18 ديسمبر، 2024 8:45 م

مع بغداد كل الطرق تؤدي الى الافتراق

مع بغداد كل الطرق تؤدي الى الافتراق

لست هنا بصدد استعراض علاقة الكرد المأساوية بالدولة العراقية ، يكفي القول ان اصرار بريطانيا على ضم كردستان الجنوبية الى المملكة التي احدثتها للملك فيصل الاول كان بسبب خشية الملك من الكثافة العددية للعرب الشيعة، ورغبة منه في ايجاد نوع من التوازن بين الشيعة والسنة باعتبار الكرد في اغلبيتهم من السنة .
هذه الدولة المستحدثة لم تمتلك يوما ما مقومات النجاح ، وظلت شعوبها غير متجانسة وتسود علاقاتها صراعات عرقية ومذهبية دامية في كثير من الاحيان.
بالنسبة للكرد لم يجر التعامل معهم كمواطنين لا من قبل الحكومات العراقية ولا من قبل القوى السياسية العربية وبمختلف اتجاهاتها ، القومية والاسلامية والعلمانية ، كان الكرد مطالبون دائما بتأدية واجبات المواطنة دون ان تشملهم حقوق المواطن . وحيثما تحدث الكرد عن حقوقهم ، كانت الحكومات العراقية تلصق بهم تهم الخيانة والعمالة وما يتبع ذلك من شرعنة ممارسة العنف والاضطهاد ضدهم ، وبلغ قسوة الحكومات العراقية وكرهها للكرد ان استخدمت اسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين منهم بما فيهم الاطفال والنساء ، ومن نجى منهم جرى دفنهم احياء في الصحاري العربية الملتهبة . ورافق كل ذلك مصادرة اراض الكرد وممتلكاتهم واسكان العرب لتغيير الطابع الديموغرافي ، والغريب ان قلة من العرب رفضوا التوطين في الاراضي الكردية ، الاغرب من ذلك ان القوى السياسية العربية وحتى تلك التي كانت تعارض الحكومات العراقية كانت تتفق معها على اضطهاد الكرد، وحتى الشروع في ابادتهم ، الاكثر غرابة من كل ذلك ان اغلب العشائر العربية وما يطلق عليهم المثقفون والفنانون والادباء اي طبقة النخبة لم تعترض جديا على محو الكرد وازالتهم من الوجود وما سمي (تطهير الشمال الحبيب من الخونة ) ، حتى علماء الدين من الشيعة والسنة في العراق العربي لم يسمع منهم اعتراضا حاسما على عمليات الابادة المبرمجة الا في حالات خجولة نادرة . ما يقال عن امتناع المرحوم محسن الحكيم اصدار فتوى باحلال دماء الكرد لا دلائل ثبوتية حتى الان .
في العراق الجديد ، ونقصد به عراق ما بعد سقوط حزب البعث ، حاول الكرد تجاهل آلامهم والكوارث التي حلت بهم ، وانخرطوا في العملية السياسية وشاركوا في بناء دولة جديدة وفي صياغة دستور جديد ، كما قاتلوا بشراسة الموجة الداعشية المتوحشة دفاعا عن وطنهم وعن العراق ايضا .
لكن ومع مرور الوقت تبين ان العراق هو العراق القديم نفسه ، وان حكامه الجدد لايختلفون في النظر الى حقوق الكرد عن غيرهم ، ويستكثرؤن على الكرد حق المواطنة ، وتبين ان حالة التعامل السلبى والعدائي مع الكرد لاتختلف باختلاف الحكام سنة كانوا او شيعة ، بل يقتنع الكثيرون ان صدام نفسه لم يكن يفعل مع الكرد ما فعله حكام الشيعة من مصادرة رواتب الموظفين وقطع ميزانية الخدمات واموال الارامل واليتامى بحجة اختلافاتهم مع قيادة حكومة كردستان او الاحزاب السياسية الكردية , وعلى طول عهد صدام لم يسمع احد ان المواطن الكردي في بغداد مهدد بالقتل لمجرد هويته . اما في ظل الحكم الشيعي، وهو يكاد يتهاوى من الضعف، فألكردي ليس مهددا فحسب انما يجري قتله فعلا . فما تضن لو كان يمتلك قدرات صدام وحكم البعث ؟ اين يكمن الفرق بين حزب الدعوة الشيعي وحزب البعث بالنسبة لطموحات الكرد في التعامل معهم كمواطنين عراقيين ؟
يقول البعض ان ما يجري من اظهار العداء للشعب الكردي وقطع الارزاق والدواء عنه سياسة شيعية مبرمجة لدفع كردستان للانفصال وما ينجم عن ذلك من غلبة الطائفة الشيعية على ما يتبقى من العراق والسير به الى حكم ولاية الفقيه .
مهما كانت السياسة الشيعية او السنية وكيف يتم توصيفها او تحليلها وتفسيرها لم نعد نفكر بها مقدار قشة ، بعد ان اقتنع شعب كردستان اليوم ان تجربة ما يقارب المائة عام مع عرب العراق كانت تجربة فيها من المرارة ما يشبه الحنظل ، وان كل السبل للبقاء في دولة اجبر على الانضمام اليها عند تكوينها قد نفذت ، وان لا طريق يوحدنا في السير معا . يؤسفني القول ان العقلية العربية الحاكمة في العراق ، عقلية هاوية للتسلط والقمع والاكراه ولا تجيد التعامل مع عناصر غير عربية ، انها عقلية مستكبرة وجامدة لا تقبل النقاش ولا الاختلاف ولا التنوع ، عقلية القبيلة التي تحرم الماء والكلاْ عن جارتها .
ما يقال عن تجربة الحكم في كردستان واخطاء الحكومة الكردية في عدد من المجالات وعدم نجاح سياستها الاقتصادية وتشرذم القوى السياسية ، وما ينجم عن الاستقلال من مشاكل وصعوبات وربما تضحيات، فهذه مواضيع اخرى لا تخفي حقيقة ان دولة كردستان ضرورة لحياة الكرد كالماء والهواء، وحق مشروع لا رجعة عنه طالما اصبح الشعب الكردي يمتلك شعورا ان دولة العراق لم تعد تعنيه.