23 نوفمبر، 2024 4:28 ص
Search
Close this search box.

مع اللاجئين الروس في باريس

مع اللاجئين الروس في باريس

سمعت عن اللاجئين الروس خارج روسيا السوفيتية  قليلا جدا عندما كنت طالبا بالاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن العشرين , وكان جوهر ما سمعته سلبيا  طبعا , اذ كانوا يقولون عنهم  في الاوساط السوفيتية انهم ضد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 , و انهم كانوا الى جانب القيصر الروسي وجيشه (الابيض) في الحرب الاهلية مع الجيش ( الاحمر ) السوفيتي , وانهم خانوا وطنهم وانتقلوا الى صفوف الاعداء الرأسماليين وهربوا  للعيش في بلدان هؤلاء الاعداء , وانهم لازالوا ينسقون الخطط  والمشاريع المضادة للاتحاد السوفيتي ويعرقلون مسيرته وتقدمه الى امام…الخ الخ.. . وهكذا وصلت الى باريس بعد انهاء دراستي في الاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي وكنت مشبٌعا بهذه الافكار والتصورات السلبية عن اللاجئين الروس هناك .
 شاهدت في الايام الاولى لوصولي الى باريس جريدة روسية تباع في اكشاك الصحف في الحي اللاتيني اسمها ( روسكايا  ميسل) ( الفكر الروسي ) , وهي تسمية لمجلة فكرية روسية شهيرة في القرن التاسع عشر بروسيا القيصرية , وقد أثارت اهتمامي بالطبع , فاقتنيتها رأسا , لاني فهمت انها ناطقة باسم هؤلاء اللاجئين الروس في فرنسا , واردت ان اعرف ماذا يكتبون في نهاية ستينيات القرن آنذاك بعد اكثر من اربعين سنة على انتصار ثورة اكتوبر في روسيا , واكتشفت طبعا – وبكل وضوح – انهم مضادون للدولة السوفيتية فعلا ولسياستها ونهجها بشكل عام , ولكني وجدت في سطورها – مع ذلك – حبهم العظيم والمتأجج  لروسيا واعتزازهم بها وبثقافتها , و هكذا بدأت بشراء هذه الجريدة  بشكل دائم و الاطلاع عليها , وحدث مرة ان اشترى احد اللاجئين الروس العدد الاخير من الكشك امامي , و لم احصل – بالتالي- على ذلك العدد , وقد لاحظ هو طبعا خيبتي عندها, وهكذا بدأنا نتكلم بالروسية , فسألته من اي مدينة هو فقال من موسكو , وانه هاجرالى باريس قبل اكثر من اربعين سنة , ولم اعرف ماذا اقول له , فسألته ( كي لا استمر بالصمت ) الا تشتاق لمدينتك موسكو؟ فاذا به ينفجر بالبكاء وهو يكرر جملة – ( كيف لا اشتاق لها) , وتحول البكاء الى عويل وذرف دموع , ثم كاد هذا الرجل ان يسقط على الارض من شدة التأثٌر والبكاء , فحاولت اسناده  كي لا يسقط على الارض , واوصلته الى سياج حديقة قريبة , وقلت له اني اعتذرعن سؤالي, واني مستعد ان اوصله الى بيته . وقف مستندا الى السياج وهدأ بالتدريج , ثم توقف عن البكاء , فودعته وغادرت المكان مسرعا , ولا زال هذا الموقف ماثلا امامي لحد الآن , واصبحت بعد ذلك حذرا جدا من طبيعة الاحاديث معهم عند الاختلاط بهم .   
اثناء حضوري في محاضرة استاذتي المشرفة في جامعة باريس البروفيسورة صوفي لافيت ( هي طلبت مني ان احضر واستمع الى محاضراتها ) , جلست في نهاية القاعة لاني لم ارغب ان انافس الطلبة الفرنسيين الشباب الذين كانوا يجلسون في المقاعد الامامية , وكانت جنبي سيدة , من الواضح انها كانت اكبر مني سنا , ومن الواضح ايضا انها كانت طالبة دراسات عليا ,  اي ان وضعها مشابه لوضعي . بعد المحاضرة سألتها بالروسية عن بعض النقاط التي لم افهمها بالفرنسية عن دستويفسكي , فاوضحتها لي  بكل رحابة صدر, وسألتني بعد ذلك – هل انت من القوقاز ؟ فقلت لها انني عراقي وقد انهيت دراستي في الاتحاد السوفيتي , ففغرت فاها ( كما يقولون) متعجبة وقالت انها ترى لاول مرة في حياتها شخصا من العراق ويتكلم الروسية , وهكذا بدأنا نتحدث قليلا عن دراسة الادب الروسي في الاتحاد السوفيتي , ثم  دعوتها لشرب القهوة في القسم الداخلي والتعرف هناك على زوجتي . بعد ذلك اللقاء الطريف , دعتنا هي  بعدئذ للتعرف على زوجها ووالدتها , وهكذا تطورت العلاقات العائلية بالتدريج , وعن طريقها دخلت مجتمع اللاجئين الروس في باريس , واكتشفت عوالمهم الثقافية الرائعة , اذ كانت لديهم عروضا سينمائية اسبوعية , ونشاطات ثقافية وادبية حول الادب الروسي ورجالاته ,  وقاعة خاصة للمناسبات المختلفة , وكانت لديهم مكتبة عامة غنية جدا بالكتب والمصادر الروسية المتنوعة, ومخزن لبيع الكتب الروسية المختلفة , ودور نشر تصدر كتبهم ومجلاتهم وجرائدهم الروسية , وكانت لديهم قاعة خاصة للعروض الموسيقية , حيث تعزف فرقهم الموسيقى الروسية الكلاسيكية و يقدمون فيها الاغاني الشعبية ايضا , وينظمون مختلف الفعاليات الفنية بالمناسبات المرتبطة بتاريخ روسيا واعلامها وفنانيها , وكانوا بشكل عام بعيدين عن السياسة وعوالمها, رغم انهم كانوا يرتبطون روحيا بتاريخ روسيا القيصرية واحداثها التي عاشوها  اثناء ثورة اكتوبر 1917 والسنوات التي اعقبتها , وكان كل واحد منهم يمتلك قصتة الخاصة به , تتناول كيفية خروجه من روسيا وسفره عبر بلدان العالم , والمخاطر التي تعرض اليها, وكيف وصل الى باريس , وكيف بدأ بشق طريق الحياة الجديدة هذه ووو ..الخ …, وكانوا يحبون الحديث التفصيلي عن كل ذلك , وكانوا يثقون بانهم سيعودون الى بلدهم عاجلا ام آجلا , وكنت بعض الاحيان اتناقش معهم حول هذه النقطة بالذات , وأقول لهم  , ان الاتحاد السوفيتي دولة قوية عظمى وتقف بثبات على الارض , الا انهم كانوا لا يتقبلون مني تلك الافكار , بل أذكر ان الدكتور نيكيتا ستروفه – الاستاذ في جامعة باريس آنذاك قال لي مرة , انهم يتوقعون انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن العشرين , لان هذه الدولة , حسب رأيهم , مبنية على اسس غير واقعية و ليست علمية دقيقة وتتعارض مع طبيعة الحياة الانسانية ( الحديث عام 1968 تقريبا ), ولم اتفق معه بتاتا حول ذلك , بل رفضت تلك الاقوال جملة وتفصيلا , فقال لي مستخدما المثل الروسي , الذي يمكن ترجمته باللهجة العراقية –  (نعيش ونشوف ) , وقد تحدثت طويلا بعدئذ مع زملائي حول ذلك النقاش معه , معتبرا هذا الحديث نموذجا لعدم فهم اللاجئين الروس للواقع السوفيتي , ونسيت هذا الحديث بعد فترة , ولكني تذكرته في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفيتي فعلا وبمثل تلك السهولة. ولا مجال هنا – بالطبع – للخوض في هذا الموضوع المعقد والشائك , والذي لازال يثير نقاشات حادة بين المواطنين الروس انفسهم لحد الان في الصحف والندوات التلفزيونية ووسائل الاعلام الروسية المختلفة حتى بعد مرور ربع قرن على ذلك الحدث التاريخي الكبير. لقد ذكرت هذا المثل هنا , كي أقول , ان الآراء التي سمعتها من بعض اللاجئين الروس في باريس آنذاك كانت صحيحة فعلا , وانها لم تكن عاطفية او سريعة كما كنت أظن  عندها, او انها جاءت رد فعل للهجرة من الوطن ليس الا , وانما كانت تعتمد على تحليل علمي سليم وطويل النفس , ولم نستطع نحن في مقتبل عمرنا ان نتلمسه او نحس به  عندما عشنا في روسيا ودرسنا في جامعاتها , خصوصا وانه كان لدينا رأي ايجابي مسبق  حول نظامها السياسي السوفيتي , رغم اننا لم نكن نعرف – كما يجب – خفاياه وشعابه وصفاته والصراعات المخفية في اعماقه …الخ , اذ ان ذلك كله  كان يقتضي خبرة طويلة في معترك الحياة لم نكن نمتلكها في ذلك العمر اليافع , ولم نمتلك ايضا معرفة عميقة في تاريخ روسيا وخصائص شعبها والصعوبات التي كانت تعاني منها , بل اننا كنا نشاهد في مسيرة الحياة السوفيتية بعض الظواهر السلبية الواضحة , ولكننا كنا نحاول تبريرها  بشتى المفاهيم الساذجة .
موضوع اللاجئين الروس خارج روسيا يستحق التأمل الهادئ والدراسة العميقة وتبادل الآراء المتنوعة بشأنه مع الآخرين من الذين تعايشوا مع هذه الظاهرة  , خصوصا وان الهجرة اصبحت – ومع الاسف الشديد –  جزءا من حياتنا اليومية في هذا الزمن الردئ .

أحدث المقالات

أحدث المقالات