بقلم ايرين بانكو “جريدة انترناشيونال بزنس تايمز”
كانت نغمات اغنية “Jingle Bells” تتردد عبر سماعات احدى السيارات القديمة في مركز المدينة. انها اغنية مسيحية قديمة لكن بكلمات كردية ادخلت عليها لتتناسب مع لحنها. ثم جاء حوار ملفت عبر الاثير حيث بثت تلك الاغنية تساءل فيه متحدث اول قائلا “سانتا كلوز، كيف يعقل انك لم تأت لنا بالهدايا هذا العام؟” فجاء رد المتحدث الثاني بالقول “ذلك لأنني لم استلم مرتبي منذ 4 اشهر!”. ثم عرضت المحطة الاذاعية اغنيتين اخريين تتحدثان عن ازمات الحكومة الاقتصادية وتداعياتها. لكن بالنسبة للناس العاديين الذين يعيشون في مركز مدينة اربيل عاصمة اقليم كردستان، فأن الحياة من دون مرتبات تعني عدم وجود ما يكفي للإطعام العائلة، وحتى ان ذلك الوضع تسبب بنهاية بعض الزيجات كذلك.
يقول محمد علي، وهو مدرس لمادة التربية الفنية يبلغ الـ25 من العمر في كركوك، يقول معلقا “لقد تبقى لدي 5000 دينار فقط حتى استلم مرتبي القادم”. واضاف علي قائلا “لقد انتهت العديد من الزيجات بالطلاق بسبب عدم تلقي الناس مرتباتهم، وانني اخشى ان يزيد الموقف سوءا اذا ما بقيت الحال على ما هو عليه. ان الوضع العام ليس مناسبا للزواج هنا. وانا ليس بوسعي تحمل كلفة معيشة عائلة. ولوان زوجتي طلبت مني شيئا ما، فأنني عاجز عن دفع تكلفته”.
مثّل شهر كانون الاول الحالي خامس شهر يمر على سكان اقليم كردستان العراق من دون تلقي مرتباتهم من الحكومة. ولا يزال بعض هؤلاء الموظفين مطالب بالعمل من دون تلقي مرتبه كذلك، فيما وجد آخرون اعمالا هنا وهناك على المدى القصير لتمشية امورهم ودفع تكاليف حياتهم.
يتقاطر الرجال الذين يقفون صفا على الطريق السريع لأربيل كل صباح وعيونهم مفتوحة على سيارات البناء التي تطلّب عمالا غير ماهرين. ان بعض الشركات الخاصة تستأجر هؤلاء اذا ما تطلبت عملا اضافيا لتكملة انشطتها اليومية. اما في المدارس المحلية، فأن الاطفال يتقاطرون على صفوف الدراسة وهم يتقاتلون من اجل الجلوس على مقعد بعد ان تم تقليص كوادرهم التدريسية. و في هذه الاثناء, فأن خدمات الصراف الآلي متقطعة ولا تعمل يوميا كونها تملئ بالاموال الا بوتيرة متقطعة. كما ان العديد من المطاعم المحلية تعمل وفق نظام “انت مدين لي”. عبر انحاء المدينة وبالقرب من المطار الدولي، تبرز اعمال بناء عملاقة اكتمل بعضها ومنها ابراج
“امباير وورلد” التي تعد ابراجا لشقق فاخرة تضم مقرات لشركات تجارة وتعاقدات نفطية عالمية، فضلا عن موظفين حكوميين على صلة وثيقة بسوق النفط في المنطقة.
كما هو الحال مع العديد من دول الشرق الاوسط، يعرف عن العراق ان مجتمعه يضم فجوة اجتماعية واسعة ما بين الفقراء والاغنياء. وحسب احصاءات متخصصة، فأن ما يقرب من 20% من السكان، او ما يعني 7 ملايين انسان، يعيشون تحت خط الفقر. وحسب تصنيف البنك الدولي، فأن العراق يحتل المركز الـ120 في مجال التفاوت بالدخل على دول العالم دون سوريا ومصر ودول الخليج. ولا يقل عن العراق مرتبة من دول الشرق الاوسط سوى اليمن الذي يعد واحدا من افقر دول العالم على الاطلاق. لكن الفجوة ما بين من يحصل ومن لا يحصل تبدو هائلة في اقليم كردستان العراق على وجه الخصوص، حيث يعمل الآلاف من الناس في القطاع العام ولم يحصلوا على مرتباتهم منذ شهور في مقابل موظفين حكوميين وافراد عوائلهم الذين يجنون الملايين من صادرات البلاد النفطية.
تبعا لانخفاض التكاليف ومطاطية وغموض القوانين، اجتذب كردستان العراق شركات نفط عالمية خلال السنوات الماضية، حيث بدأت حكومة الاقليم بتصدير النفط بشكل مستقل عن بغداد. وفي هذه الاثناء، تتدفق مئات الآلاف من براميل النفط الخام من الاقليم نحو تركيا يوميا، غير ان عوائد هذه المبيعات لا تتوزع على الشعب حسب ما يقول السيد فؤاد حسين، وهو احد اعضاء لجنة النفط والغاز في محافظة كركوك التي تمثل مركزا تاريخيا لتصدير النفط في العراق. وقال حسين لجريدة انترناشيونال بزنس تايمز ان الاكراد يمثلون 7% من الناس العاملين في شركة نفط الشمال التي واحدة من كبريات شركات انتاج النفط العراقية.
