ليكون صوتك مسموعاً في المجتمع وأن تسمع من تنادي، يجب أن تكون ذا منصب أو ذا مال. بعكس ذلك لن تسمع لو ناديت حياً. ذو المنصب والجاه تكون كلمته مسموعة والكل آذان صاغية له حتى لو همس من بعيد.
في أيام الكورونا وإنتشار المرض هذا حيث فرض منع التجوال في المدينة وتقييد الحركة، نخرج ليلاً مع الأصدقاء مستقلين دراجاتنا الهوائية قاصدين كشكا للشاي في إحدى الأسواق الشعبية بالمدينة. دوريات الشرطة تطارد المتجاوزين الذين لا يمتثلون لمنع التجوال والكشك هذا يفتح سراً بأضوية خافتة لا تجذب النظر. عدد قليل من الرواد يجلسون على كراسي صغيرة موزعة هنا وهناك حول هذا الكشك الصغير وهم يتبادلون أطراف الحديث ونحن نأتي ونجلس على بعد مسافة منهم مخافة المرض.
شاب بدين في مقتبل العمر يعاني من عوق ذهني يجلس كل مساء على قارعة الطريق قبالة هذا الكشك تماماً. يطلب المال من هذا ومن ذاك ومن شاربي الشاي من القادمين إلى المقهى السفري هذا والمغادرين. ذات مساء قام أحد الجالسين بالتحرش بهذا الشاب الذي يسمونه معتوها لغرض نرفزته. الشاب المعتوه يغضب ويصيح وهم يضحكون ويسخرون. فجأة نهض هذا المعتوه وبدأ بالصياح “أمي متوفية لا تذكروها بسوء”. يبدو إن أحدهم قد أساء بالكلمات إلى والدته حيث بدأ بالعويط والصراخ وأصبح إسكات هذا المعتوه صعباً وهو يقول “سأخبر الشرطة عنكم وسأشتكيكم لأنكم تذكرون أمي المتوفية بسوء”. هو يصيح والكل يضحك ويسخر وهم فرحين لأن محاولاتهم قد أتت أكلها وقد غضب هذا المعتوه كما أرادوا له، وخصوصاً عندما يقول إنني سأخبر الشرطة عنكم. أحدهم يقول له ”تعال لأعطيك رقم الشرطة” والأخر يقول “تعال إتصل من هاتفي” والأخر “هيا لأجلبك إلى مركز الشرطة لتسجل الشكوى ضدنا”.. وهكذا تتعالى أصوات الضحك والاستهزاء.
في هذه الأثناء جاء أحدهم مسرعاً ليخبر الحضور وهو ينادي بأعلى صوته “مفرزة الشرطة قادمة أغلق الكشك بسرعة”. نهض الجميع من مكانه وهرع الكل تاركين أقداح الشاي أمامهم هاربين من المفرزة القادمة. تم إطفاء المصابيح وإنزال باب الكشك بسرعة وكأن لا شيء يحدث هنا والأمور طبيعية وكما تريدها الشرطة.
فعلاً وصلت سيارتين لمفرزة الشرطة وترجل رجال الشرطة يسألون الموجودين ”لماذا أنتم هنا” ويطلبون منهم التفرق بأسرع وقت وإلاّ سيؤخذون إلى المركز. سأل رجل الشرطة صاحب الكشك ماذا تفعل هنا فكذب قائلا بأنه كان يمر بالصدفة ذاهباً إلى بيته القريب.
كانت الفرصة ذهبية لهذا الشاب المعتوه للإنتقام من هؤلاء الذين أغضبوه وتعدوا بالكلمات النابية على أمه المتوفية. قام المعتوه مسرعاً إلى رجال الشرطة وقال “أيها الشرطي هؤلاء يكذبون فهم يجلسون هنا كل يوم ويشربون الشاي.. أيها الشرطي هذا الكشك قد أغلق بابه الآن خوفاً منكم.. أيها الشرطي هذا الرجل يكذب فهو صاحب الكشك”. المعتوه يحاول إفهام الشرطة بأن ما يحدث هنا هو مسرحية هزلية على خشبة الحياة وإنهم كاذبون وإنكم لو فتحتم غطاء الكشك ستجدون النار موقدة والشاي جاهز وما زالت الأبخرة تتصاعد من القوري.
أفراد الشرطة لا يولون إهتماماً لما يقول هذا المعتوه، بل لا يلتفت أي من أفراد الشرطة إليه ليسمعه. المعتوه يركض خلف رجال الشرطة يقول لهم “كلهم كاذبون إنهم من رواد المقهى دائماً.. أيها العم الشرطي هذا الكشك يبيع الشاي وسيفتح غطائه وسيشعل أضوائه بعد رحيلكم” لكن من ذا الذي يسمعه فهو معتوه ومختل عقلياً وثيابه رثة.
هكذا ذهبت مفرزة الشرطة وفتح الكشك بابه الحديدي ورجع الأشخاص للجلوس من جديد في أماكنهم يشربون الشاي الحار بعد أن امنوا ذهاب مفرزة الشرطة. وبقي هذا المعتوه يصيح ويعيط والحاضرون يضحكون مستهزئين.
الكل كان كاذباً والكل كان يخدع رجال الشرطة، وهذا المعتوه كان الصادق الوحيد. لكن أفراد الشرطة إستمعوا إلى جميع الذين كانوا يكذبون، ولم يولي أحدهم اهتماماً إلى هذا المعتوه الذي نطق بالحق.
ملخص الكلام.. إنك إذا أردت أن تكون كلمتك مسموعة وهمساتك محسوبة، عليك أن تكون صاحب منصب وظيفي أو أن تكون صاحب مال وجاه. وإلاّ لا أحد يولي أي إهتماماً لك رغم الصياح والعويل والنواح العالي حتى وإن كنت الصادق الوحيد بين كم هائل من الكاذبين.