23 ديسمبر، 2024 3:18 م

مع السيد محمد باقر الصدر في ذكرى شهادته

مع السيد محمد باقر الصدر في ذكرى شهادته

من الصعب ان تبني ومن السهل ان تهدم ليخر امامك هذا البناء الذي صرفت العمر والجهد من اجله . من الصعب ان تبني انسانا وتسبكه ليكون عقلا جبارا يفيد الوطن والبشرية ومن السهل ان تفرط به برصاصة واحدة او حبل مشنقة بسيط بتهمة باطلة مكشوفة موجهة اليه من حاكم غبي متسلط . ان اكتشاف المواهب صعب وكم من موهبة انماثت في النسيان وكان من حقها ان تجلّى وتفيد . هناك فرق بين من يبني بيتا وبين من يبني رجالا وعقولا والاصعب والاقسى ان تفقد عقلا جبارا لاتلقى مثله وبنّاءً ماهرا قل نظيره .
يبني الرجالَ وغيرُه يبني القرى * شتانَ بينَ قرىً وبينَ رجالِ
في التاسع من نيسان هوى نجم من نجوم العلم وخر جبل من جبال المعرفة ومفخرة من مفاخر الحوزة العلمية في النجف الاشرف والعالم الاسلامي بيد غدر جهلاء اقل ما يقال عنها انها عار على كل شيئ طالته فضلا عن حكم طال سنين طوال كانت حصيلته الموت والدمار والدماء وقد انهاه بالتمهيد لهذه الريح السوداء التي لفت الانسانية المسماة بداعش .
سقط هذا الشموخ العلمي والصرح المعرفي بيد وسخة لا تعرف قيمة للعلم ولا المرؤة ولا الانسانية وما تلقت التربية ولا النشأة المستقيمة من خلال بيئة متعثرة خائبة فيها الهبوط وغياب الضمير انها يد عوجاء برزت لتعوّج بناءَ العراق وتعدم خيرة ابنائه وعقوله .
هوى شمس وقمر من سماء العراق بشهادة السيد واخته الطاهرة الشريفة فخيّم ظلام باقية اثاره الى يوم الناس هذا . انه اعتداء على هيبة العلم وقداسته عندما امتدت يد صدام الأثيمة شخصيا لتمثّل وتقتل السيد واخته فهو تدنيس لساحة العلم والبحث والدرس والتحقيق واستخفاف بقمة شامخة من قمم المعرفة والدين .
كان الشهيد الصدر مميزا في كل شي واعجوبة في العلم والخلُق ما قابله انسان الا وخرج منه مشدوها ومتعجبا من اخلاقه العالية وتواضعة وعلمه الجم الواسع لم يقلد احدا منذ بلوغه وتكليفه . دخل عالم التاليف في عمر الحادية عشرة عندما الف كتاب ( فدك في التاريخ ) يقول السيد عن نفسه كما ينقل السيد كمال الحيدري وهو من تلاميذ السيد الشهيد يقول اول كتاب الفته عندما كان عمري الثامنة وبلغت الاجتهاد دون العشرين بجدارة .
يقول السيد الصدر ما طرقت علما الا وكنت على راسه وهذه حقيقة واضحة من خلال مؤلفاته التي اتقن فيها كل شيئ وتميزت بالعمق والرصانه العلمية والبرهان القوي والدليل الواضح البين فعندما الف كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) ارادوا ترجمته الى الانجليزية فما استطاع المترجم ان يتمه وطلب من السيد الصدر ان يبعث له
احد تلاميذه ليشرح له الكتاب وكان قد بلغ مقدمات الفكرة الاساسية في الكتاب فكيف اذا بلغ وسطه ونهاياته . قال السيد الخوئي رحمه الله ما مسكت كتابا من اوله او وسطه او اخره الا وفهمت ماذا يريد الكاتب الا كتاب الاسس المنطقية للاستقراء للسيد محمد باقر الصدر.
ملئ السيد الصدر فراغا فكريا دام اكثر من الفي عام على مستوى البشرية وليس على مستوى الاسلام والمذهب ما ملأه غيره فقد استطاع ان يعطي فكرا على مستوى الانسانية وهو الوحيد الذي استطاع ذلك في تاريخ الاسلام .
كان علم الفقه كالعجينة في يده متسلطا عليه غاية التسلط وابدع فية قمة الابداع ، فلقد جمعه نقاش مع استاذه السيد الخوئي لمدة ساعة كاملة استطاع السيد الصدر ان يقنعه باستبدال عشر مسائل فقهية في موضوع الحج وكان السيد الخوئي يطلب من السيد الصدر ان يراجع رسالته العملية قبل ان يطبعها .
كان السيد الصدر قدس سره يعيش هموم ومشاكل الناس ويشعر بخطر الافكار الغريبة التي تغزو المجتمع فلم يكن ملَّماً بالعلوم الحوزوية حسب بل شمر عن ذراعية لمناقشة ورد الافكار اليسارية والشيوعية التي كانت تدخل الى العراق وبالاخص النجف الاشرف حاضنة العلم والعلماء فقد كان كثير الاطلاع على الفلسفة الماركسية والاعمال الفكرية لكثير من الفلاسفة الغربيين وقد ناقشها واستطاع ان يبطل احدوثتها وفندها من خلال كتبه القيمة .