واضاف حسين قائلا “ان المنافع المتأتية من خلال النفط يجب ان تعود على جميع الناس في المناطق المنتجة”. واضاف كذلك “لقد تم حرمان كركوك من حقوقها الطبيعية حيث يتوجب حصول المحافظة على دولارين من بغداد عن كل برميل نفط خام يتم تكريره. غير ان ذلك لم يتحقق كذلك. لقد عقدنا اجتماعات مع بغداد بهذا الخصوص، غير ان شيئا لم يتحقق على الارض”.
من دون استلامه لحصته من الموازنة عبر الحكومة المركزية، فأن اقتصاد كردستان العراق يترنح بشكل كبير. لقد هدأ القتال ضد تنظيم داعش بشكل نسبي، وان كان هذا الوضع قد يتصاعد من جديد اذا ما تمكنت المنظمة السنية الارهابية من ابتلاع اراض جديدة. قبل ايام قليلة، اعلنت حكومة اقليم كردستان قبولها لمنحة من البنك الدولي بغية المساعدة على تمويل الحرب ضد الجماعة المتطرفة، فضلا عن اعلانها عن خصخصة جزء من قطاع الكهرباء في الاقليم. وفي هذا السياق، تحدث رئيس وزراء الاقليم قباد
طالباني الى وسائل الاعلام مؤخرا حيث قال “انه تسونامي حقيقي”. واضاف كذلك “اما ان نرد و نستجيب للموقف اواننا سننزلق ونسقط. لذلك، فأن الخطوة الاساسية تتمثل في منع السفينة من الغرق”.
يمثل الخلاف المستمر مع حكومة بغداد جزءا اساسيا من المشكلة. لقد اتفقت حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية قبل عامين على ان يقوم الاكراد بتصدير 250000 برميل نفط خام يوميا من انتاج اراضيه الى جانب 300000 برميل من نفط محافظة كركوك المتنازع عليها، والتي تخضع حاليا لسيطرة الاكراد، حيث تسلم أقيام عوائد المجموع لصالح بغداد. في مقابل ذلك، تلتزم حكومة بغداد بدفع حصة الاقليم من الموازنة العامة والبالغة 17% منها. لكن حكومة بغداد لم تلتزم بنصيبها من الصفقة. وفي هذه الاثناء، واثر تلك الصفقة، تم تعيين الآلاف من الموظفين عبر انحاء كردستان العراق على اساس ان حصة الاقليم من الموازنة ستصل كاملة. لكن بما ان ذلك لم يتحقق، فأن هؤلاء توقفوا عن العمل، فيما المتعاقدون لم يحصلوا على مستحقاتهم منذ شهور، الامر الذي اوقف اعمال مشاريع البناء اجمالا.
تقدم كوران آزاد محمد للعمل بوظيفة حكومية كمدرس بعد تخرجه من الجامعة. وقد عمل محمد كمدرس في كركوك حيث يتقاضى ما يعادل 270 دولار شهريا. لكن محمد استدرك بالقول “ان ذلك لم ينجح، حيث اننا لم نحصل على مرتبات ولم يتم تجديد عقودنا. لقد اصبحت حياتنا صعبة جدا.”
يقضي محمد معظم يومه جالسا في البيت، فيما يتوجه احيانا للوقوف مع صف العمال غير الماهرين الذين ينتظرون سيارات البناء على الطريق السريع قرب منزله. اما الاطفال الذين كان محمد يدرسهم في كركوك، فقد اكتظت بهم الصفوف حيث يعمل المدرسون الذين تعينوا خارج النظام الحكومي على التدريس، وهم لا يزالون يتقاضون مرتباتهم، يعملون على التدريس بساعات عمل اطول مما تنص عليه عقودهم.
وقال محمد معلقا “ان التلاميذ يقومون بواجباتهم الدراسية، غير انهم يشعرون بالحزن لاضطرارنا للرحيل. ولم نقل للطلة اننا راحلون بسبب عدم دفع مرتباتنا، حيث اننا لم نرد ان نجعل الامر اكثر سوءا بالنسبة لهم”.
غير ان تجربة محمد ليست سوى تجربة شائعة جدا وحسب.
تخرج شالاك صلاح امين من الكلية عام 2012 وحصل على عمل من خلال نظام البترو-دولار في وزارة الشباب والرياضة في اربيل. حينما بدأ امين بالعمل بداية، قال انه كان يتقاضى مرتبه بانتظام مرة كل شهر. ثم تحول الامر الى استلام مرتبات بطريقة عشوائية الى ان وصل الحال به الى عدم تلقيه أي مرتب منذ شهور.
وقال امين معلقا “لقد اصبحت بلا عمل الان. لقد ارسلونا الى منازلنا وقالوا لنا انه ليس لدينا أي اموال لندفعها لكم”. ثم ختم كلامه قائلا “بالنسبة لي، فأنني مستعد لفعل اي شيء مقابل الحصول على المال و حسب”.