23 ديسمبر، 2024 8:41 ص

مع د. خليل عبد العزيز في موسكو مرة اخرى (1)

مع د. خليل عبد العزيز في موسكو مرة اخرى (1)

وصل د. خليل عبد العزيز من ستوكهولم الى موسكو في زيارة قصيرة جدا وسريعة كما اعتدنا على هذه ( الزيا رات الخاطفات!) من قبل صديقنا العزيز عبد العزيز , الذي يجسّد روح الشباب وتطلعاته وخططه , رغم بيت الشعر العربي الذي ذهب مثلا حول ( الثمانين التي احوجت سمع الشاعر الى ترجمان) , ويجب علينا ( ان ندقّ على الخشب!) ونقول الحمد لله, اذ ان ( شكل د. خليل ومضمونه) لا يخضع بتاتا لبيت الشعر ذاك ولا يحتاج سمعه او ذاكرته ابدا الى ايّ نوع من انواع ال (ترجمان!) . هدف الزيارة الخاطفة هذه للدكتور خليل هو استلام وسام من تجمّع خريجي كلية الصحافة في جامعة موسكو بعد الاحتفال بمرور نصف قرن على التخرّج من تلك الكلية العتيدة ( انظر مقالتنا بعنوان – كتاب نصف قرن بالروسية ) , ولا اريد التحدث اكثر عن هذا الوسام التكريمي الكبير, الذي استلمه زميلنا عبد العزيز , واترك تلك المهمّة له شخصيا كما وعدنا , واريد هنا ان اتحدث قليلا وباختصار عن مضمون تلك الاحاديث الممتعة والطريفة والمهمة لتاريخنا , التي تزخر بها ذاكرة الدكتور خليل , الرجل ذو الروح الشبابية الحيوية المتدفقة , رغم كل تلك السنوات ( العجاف ) كما كتب هو عنها في كتابه الشهير – ( محطات من حياتي ).
قال لي خليل في بداية اللقاء , وهو يذكّرني بمقالتي الاخيرة عن السائق الداغستاني الذي استشهد برأي رسول حمزاتوف ( انظر مقالتنا بعنوان – مع سائق داغستاني في موسكو ) , انه قابل حمزاتوف مرّة عند مدير معهد الاستشراق الاكاديمي المشهور غفوروف , وسأله حمزاتوف ( هل قرأ كتابه عن داغستان ؟) , فأجابه خليل – ( نعم , ولكن بالعربية ) , فسأله رأسا – ( وهل الترجمة العربية للكتاب جيدة وتعكس للقارئ العربي روحية ذلك الكتاب ؟) , فقال خليل لحمزاتوف – ( الترجمة ممتازة , والقراء العرب يتابعون نتاجاته باعجاب وحب.) , فابتسم حمزاتوف وقال له ( ساجلب لك في المرة القادمة شيئا يعبق بعطر داغستان ) , ونسي خليل كل تلك الحكاية , ولكن حمزاتوف جلب له فعلا في زيارته الثانية لمعهد الاستشراق( بعد فترة طويلة) كيلوغراما من عسل جبال داغستان , وقال له , ان هذا العسل خاص ولا يباع في الاسواق , وان سكان الجبال يجلبونه له خصيصا اعتزازا بمكانته الادبية . وقال خليل لي , انه لحد الان يتذكر طعم ذلك العسل الرائع واللذيذ , رغم مرور اكثر من نصف قرن على تلك الحادثة , وانه تذكر طعم ذلك العسل عندما قرأ اسم حمزاتوف في مقالتي تلك . وجرّنا الحديث عن الشاعر حمزاتوف الى الحديث عن شاعرين من فلسطين هما محمود درويش وسميح القاسم , الذين قابلهما اثناء مسيرة حياته الحافلة , اذ تذكر خليل , كيف ان رئيس تحرير مجلة ( أغنيوك ) الاسبوعية السوفيتية الشاعر سفرونوف طلب منه مرّة ان يجلس معه في احدى المؤتمرات عندما قدّم سفرونوف لمحمود درويش الترجمة الروسية لمجموعة من قصائدة , والتي أصدرتها مجلة ( أغنيوك ) ضمن سلسلة الكتيبات الشعرية التي كانت تصدرها بمئة الف نسخة اسبوعيا , وحكى خليل كيف تناول محمود درويش الكتاب وفتحه وأشار الى مقطع في قصيدة وطلب من المترجم الروسي ان يقرأ له ذلك المقطع وان يترجمه له الى العربية رأسا, ففعل المترجم ذلك , وطلب منه ان يترجم له مقطعا آخر , ثم قال لهم – ( أنا لم أقل ذلك في قصائدي ) , وتوتر الجو طبعا , اذ ان المترجم الروسي لا يستطيع ان يقرأ تلك المقاطع بالروسية ويترجمها رأسا الى العربية كما كتبها درويش نصا وبهذه السرعة , وانتهت تلك ( الجلسة الوديّة !) بان نهض محمود درويش وترك المكان , ولم يأخذ معه الكتاب , بل أبقاه امامهم على المنضدة , وقد استاء سفرونوف جدا من هذا التصرّف غير اللائق جدا , وقال لهم ان ذلك يحدث لاول مرة في حياته . أما سميح القاسم , فقد التقى به خليل في برلين اثناء انعقاد احدى المؤتمرات , وذهب دون موعد الى غرفته , بعد ان سمع , ان بعض العراقيين بصقوا في وجهه عندما رأوه وهو يسير مع الوفد الاسرائيلي . فتح القاسم باب غرفته , فقال له خليل , انه عراقي , فأجاب سميح مستفسرا – ( هل جئت لتبصق مرة اخرى في وجهي ؟) , فاجابه خليل – كلا , بل جئت معتذرا عن ذلك . وحدثني خليل كيف دعاه سميح للدخول الى غرفته , وكيف تحدثا سوية عن تلك الحادثة , اذ اوضح خليل له , ان بعض اعضاء الوفد العراقي( تنرفز) من رؤية العلم الاسرائيلي , فقال له سميح , انه رجع الى غرفته وأجهش بالبكاء , لأنه يحب العراق والعراقيين كما يحب فلسطين والفلسطينيين , وان العلم المرفوع فوق العراقيين لا يرمز الى النظام الدكتاتوري هناك ( كان الحادث زمن نظام صدام ) , بل الى المكان الجغرافي المحدد , وانه فلسطيني في بلد محتل , وانه يصمد هناك رغم انه مواطن من الدرجة الثانية بسبب هذا الاحتلال, ولكنه لا يترك وطنه , بل يتشبث بارضه هناك , وان هذا هو الموقف الصحيح – من وجهة نظره – الذي يجب ان يقوم به كل فلسطيني.
الحديث الممتع مع د. خليل عبد العزيز يتشعب دائما , وهذا ما سوف اتناوله في الحلقة الثانية حول هذا اللقاء…