أشرت في نهاية الحلقة الاولى من هذه المقالة الى ان الحديث مع د. خليل عبد العزيز قد تشعّب , واريد هنا ان اتوقف عند ( شعابه) هذه. سألته عن أخبار كتابه (محطات من حياتي ) , فقال خليل لي , ان الكتاب يباع بشكل واسع جدا في العراق , وقد اخبرني بعض
الاصدقاء بطبع اعداد اضافية منه وتسويقها دون حتى اعلامي او موافقتي , وأخبرني اصدقائي ايضا , ان الذين يقتنوه يبحثون فيه عن اجابات لعدة اسئلة تدور في ذهنهم حول المواضيع التي تناولها الكتاب , لعل اهمها سؤال كبير, وهو – ( لماذا انهار الاتحاد
السوفيتي ؟) , اذ ان هذا الموضوع كان بعيدا جدا عن توقعات ومفاهيم القارئ العراقي الاعتيادي, ولازال هذا الموضوع غير واضح المعالم لهم لحد الان رغم مرور اكثر من ربع قرن على ذلك الحدث الهائل , وضحك د. خليل وأضاف قائلا – ( لدرجة ان بعض
الشيوعيين العراقيين , الذين قابلتهم في بغداد , لازالوا يعتقدون بامكانية عودة الاتحاد السوفيتي مرة اخرى ) , وقد أيدّته في ذلك , وقلت له اني صادفت هذه الآراء الساذجة ايضا عند بعض العراقيين , الذين قابلتهم هنا وهناك. سألته عن مشاريعه اللاحقة بشأن كتابه هذا ,
فقال انه يحضّر الان طبعته الثانية , وستكون منقحة ومزيدة طبعا , اذ ينوي ان يضيف لها مقالات ظهرت له بعد طبع الكتاب المذكور حول مشاهداته وذكرياته الشخصية في الاتحاد السوفيتي ومسيرة الحياة اليومية فيه , وخصوصا تلك الانطباعات في الجمهوريات
السوفيتية الشرقية عندما زارها او تعامل مع بعض المسؤولين الكبار فيها , وأضاف د. خليل , انه سيبقي طبعا عنوان الكتاب ( محطات من حياتي ) كما كان في السابق , لكنه سيحذف من عنوان الكتاب الكلمات الاضافية – ( سجون / اغتراب / نضال ) , وسيبدل
حتما صورة الغلاف التي لم تعجبه في حينها , فقلت له ان هذه الخطوات بشأن الكتاب دقيقة وصائبة من وجهة نظري, اذ انه كتاب تاريخي مهم , وكم اتمنى ان يطلع عليه الكثيرون من القراء العراقيين , لانه يعكس وجهة نظر موضوعية وواقعية حول تلك المواضيع ,
فهو لا يهدف الى الطعن بالاتحاد السوفيتي كما هو الحال ببعض الكتب الدعائية المعادية للاشتراكية , وانما هو وثيقة صادقة وصادرة من قبل شخص واضح المبادئ والمواقف الفكرية , ويعتز بماضيه ومسيرته .
توسّع الحديث معه حول موضوع انهيار الاتحاد السوفيتي , وقال د. خليل , ان القيادة السوفيتية في السنوات العشرين من عمرها ( او أكثر ) كانت منعزلة عن الواقع تقريبا, واعطاني مثلا دقيقا حول ذلك , وهو ما حدث مع عبد الفتاح اسماعيل سكرتير الحزب
الاشتراكي اليمني ( اليمن الجنوبي) , اذ كان لديه موعد مع سوسلوف ( فيلسوف الحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك ) , وقد اخبره عبد الفتاح انه قلق جدا , اذ كيف سيقابل هذه الشخصية الشيوعية السوفيتية الفذة وماذا يمكن ان يقول له …الخ , وعندما التقى خليل به
بعد المقابلة تلك , قال عبد الفتاح له , ان الكلام الذي قاله سوسلوف عن اليمن غير دقيق بالمرّة , وانه اضطر ان يسكت كي لا يخبره برأيه ذلك , وكان عبد الفتاح اسماعيل مصابا بخيبة أمل مريرة بعد اللقاء مع سوسلوف. وحكى لي د. خليل حكاية اخرى غريبة حول
العقلية الساذجة التي كانت سائدة في الاوساط الاعلامية السوفيتية آنذاك , والتي اطلع عليها د. خليل بحكم عمله معهم . الحكاية هذه بسيطة جدا , فقد عرض التلفزيون السوفيتي مراسم دفن سوسلوف , وكان السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي ليونيد بريجنيف
طبعا مشاركا بها , وعندما أنزلوا الجثمان في القبر , بكى بريجنيف , وتم عرض هذا المشهد ( اي بكاء بريجنيف) في التلفزيون , وبعد العرض , تم فصل كل فريق العمل وكذلك مسؤولي برامج التلفزيون , لانهم عرضوا بريجنيف وهو يبكي , وذلك لانهم اعتبروا ذلك
بمثابة عرض لضعف الدولة السوفيتية امام الملأ , ولم يستطع احد ان يوقف هذه الاجراءات الصارمة وغير العادلة بحقهم رغم تعاطف الجميع مع فريق العمل ذاك . وقال د. خليل , ان الهمس والاستنكار و الانتقاد الشديد في الاوساط الاعلامية السوفيتية آنذاك ضد
هذه الخطوات الحمقاء كان شديدا جدا , ولكن دون اي فائدة , اذ كان الجميع يخاف ان يعلن موقفه الحقيقي بالنسبة لهذه الاجراءآت , ويختتم د.خليل كلامه قائلا – ( لقد تذكرت كل تلك المواقف عندما كنت في الساحة الحمراء بموسكو وانا اشاهد كيف يرمي الشيوعيون
الروس هويات الانتماء الى الحزب الشيوعي السوفيتي تخلّصا منها , بعد انهيار الاتحاد السوفيتي )…
تحية اعتزاز الى الدكتور خليل عبد العزيز , العراقي الاصيل , الذي شاهد في حياته مواقف تاريخية كبيرة , وتحدّث حولها لنا بكل صدق واخلاص وموضوعية …