إن العالم بعد كورونا لن يكن مثلما كان قبله، كما كان العالم بعد الحادي عشر من أيلول غير العالم بعد الحادي عشر من أيلول.
سقوط الغرب – رأسمالية السوق والاقتصاد الحر- أمام امتحان فيروس كورونا يضاهي سقوط الاتحاد السوفيتي وجدار برلين – أي ما نسميه نحن بـ (رأسمالية الدولة). بيد أن الفارق بين الاثنين، هو أن سقوط الأول سيكون أكثر دويا من الثاني على الرغم من أن دويه اي الثاني كان مفتعلا ومصطنعا بفعل توظيف كل الطبول الدعائية والفكرية والسياسية لتعظيمه والمبالغة من قبل الغرب الديمقراطي، غرب “تعظيم الفرد والفردانية”، غرب تمجيد الاقتصاد الحر، اقتصاد ريكاردو (دعه يعمل دعه يمر)، غرب الفوضى الخلاقة، غرب الليبرالية الجديدة ومدرسة شيكاغو الاقتصادية، وظل يهتف بكل مفكريه وسياسيه واقتصاديه والممولين من مراكز الدراسات والأبحاث بشكل مريح لسنوات وسنوات إلى الحد الذي صوره المفكر اليميني الأمريكي فرانسيس فوكوياما بتعريف ذلك السقوط اي سقوط الكتلة الشرقية بأنه نهاية التاريخ، وخلود النظام الديمقراطي الليبرالي. كان يبغي من وراء كل تلك الطبول في تخليد البقاء للأصلح كما عبر عنه بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني عندما أفصح عن سياسته تجاه مرض كورونا في بريطانيا بأن الطبيعة هي التي تحدد وتقوض انتشار الفيروس عبر “مناعة القطيع”.
اليوم يسقط الغرب ونظامه الديمقراطي الليبرالي، الذي اعمي بها عيون البشرية أمام فيروس كورونا، دون أن ينفق اي شخص في هذا العالم الرأسمالي، سنت واحد على وتر واحد من أية آلة موسيقية أو على هتاف صوت واحد أو اهتزاز حنجرة واحدة لدوي ذلك السقوط. و لا يسعنا إلا أن نشكر فيروس كورونا الذي بين أن كل تكنولوجيا الغرب وتطوره العلمي لم يكن لحساب الإنسان وعموم البشرية في المجتمع. وهذا ما سعى أمثال فوكوياما إلى إخفائه، بينما كشف عنه فيروس كورونا.
إذا كان معيارنا الإنسان، وإذا كانت فلسفتنا الأصلية تبدأ وتنتهي وتتركز أصالتها حول حقوق الإنسان بالمعنى المطلق للمقولة التي تشدق بها الغرب، فان أسطورة تفوق الغرب كانت فقاعة، وبينت انه لم يتفوق فيها إلا عبر آلة الدعاية والكذب والنفاق التي اخفت كل عيوبه ومعاداته للإنسانية. وهنا نتحدث عن الغرب كنظام رأسمالي، طالما عزفوا له واخفوا كل الزبالة تحت طاولته بأن الإنسان “الفرد” ذات هو القيمة العليا. ها هي الفردانية ترتد عليه، فكل دولة أخذت تنأي بنفسها عن الأخرى، وحتى الاتحاد الأوربي الذي عبر عنه الرئيس الصربي اليميني بامتياز؛ إن التضامن العالمي غير موجود، والتضامن الأوربي غير موجود وانه قصة خرافية على الورق..
من يتذكر الحادي عشر من أيلول، العملية الإرهابية في نيويورك عام ٢٠٠١، أو من يتذكر سقوط الموصل بيد عصابات داعش وإعلان دولة الخلافة الإسلامية في حزيران ٢٠١٤، وكيف أبدت الأنظمة السياسية في كل العالم عن تضامنها مع الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، أو كانت تتسابق جميعها بالدخول في تحالف تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، بينما يحجر نفس العالم وخاصة الغربي على نفسه خوفا من اجتياح فيروس كورونا، يدرك أن هناك معيار واحد للتضامن في فلسفة النظام الرأسمالي، هو معيار المصالح والخوف على أسواق البورصات واسهم الشركات ومنافذ الطاقة، وتغيير الخارطة الجيوسياسية التي قد تضرب مصالح شركاته ومؤسساته الاقتصادية والمالية. في حين أن المعيار الإنساني، الذي كشفه لنا مشكورا فايروس كورونا، غاب كليا ويختفي فيه عنصر التضامن والتعاضد الإنساني الذي أظهرته تلك الدول بشكل زائف تحت عناوين “الحرب على الإرهاب”.
