23 ديسمبر، 2024 2:24 م

معنا ما دام قد وهب لفنه كل هذه الحياة

معنا ما دام قد وهب لفنه كل هذه الحياة

لم يمنحنا القدر الكثير من الوقت لكي نرتق ما تصدع وما وقع من صدأ الذاكرة .. الذاكرة المعبأة بالحزن على طول الخط ، لم يمنحنا القدر سوى ضياع الأمنيات وفقدان من نحب واحدا تلو الآخر  ، تمنينا في لحظة لو اننا لم نكن نعرفهم حتى لا نسمح لوجع الذاكرة ان يتسلل عبر نوافذ الحب المفتوحة للآخرين على الدوام ولا طاقة لنا بهمَ الفراق وخاصة من ترك لنا نهرا من الوجد نخوض في غمراته .
 استميحكم عذرا ايها الاصدقاء لأدخل المنطقة المحظورة من الذاكرة والتي لا يريد احد منا تجاوزها .. فبرغم قسوة الايام ومرارة الحرب التي عشناها ، كان لكل منا قلب يخفق فتعلمنا الحب بأبجديته الأولى في معهد عج بالمبدعين الصغار الذين لم يبلغوا الحنين بعد فيؤرقهم صوت ام كلثوم  وتجرحهم قصيدة لمحمود درويش يؤديها مارسيل خليفة بحكمة وشجن  يصرون على الحرية كإصرارهم على الحياة  ( معهد الفنون الجميلة )  ذلك الكائن الخرافي الذي تخرج منه العديد من المبدعين الذين غيروا خريطة الفن في عموم الوطن الكبير ومنهم الراحل المبدع قاسم مطرود ، إن لألمنا القديم حلاوة الحب وحلاوة الانتصار على ذواتنا ، منذ الرضعة  الاولى او البذرة الاولى وربما كانت الخطوة الاولى التي وضعنا ارجلنا فيها على الطريق الصحيح كنا مزيجا متجانسا من هوس الحب والمتعة والمعرفة والجنون والصعلكة والابداع ، لم نندم على يوم مر ونحن فوق خشبة المسرح .. نعم جلسنا بكل حرص نستمع الى اول محاضرة في المسرح من رجل فرعوني اسمه ( حسين مليس ) ليدخلنا في دوامة عقدة اوديب ومعنى التطهير واغنية الماعز ويوربيدس وسوفوكليس وارستوفانيس  لم يكن استاذا بالنسبة لنا ولكنه كان أشبه باله فرعوني هجم علينا بسلاح المعرفة والمصطلحات المسرحية التي لم نفهم منها شيئا وحسبنا انه يتحدث بلغة غير لغتنا وحين سألناه أجاب : ان هذه هي لغة المسرح وعليكم تعلمها ، وعلى حين فجأة قفز زميلنا الراحل قاسم مطرود متطوعا ليتصدى لتجربة التحدي في ايصال المعلومة للجميع وقد اخذ على عاتقه مراجعة ما كان يعطي لنا الأستاذ من محاضرات في تاريخ المسرح وهو مصر على ان يتواصل معنا في مدنا بالمعلومات والمصادر الجديدة ويأتي  بها الى القسم الداخلي ليدير جلسة مناقشة ما مطلوب منا في المحاضرة لليوم التالي وتكررت هذه العملية عدة مرات وتوسعت بعد ان عمت الفائدة الجميع وصار اغلب الطلاب يناقش ويبحث ونادرا ما نجد احدا يسكت دون مناقشة الاستاذ الا من كان غائبا عن محاضرات النقاش في القسم الداخلي ، التي كان يقدمها لنا الراحل مجانا وعلى طبق من ذهب .. ويبدو كانت هذه رسالته منذ الايام الاولى  وهي ان لا تكون المعرفة حكرا  على احد ولكن للجميع وإذا فهو حاضر معنا ما دام قد وهب لفنه كل هذه الحياة .