خــلاصــة
قررت المحكمة الاتحادية العليا في العراق الغاء الفقرتين الأولى والثانية من المادة 23 من قانون انتخاب مجالس المحافظات، وهي المادة التي تخص انتخابات مجالس محافظة كركوك بما فيها من اقضية ونواح. وصدر القرار في دعوى اقامها احد اعضاء مجلس محافظة كركوك من المكوّن الكردي. واستند قرار الغاء الفقرتين المذكورتين على ان المادة 23 المنوه بها قد حصرت الوظائف الرئيسية في المحافظة بالمكوّنات الرئيسية مما يشكّل تناقضا مع مبدأ تكافؤ الفرص، الأمر الذي يجعل المادة مخالفة لأحكام الدستور العراقي. ويحاول هذا المقال اجراء تقييم عام لقرار الالغاء المشار اليه، كما ينوّه الى ان الفقرة سابعا من تلك المادة لم يجر الغاؤها، وانه يتحتم ان يصدر مجلس النواب قانونا جديدا لتنظيم موضوع انتخابات مجالس المحافظة في كركوك وفق التفصيل الوارد في المقال.
*
تعرضت محافظة كركوك العراقية لهجرة كبيرة اليها قبل وبعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003. ففي عهد النظام البعثي قامت السلطات باستقدام مئات من العوائل العربية من جنوب العرق وتم اسكانهم داخل مدينة كركوك وفي القرى والقصبات التركمانية المجاورة لهذه المدينة التركمانية. اما بعد عام 2003 اي بعد انهيار النظام البعثي ، فقد تعرضت هذه المناطق الى هجرة كردية واسعة النطاق، تم بموجبها اسكان ما يزيد على مئات الآلآف من الاكراد فيها وتركزت السلطة الادارية والامنية الفعلية بيد الاحزاب الكردية. وادى هذا الوضع الى حال من عدم الاستقرار السياسي والأمني وبروز مشاكل وصعوبات كبيرة عانت منها المكوّنات الرئيسية في كركوك وعلى رأسها المكوّن التركماني. اما المادة 140 من الدستور العراقي التي اقحمت في الدستور لتأمين الحاق كركوك بالإقليم الكردي، فقد ظلت معلقة ودون ان يتم تنفيذ مراحل تطبيقها وهي التطبيع والإحصاء والاستفتاء، الى ان استنفذت مدتها الدستورية بانتهاء عام 2007 . وقد اخذ المشرّع العراقي هذا الوضع الشاذ بنظر الاعتبار عند تشريع قانون انتخاب مجالس المحافظات فوضع حلولا اعتبرها ناجعة وعادلة لمستقبل كركوك، وذلك على شكل المادة 23 التي دخلت في صلب هذا التشريع. وتوخى المشرّع العدالة في تشكيل اللجنة التي كان من المفروض ان تتولى تطبيق فقرات تلك المادة، منطلقة من الحرص على المساواة بين مكونات كركوك الرئيسية.
وجدير بالذكر ان المادة 122 من الدستور العراقي الصادر في عام 2005 كانت قد نصت في فقرتها الرابعة على اصدار قانون خاص لتنظيم انتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي التابعة لها. وتنفيذا لهذا النص الدستوري فقد صدر القانون المشار اليه بتاريخ 22 تموز/ يونيو من عام 2008، والذي نظمت المادة 24 منه موضوع انتخابات مجلس محافظة كركوك ومجالس الاقضية والنواحي التابعة لهذه المحافظة.
وكانت المادة 24 المذكورة تنص على تأجيل الانتخابات في كركوك لحين انتهاء اللجنة التي ستتشكل بموجب نفس المادة من اعمالها المبينة في صلب المادة نفسها. وكانت الركيزة الأساسية للمادة هي توزيع السلطة والمناصب الرئيسية في كركوك بين المكوّنات الرئيسية الثلاثة فيها وهم التركمان والأكراد والعرب. غير انه عندما تم رفع القانون الى رئاسة الجمهورية للمصادقة عليه وفقا للدستور، سرعان ما تعرض للنقض من قبل رئيس الجمهورية الذي هو في نفس الوقت رئيس احد الاحزاب الكردية الرئيسية في العراق، واعيد التشريع الى مجلس النواب الذي قام بتشريع القانون بعد ادخال تعديلات عليه وبالأخص على المادة 24 منه والتي صيغت هذه المرة تحت رقم المادة 23 ، وتم تصديق القانون بشكله الجديد من رئاسة الجمهورة ونشر في الجريدة الرسمية واصبح قانونا واجب التنفيذ. غير انه وبعد مرور خمس سنوات على صدور القانون، وبناء على دعوى مقامة امام المحكمة الاتحادية العليا، قررت هذه المحكمة الغاء الفقرتين (اولا) و (ثانيا) من المادة 23 المنوّه بها بداعي تعارضهما مع نصوص المادتين 14 و 16 من الدستور العراقي.
الفقرتان الملغيتان من المادة 23
تضمنت الفقرتان أولا وثانيا الملغيتان الأسس الآتية :
– تأجيل انتخابات مجالس محافظة كركوك لحين تنفيذ عملية تقاسم السلطة الإدارية والأمنية والوظائف العامة بما فيها منصب رئيس مجلس المحافظة والمحافظ ونائب المحافظ بين مكونات محافظة كركوك الرئيسية وبنسب متساوية.
