19 ديسمبر، 2024 1:03 ص

مع د. فاضل مرزوك في موسكو

مع د. فاضل مرزوك في موسكو

فاضل مرزوك أحد طلبتنا في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد ( الدراسات المسائية) في تلك السنين الخوالي بتسعينات القرن العشرين , عندما كنّا ندعو الى حرية الطلبة في اختيارهم لتخصصهم اللغوي في الدراسات المسائية ( نسبيا طبعا ) دون الالتزام الدقيق و الاعتماد فقط على مجموع الدرجات التي حصلوا عليها في امتحانات البكلوريا في الصف السادس الاعدادي كما هو معمول به في العراق, و رغم اننا لم نستطع التحرر كليا من تلك التعليمات المركزية الصارمة حول تلك التعليمات , الا اننا – مع ذلك – حاولنا قدر المستطاع الأخذ برغبة الطلبة في اختيار اختصاصهم , او في الاقل مراعاة هذه الرغبة , وقد ساعدنا بالطبع ان طلبة الدراسات المسائية كانوا بالاساس انضج و اكبر عمرا مقارنة مع طلبة الدراسات الصباحية . وهكذا بدأنا التعامل مع هذه التجربة, ونتيجة لكل هذه العوامل, كان انسجامنا الروحي والعلمي والتربوي مع طلبة المساء اكثر و اعمق من انسجامنا مع طلبة الصباح . وبالفعل , برز من ضمن خريجي الدراسات المسائية اناس متميزون في علميتهم , واستطاعوا اكمال دراساتهم العليا لاحقا في بلدان تلك اللغات التي تخصصوا بها , ومن جملتهم د. فاضل مرزوك , الذي حصل على شهادة الدكتوراه في اللغة الروسية من روسيا نفسها , وعاد الى العراق , وحاول – وبكل طاقته وامكانياته – ان يحصل على تعيين في جامعة بغداد / قسم اللغة الروسية ليمارس اختصاصه , ولكنه لم يستطع , اذ كانت امكانية التعيين مغلقة تماما امامه وامام زملائه الآخرين ايضا , وهكذا , وبعد ان فهم ان ابواب التعيين كافة مغلقة امامه , اضطر للعودة الى الخارج , واستطاع ان يشق طريقه في بولندا , مستخدما معرفته العميقة باللغة الروسية وشهادة الدكتوراه , التي حصل عليها في روسيا , وهو الان يقوم بتدريس اللغة الروسية في بولندا وبنجاح , ويقوم بين فترة واخرى بزيارة ( معهد بوشكين للغة الروسية ) , وذلك للمشاركة في الندوات العلمية والسيمينارات التي ينظمها المعهد المذكور للمتخصصين في اللغة الروسية , وقد التقيته في موسكو اثناء مشاركته في ندوة علمية عندئذ . اللقاء كان ( حارّا جدا !) بين معلّم يكنّ الاحترام لطالبه ويعرف تفاصيل مسيرته الدراسية منذ بدايتها , وطالب يكنّ اضعاف هذا الاحترام لمعلّمه ويعرف ايضا تفاصيل مكانته التربوية والعلمية ودوره المتميّز في كلية اللغات بجامعة بغداد , وبما ان هذا اللقاء حدث دون موعد مسبق وجاء عفويا , فانه كان طبيعيا جدا و دون رتوش كما يقال…
حكى لي ( ابو عباس ) كيف قابل رئيس جامعة بغداد عند عودته , وكيف حاول الحصول على التعيين , ولكن بلا جدوى , وكيف اضطر ان يقول لرئيس الجامعة , انه يتعجب كيف لا يعترف ( وهو خريج جامعة غربية !!) بوثائق علمية صادرة من جهات عالمية تشهد بامكانياته العلمية , وانه حصل على ذلك بعد جهد هائل , فسألته – وماذا قال لك ؟ أجابني ابو عباس , ان رئيس الجامعة قال لي اذهب الى هؤلاء الذين نصحوك بالعودة واطلب منهم ان يمنحوك وظيفة ما , وابتسم د . فاضل وقال , انه فهم بعد كل محاولاته الطويلة والعريضة, انه حتى رئيس الجامعة لا يقدر ان يصدر أمرا بتعيين اي شخص منذ فترة طويلة , ولهذا قرر السفر مرة اخرى , ووجد مكانا مرموقا ومحترما في بولندا لتدريس اللغة الروسية , والمساهمة في عملية البحث العلمي هناك . وقدّم د. فاضل لي عدة كتب باللغتين البولونية والروسية , تحتوي على بحوث كثيرة , وكان اسمه موجودا بين المشرفين على اصدارات تلك الكتب , ثم قدّم لي كتابا جميلا باللغة الروسية من تأليفه عنوانه – الوسائل الشفاهية لمفهوم العمر في اللغة الروسية , ويقع في 236 صفحة من القطع المتوسط , ووجدت على الغلاف الاخير للكتاب صورة فاضل مرزوك بشكل واضح وملوّن , وخلاصة تعريفية حوله باللغة الروسية تشير الى انه خريج جامعة بغداد وانه عضو في جمعية المترجمين العراقيين , اضافة طبعا الى شهاداته الروسية , وانه مدرس اللغة الروسية في الوقت الحاضر ومترجم محلّف . كتاب د. فاضل مرزوك , كما ارى , هو على الاغلب اطروحته , اذ انه يتكون من المقدمة وثلاثة فصول وخلاصة ختامية ومصادر البحث , الا انه لا يشير الى ذلك في كتابه . وفي كل الاحوال , شعرت بالفخر وانا اطلّع على كتاب روسي من تأليف متخصص عراقي , كان يوما ما طالبا يجلس امامي في صفوف كلية اللغات الحبيبة …
لم استطع بالطبع ان أقرأ البحوث باللغة البولونية في تلك الكتب , ولكني اطلعت على البحوث باللغة الروسية بشكل عام , وهي ذات طابع اكاديمي بحت , وقد توقفت طويلا عند بحث كتبه شونيكوف من جامعة العلوم الانسانية في موسكو حول الدراما الروسية المعاصرة , حيث يتناول بعض خصائص الدراما في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين , واثارني المقطع الخاص حول مسرحية عنوانها – ( نضج الكرز في بستان الخال فانيا ) , وهي مسرحية توحد مسرحيتين من أعمال تشيخوف ( بستان الكرز والخال فانيا ) , وتنقل ابطال تلك المسرحيتين الى احداث ثورة اكتوبر 1917 الروسية , وهي فكرة خيالية شجاعة وغير اعتيادية تماما .
اللقاء بين معلّم وأحد طلبته القدامى لذيذ دائما , خصوصا اذا كان هذا الطالب القديم قد أحرز خطوات كبيرة وناجحة في مسيرة الحياة …