لقد طمست كل الأنظمة الغربية رأسها داخل حدودها الجغرافية، وباتت لا ترى غير أسواقها القومية التي يهددها فايروس كورونا. فعندما تعزل البشرية نفسها في بيوتها، وتمتنع على تشغيل دولايب المصانع والمعامل، وتعزف عن التسوق، ويشغلها شغل واحد هو البقاء على قيد الحياة، حينذاك فقط؛ تدرك البرجوازية أنه لا خلاص لها ولا لإرباحها ورأسمالها دون إنقاذ تلك الجموع من اجل دوران رأسمالها. إلا أن “العولمة” وهي الاسم الحركي لعالمية رأسمال المال وتحدث عنها ماركس وبعده لينين في كتابه “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، تكشف أنها لم تكن أكثر من عولمة الاقتصاد وتحول رأس المال إلى رأسمال عالمي لا ينفصم عراه. ولكن وبسبب التناقضات البنيوية للرأسمالية، ففي المنعطفات والأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي مثل الأزمات الاقتصادية أو سباق المنافسة مع بعضها وزمن الثورات والانتفاضات تلجأ بالعمل بعكس آلياتها. ففي الوقت الذي تجد فيه البرجوازية نفسها في الغرب مرعوبة ولا تعرف كيف تدير أزمتها بسبب مرض كورونا، تحاول الانكماش إلى الداخل القومي والانغماس القومي في حل معضلة كورونا بشكل فردي متحديةً قوانين طبيعة الرأسمالية التي أصبحت عالمية في كل مفاصلها، والتي لن تقبل العودة إلى الوراء إلا بتدمير نفسها. ولأول مرة تنسى الرأسمالية في خضم هذه الأزمة أن تنسق فيما بينها وتتعاون لإنقاذ مصالحها الاقتصادية المرتبطة عالميا على الأقل. أن هذه المعضلة هي معضلة في بنية النظام الرأسمالي العالمي وتعبر بشكل طبيعي عن تناقضاتها مع الماهية الإنسانية وتطور علاقات الإنتاج. أي أن الانحطاط الأخلاقي للنظام الرأسمالي هو انعكاس طبيعي لهذا النظام وغير مرتبط بأشخاصه أو ممثليه السياسيين الذين ليسوا إلا موظفين عند رأس المال تكون أدوارهم اما جيده او تكون فاشلة. وهذا هو السر وراء إعادة طبع كتاب ماركس “رأس المال” و”البيان الشيوعي” في كل أزمة تهز عالم الرأسمال والأسواق، ودائما يتجدد الرعب من ظهور شبح لينين من جديد على العالم.
أن ما لا يريد الاعتراف به المسؤولين الغربيين، ولا يريد أن يراها قسم من هذا العالم الذي وضع على عينيه وعقله نظارة زجاجها من نوع سميك صنعت خصيصا من إنفاق الملايين من الدولارات من أموال دافعي الضرائب ومن جزء مستقطع من فائض القيمة النسبي لعمل العمال في الغرب والفائض المطلق في بلدان التابعة للامبريالية، لتحريف أنظاره وتشويه الحقيقة أو طمسه عن أن تفشي فيروس كورونا بهذه المتتالية الهندسية في دول أوربا، هو ليس مرده إلا لعاملين وهما أولا: عدم اكتراث الدولة لصحة وسلامة الإنسان والتي غضت الطرف عن انتشار المرض خوفا على إيقاف دولايب الاقتصاد والإنفاق على صحة مواطنيها، فهي لم تتخذ اي إجراء فوري إلا بعد أن تحول الفيروس إلى جيش جرار يسقط الأسوار أو مثل المشاهد الهوليودية بموسيقى تصويرية مضخمة في أفلام التسونامي أو غزو الأرض من قبل الفضاء، والعامل الأخر: هو هشاشة النظام الصحي وتهرئه في دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وايطاليا وبريطانيا…الخ.
