي ارمني في العراق الان , رغم ان اجيالا منهم قد ولدوا و عاشوا هناك عشرات السنين . ابتسمت أنا , وقلت له , ان معلوماته ليست دقيقة , وانها تعتمد على اقوال فلان وفستان ليس الا , فسألني رأسا , وهل تعرف انت عراقيين ارمن لا زالوا يعيشون في العراق ؟ قلت له , نعم اعرف الكثيرين منهم , وهم عراقيون مثلنا جميعا . نظر اليّ باندهاش , وقال , انه يفهم الان لماذا الارمن الذين هربوا من سوريا يريدون العودة من وطنهم ارمينيا الى بلد هجرتهم سوريا , وانها لظاهرة غريبة فعلا بالنسبة لامثاله من الارمن . قلت له , ان الارمن من اصدقائي في العراق عراقيون بكل معنى الكلمة , وانهم عاشوا ودرسوا معي في الاتحاد السوفيتي وعادوا الى العراق بعد انتهاء دراستهم ليعملوا ويعيشوا في وطنهم العراق , مثل معظم طلبتنا آنذاك , رغم انهم زاروا وطنهم الاصلي ارمينيا , وكانوا يقدرون ان يبقوا هناك طبعا , ولكنهم عادوا الى العراق . سألني مرة اخرى , وهل انت تعرف بعضهم شخصيا ؟ فقلت له , لقد درست معنا وفي كليتنا ارمنية عراقية , وتزوجت من عراقي وولدت بنتا اسمتها سيفان , وهي تسمية البحيرة الارمنية الجميلة كما تعرف , وعادت الى العراق مع زوجها وابنتها بعد ان تخرجت في جامعة موسكو . سألني السائق , وهل زوجها كان ارمنيا ايضا ؟ قلت له لا , انه عراقي عربي , فسألني رأسا , هل هو مسيحي ؟ فقلت له لا , انه مسلم , فاندهش وسألني , وهل وافقت عائلتها على زواجها هذا , فقلت له , ربما لم يوافقوا كليا , ولكنها تزوجت قبل اكثر من خمسين سنة , وعندهم الان اولاد واحفاد , وهم لايزالون يعيشون في بغداد ضمن عائلة عراقية جميلة وعريقة , فقال , لو ان ابنته قررت الزواج بهذا الشكل لما وافق على ذلك ابدا , ضحكت انا , وقلت له , انني اعرف الكثير من الزواج المختلط في الاتحاد السوفيتي آنذاك , ومن بينهم زواج ارمنيات , فقال نعم , ولكن دون موافقة اهلهم كما يجب ان يكون الامر وحسب التقاليد الارمنية , وأضاف بحزن , بعد ان صمت قليلا , قائلا – لقد تعرّض الشعب الارمني الى حملات ابادة رهيبة , ويجب علينا الان – نحن الارمن – ان نحافظ على ما تبقى لنا , قلت له , ان الارمنية التي تتزوج غير الارمني تبقى ارمنية طوال حياتها , فقال نعم , هي تبقى ارمنية , لكن اطفالها لن يكونوا ارمن , اذ اننا لسنا مثل اليهود , الذين يعتبرون ان كل من يلد من امرأة يهودية هو يهودي بغض النظر عن جنسية والده او قوميته او دينه , وضحك وقال , ان اليهود شياطين , و قد وجدوا حلاّ لهذه القضية المعقدة جدا .
عندما اقتربنا من العنوان المطلوب , قال لي هذا السائق , انه ممنون جدا من موقف العراقيين والعرب عموما تجاه الارمن , وان هذا هو رأي كل الارمن الذين يعرفهم في ارمينيا او خارجها , وانه لهذا لا يريد ان يأخذ منيّ اجرة سيارة الاجرة تعبيرا عن امتنان الارمن لنا . رفضت انا هذا العرض ( الحاتمي !) من قبله , وقلت له , انك حتما تحتاج لهذا المبلغ البسيط منيّ ومن غيري من الركاب , للعيش في مدينة غالية مثل موسكو , فشكرني جدا على ذلك , وقال , انكم تتفهمون مشاكلنا , فنحن – ابناء الشعوب السوفيتية سابقا – نتصارع مع الحياة من اجل عوائلنا , كي نوفر لهم – وبالكاد – لقمة العيش الضرورية – ليس الا – في موسكو او في بلداننا هناك…