عاش السيد الصدر مظلوما في حياته ومماته فلم يعرف الناس قدر علمه ولا النظام البعثي وانى له ذلك وهو جاهل في كل شيئ الا القتل والحرب والدمار . قال استاذه السيد الخوئي كان السيد الصدر مظلوما لانه ولد في غير بيئته فلو كان مولودا في بيئة اخرى لعرَفْتَ كيف يكرمونه ويقدرونه .
وجاءت الطامة وحوصر السيد الصدر وضربت عليه الاقامة الجبرية من قبل امن البعث العابث ، واعتقل بعدها وخرجت اخته آمنه الصدر الى حرم امير المؤمنين صارخة بوجه الظلم كما صرخت امها العقيلة زينب منبهة الناس ان السيد اعتقلته السلطة الظالمة وعليكم التحرك لانقاذه من براثن البعث ولكن كان مصيرها رحمها الله الاعتقال وكما اخبرو القوا جسدها الطاهر في التيزاب بعد ان عذبوها والسيد اشد العذاب ، وهكذا فَقَدَ العلم والانسانية كنزا وعَلَما لم ياتي مثله وهكذا شاءت ارادة الباري تعالى ان يُقتل هذا العلم البارز الطاهر على يد احقر خلقه كما قتل جده الحسين .
ولم يكتف البعث الصدامي باعدامه بل اراد ان يمحوه من ذاكرة الناس لانه يشكل خطرا داهما على الظالمين ويولد لهم خوفا مستديما حتى بعد شهادته ، وغاب عنهم انه بنى له بيتا في قلب كل شريف ، وهكذا هو ديدن الطغاة عندما ارادوا ان يمحوا قبر جده الامام الحسين ، اراد ان يُنسي العراقيين كل شيئ عن سيدهم عندما
اخفت السلطة قبره الشريف وهدموا بيته ظنا منها انها تتمكن من اخفاء هذا الجبل والنور العلمي وهذا هو كيد الضعيف المنكسر على مر التاريخ .
كانت جريمة اعدام اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر جزءً من مؤامرة خبيثة لارجاع العراق الى عصور التخلف والظلام من خلال خطة شوهاء فقماء ماسونية صهيونية لاغتيال وتغييب عقول وطاقات العراق الواعدة من اجل شل هذا البلد ومنعه من النهوض والتقدم وشق طريق التطور في الحياة وذلك عن طريق قتل علمائه وخَلْقِ حالة من الفساد والجهل المستديم كان صدام الجزء الرئيسي منها عندما تطاولت عصابة البعث على هذا الرمز وبهذا الشكل المخيف ليبقى الناس فوضى لا سراة لهم ولا نظام ، وما اغتيال العلماء العراقيين في كافة المجالات بيد صهيونية اسرائيلية بعد سقوط الصنم الصدامي الا اتماما لخطة بدات من اغتيال السيد الصدر ليعيش البلد في ظلام دامس لا يرى النور والاستقرار لفترة طويلة لا يعرف مداها الا الله .
لقد ضحى السيد الصدر بحياته من اجل الدين والوطن واستقرار المواطن ليعيش في امن وكرامة ، وانقاذه من حكومات جهلاء توالت على حكم العراق لم يذق الوطن طعم الهدوء فاراد السيد ان يخلص العباد والبلاد من موجات الظلام التي تعاقبت على السلطة وجعلته مسرحا للقتل ، وكمّ الافواه المطالبة بالتغيير وتنفس الحرية والكرامة ، ولكن فرّط المدعون لحمل فكر السيد الشهيد بدمه وتضحيته من خلال ادارة وسياسة فاشلة للوطن لم يجن منها الناس الا الموت والعذاب من قبل عشاق للسلطة نزعوا ثوب الدين وابقوا منه مايخدعون به الناس من مظاهر فارغة سمجة مكشوفة فاضحة يقضمون بها اموال الوطن قضم الابل نبتة الربيع .
لم ترعوا له حرمة عندما جعلتموه دكانا ترتزقون منه واخذتم تقعقعون باعلى الصوت بمظلوميته والبكاء عليه زورا ونفاقا اذ نبذتموه وراء ظهوركم ووضعتم مبادئه التي مات من اجلها تحت اقدامكم . لقد بنيتم في مكان زائل وهدمتم في مكان لا يزول ولا يحور فبئس العقول عقولكم وبئس الايمان ايمانكم ، وبعتم كل شيئ بزَبَد الماء ورغوة السيل وكانكم لم تموتوا لتحاسبوا وتساءلوا عما فعلتم ، لم توفوا للسيد الشهيد ولم تقدروه حق قدره وسيكون شاهدا عليكم يوم لا تظلم نفس شيئا ويكون الحكم كله لله .
لَئِنْ يكُ اخفى القبرُ شخصَكَ في * الثرى فهيهات ما اخفى فضائَلك القبرُ
لقد كنتَ سرَ الله بين عباده * ومن سننِ العاداتِ ان يُكتمَ السرُ
فطوبى لقبر انت فيه مغّيب * فقد غاب في اطباق تربته البدرُ