فإذا كان غرب “حقوق الإنسان والديمقراطية” يتعامل بمنتهى الأنانية والانحطاط الأخلاقي مع مواطنيه، فكيف ستكون سياسة دولة استبدادية مثل الجمهورية الإسلامية في إيران تجاه الفيروس، فهي سمحت لثمانية ملايين نصف المليون من السكان بالتنقل خلال أعياد نوروز التي بدأت قبل يومين بين المدن ويحمل أكثر من ستة آلاف و٥٠٠ شخص من بين هؤلاء فيروس كورونا. أن هذا الاستهتار بحياة البشر يعزو سببه أن الحجر الصحي على الناس من قبل الحكومة الإيرانية، يعني عليها دفع ٢ مليار دولار شهريا كرواتب ومعاشات وأجور إلى العمال والموظفين وهم جالسين في بيوتهم. فهي اي الحكومة الإيرانية غير مستعدة لذلك، بينما تنفق المليارات على جواسيسها ومليشياتها وتطوير أسلحتها وتمددها في المنطقة. فما بالك دول تنفخ في كل شهيق وزفير “حقوق الإنسان” مثل ايطاليا وفرنسا وأمريكا المعروفة بأنفاقها ترليونات من الدولارات على ميزانياتها العسكرية وتصدر سنويا أطنان من الأسلحة كجزء من ناتجها القومي إلى العالم، بينما لم تنفق ١٠٪ من عائدات أو أرباح تلك الأسلحة ولا من الإنفاق على صنع تلك الأسلحة على ميادين الصحة أو دفعت كأجور من الوهلة الأولى عند تقدم جيوش كورونا إلى مواطنيها كي يلتزموا بالحجر الصحي.
في “الحرب على الإرهاب” يظهر بشكل جلي وواضح التعبير عن “التضامن العالمي” مع أمريكا أو العراق، والذي لا يتجاوز إطار تصدير الأسلحة والأجهزة التجسسية ومستشارين عسكريين وتكنولوجيا عسكرية ومنح القروض بفوائد عالية تقصم ظهر العمال والموظفين وتزيد من حرمان الطبقات المسحوقة كما حصل مع العراق بعد إعلان الحرب على داعش، بينما يظهر فيروس كورونا أن الحرب عليه لا يتم عبر الأسلحة بل بحاجة إلى الإنفاق على الصحة وتطوير الأجهزة الطبية والتعاضد العالمي عبر تبادل الخبرات والدعم الطبي.
بيد أن هذا العالم لا يقف مخدوعا أمام أسطورة تفوق الغرب وغياب المعيار الإنساني في ذلك التفوق فحسب، بل يعيش خدعة وكذبة تروج لها بعض الحمقى، إذ يعزون نجاح الصين في تجربتها بالسيطرة على فيروس كورونا إلى نظامها الدكتاتوري والشمولي. انه ترويج بشكل واعي أو غير واعي، بقصد أو بغير قصد للدعاية للأنظمة الدكتاتورية، وإعطاء الذرائع للدول في قمع الحريات وفرض الاستبداد على الجماهير، وهذه المرة ليس بعنوان الحرب على الإرهاب، بل تحت يافطة “الحرب على كورونا”.
نسيم الاشتراكية وصراع الأقطاب الصاعدة:
أن دولة الصين، هي رأسمالية حد النخاع، ولا تمت بصلة إلى الشيوعية غير اسم الحزب الحاكم فيها، وتفوق اقتصادها على العالم عبر الحصول على فائض القيمة المطلق الذي يتجسد بالعمالة الرخيصة جدا وشروط عمل قاسية وحرمان العمال من حق الإضراب والتنظيم. أن الصين لم تسيطر على تلك الأوضاع اي مرض كورونا بسبب دكتاتوريتها، بل بسبب تطورها التكنولوجي ونظامها الصحي، ويعود الفضل إلى جزء كبير منه، عندما هب يوم ما وفي زمن كانت الاشتراكية موضة عالمية، نقول هب عليها نسيم الاشتراكية*. وبمحاذاة ذلك، فأن كوبا التي يفرض عليها حصاراً اقتصادياً، ظلماً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبسبب النزعة الإنسانية التي تضرب جذورها في المجتمع الكوبي بسبب ذلك النسيم، فهي لا تملك من موارد أن تقدمها غير إرسال الأطباء لإنقاذ الناس في ايطاليا، وهذه ليست المرة الأولى التي تقدم كوبا هذا النوع من المساعدات. ففي التسونامي الذي ضرب جنوب شرق آسيا والزلزال الذي ضرب هايتي والقضاء على المرض في فنزويلا، كان الأطباء الكوبيين في مقدمة المتطوعين لإنقاذ الناس من تلك المأساة.
أما تقديم المساعدات الطبية من قبل روسيا والصين إلى ايطاليا وصربيا وبلدان افريقية أخرى وإعلانهما بالاستعداد لتقديم مساعدات إلى دول أخرى، لا ينم إلا عن التنافس الرأسمالي ومحاولة لتفتيت الاتحاد الأوربي وفصم عراه والنيل من هيبة الولايات المتحدة الأمريكية والناتو، وتصب في مسعى لقلب النظام العالمي الموجود وبناء نظام عالي جديد تحت قيادتهما. إنها فرصة ذهبية لرسم خارطة سياسية جديدة، وتحالفات عالمية جديدة. وأيضا يضاف عامل آخر هو مساعي جديدة وحثيثة لإنقاذ الاقتصاد الرأسمالي العالمي ، فكما تحدثنا أن الرأسمال العالمي لا ينفصم عراه، وان هلع الأسواق العالمية والبورصات ستوقف عجلة النمو الاقتصادي لتضرب اسواق الصين أولا.
التضامن ألأممي إستراتجية في مواجهة أزمات النظام الرأسمالي:
خلاصة القول أن العالم بعد كورونا سيختلف عما كان قبل كورونا على الصعيد السياسي والفكري والاقتصادي والعلمي والاجتماعي. وإذا كانت الطبقة العاملة اليوم والأقسام الاجتماعية المحرومة فرض عليها الحجر الصحي والرعب من الفايروس بسبب التهويل الإعلامي الذي هو انعكاس بالدرجة الأولى لهلع الطبقة السياسية الحاكمة وأصحاب الشركات والمؤسسات المالية ومستقبلها الاقتصادي ومصير أرباحها، وقد انعكس هذا الهلع أيضا في إنزال الجيش في العديد من بلدان العالم مثل أمريكا والجزائر والأردن والمغرب..والذي يفسر ذلك الهلع ومحاولة لتوجيه ضربة استباقية تحسبا من اندلاع احتجاجات جماهيرية واضطرابات تدفع الجموع البشرية للخروج إلى الشوارع سواء اثر الهلع الذي تنشر في المجتمع أو إزاء تقاعس ولا أبالية الطبقة الحاكمة تجاه مجتمعاتها وتباطئها بالتحرك. نقول أن تصفية حسابها اي الطبقة العاملة و تلك الأقسام المحرومة مع هذا النظام الرأسمالي الجائر مع طبقاتها السياسية الحاكمة التي تصون وتحافظ على مصالح ذلك النظام، ستأتي حتما بعد الانتهاء من هذا الكابوس
أن التضامن العالمي اليوم يكتسب معنى آخر، وعلينا نحن العمال والشيوعيين وكل اليسار أن نخطو خطوات جدية في هذا الميدان وإعطاء المعنى الواقعي والمادي لهذا التضامن، وان يكون جزءا محوريا في إستراتيجية عملنا. أن فيروس كورونا اثبت أن العالم أمام خيارين، إما الانعزال والانكماش وانتظار رحمة من الطبقة الرأسمالية الجشعة ودولتها التي تركن على الرف وتستخدم كآلة قمعية في زمن الثورات والانتفاضات ضد سلطتها وجورها أو لتحل أزماتها وتتدخل للسيطرة على آليات السوق مثلما حدث في أزمة ٢٠٠٨ و ما يحدث اليوم، أو أن نجعل من تلك الدولة “وبغض النظر عن محتواها الطبقي” التي تمول من استقطاعات ضريبية كبيرة من عمل العمال والموظفين ومن فائض قيمة عملهم محلا لانتزاع التنازلات لصالح الجموع المحرومة في المجتمع. أن دور التنظيمات العمالية والأقسام الاجتماعية الأخرى وأي كانت أشكالها وأينما كانت في العالم لها مكانة كبيرة في ربط الشبكات والتنظيمات والاتحادات في إطار وبرنامج واحد. لأنه اليوم وكما أثبتت تجربة تفشي انتشار مرض كورونا أن تقاعس أية حكومة محلية تجاه مواطنيها وتنصل من مسؤوليتها، فسوف لا يكون الوباء محليا بل سيعبر الحدود كما نراه وتضرب بقية المجتمعات والدول.
أن التضامن والتعاضد ألأممي يكتسب اليوم اكثر من اي وقت مضى دورا حياتيا بالنسبة للمجتمع الإنساني والحفاظ على نوعه. ومن هنا يجب أن نضغط بقدر على حكوماتنا المحلية والدولة التي لها إمكانات مادية عظيمة كما رأينا كيف خصصت ترليونات من الدولارات لتعويض الشركات وأسواق المال تحمل مسؤوليتها، بنفس القدر أن نضغط عليها كي تضغط على الحكومات الأخرى مثل العراق وإيران على سبيل المثال لا الحصر وبقية بلدان العالم كي تلعب نفس الدور وتخصص قسم من إمكانياتها لإنقاذ مواطنيها .
إن البشرية ستدرك بعد هذه التجربة ودون اي عناء أن نهاية التاريخ ليس كما قال فوكوياما وكل المأجورين هي خلود النظام الليبرالي الديمقراطي، بل أن نهاية البشرية ستحل عاجلا أو آجلا، إذا ظل هذا النظام ولم ينسف من جذوره ويبنى على إنقاذه اشتراكية ماركس والبيان الشيوعي.
* استخدمه مؤسس الشيوعية العمالية منصور حكمت في وصفه للحصار الأمريكي على كوبا.