– يحق للمكون ذو الأغلبية في مجلس المحافظة اختيار احد مناصب المحافظ او نائب المحافظ او رئيس المجلس.
– تشكيل لجنة من مكونات كركوك الأربعة (المكونات الرئيسية الثلاثة + المكوّن المسيحي). وتكون مهام هذه اللجنة ما يلي :
أ – آلية تقسيم السلطة في كركوك.
ب – تحديد التجاوزات على الأملاك العامة والخاصة في محافظة كركوك قبل وبعد التاسع من نيسان/ ابريل لعام 2003.
ج – مراجعة وتدقيق البيانات والسجلات المتعلقة بالوضع السكاني بما فيه سجل الناخبين، وتقديم توصياتها الملزمة بالتوافق الى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
وكان البند (د) من الفقرة الثانية الملغاة بموجب قرار المحكمة الاتحادية العليا يقضي بتقديم اللجنة المشار اليها تقريرا حول عملها الى مجلس النواب.
نص الفقرات ( 3 – 7 ) غير الملغية من قبل المحكمة الاتحادية
ثالثاً: تجري انتخابات مجلس محافظة كركوك بعد تقديم اللجنة توصياتها وما توصلت إليه من نتائج إلى مجلس النواب والتي وفقاً لها
سيقوم المجلس بتشريع قانون خاص لدورة واحدة بانتخابات مجلس محافظة كركوك.
رابعاً: تتكفل وعلى قدم المساواة الحكومتان الاتحادية و المحلية في كركوك بتوفير كافة المستلزمات اللازمة لانجاز اللجنة لأعمالها وفقا للدستور.
خامساً: يستمر مجلس محافظة كركوك الحالي في ممارسة مهامه وفقاً للقوانين النافذة قبل نفاذ قانون رقم 21 لسنة 2008 ويبقى وضع محافظة كركوك المنصوص عليها دستوريا على ما هو عليه الى حين اجراء الانتخابات فيها.
سادساً: تسري أحكام الفقرة ثانياً من المادة (55 ) من قانون رقم ( 21) لسنة 2008 على مجالس محافظة كركوك .
سابعاً: وفي حال تعَذَرْ على اللجنة تقديم توصياتها إلى مجلس النواب يَسُنْ المجلس قانوناً خاصاً لانتخابات مجلس محافظة كركوك، وفي حال تعذر ذلك تقوم الرئاسات الثلاث (مجلس الرئاسة ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب) وبمساعدة دولية عبر الأمم المتحدة بتحديد الشروط المناسبة لإجراء الانتخابات في كركوك.
تشكيل اللجنة واعمالها :
تشكلت اللجنة من قبل مجلس النواب بموجب الفقرة الأولى من المادة 23 من ممثلين اثنين عن كل مكوّن من المكوّنات الرئيسية في محافظة كركوك (العرب، التركمان، الأكراد) من اعضاء مجلس النواب عن هذه المحافظة ومن ممثل من المكوّن المسيحي. واشترطت الفقرة المذكورة اتخاذ اللجنة قراراتها بالتوافق. وعقدت اللجنة اول اجتماع لها في 8 شباط/ فبراير من عام 2009 . غير ان الاختلافات الحادة في وجهات نظر الاعضاء والتدخلات السياسية حالت دون توصل اللجنة الى اي اتفاق حول الموضوع، وبقي الأمر معلقا شأنه شأن الكثير من قضايا العراق المصيرية.
قرار المحكمة الاتحادية العليا حول دعوى الغاء المادة 23
من المعلوم ان المحكمة الاتحادية العليا تشكلت استنادا الى المادة 92 من الدستور العراقي، وحددت المادة 93 اختصاصات هذه المحكمة التي يأتي على رأسها موضوع الرقابة على دستورية القوانين والانظمة اي الحكم بمدى مطابقتها لأحكام الدستور والغاء ما يتعارض منها معه. واعتبرت المادة 94 قرارات المحكمة قطعية وغير قابلة لأي طعن وملزمة للسلطات كافة.
اقيمت دعوى الغاء المادة 23 من قانون انتخاب مجالس المحافظات والاقضية والنواحي رقم (36) لسنة 2008 بتاريخ 25 مارس 2013 من قبل عضو مجلس محافظة كركوك كمال صالح حسن على المدعى عليه رئيس مجلس النواب العراقي اضافة لوظيفته. واستند المدعي في طلب الالغاء الى الحجج الآتية:
1 – ان المادة 23 بفقراتها الستة ( هكذا ورد في لائحة الدعوى، والصحيح ان المادة 23 تحتوي على سبع فقرات)، مخالفة لقرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (45) المؤرخ 2/ 7/ 2009 لكونه يقضي بتقسيم كركوك الى اربع مناطق انتخابية توزع بالتساوي على مكوّناتها الرئيسية، وان هذا التقسيم يعتبر تقسيما عنصريا.
2 – ان المادة 23 بفقراتها الستة (الصحيح سبع فقرات كما اسلفنا) تخالف مضمون قرارات المحكمة الاتحادية العليا المرقمة (15/ت/2006) و (12/ اتحادية/2010) .
3 – ان المادة 23 مخالفة لأحكام المواد (2/اولا/ج) و (7 اولا) و (13/ثانيا) والمادة 20 من دستور جمهورية العراق لسنة 2005.
4 – ان المادة 23 مخالفة لأحكام ومضمون وغاية المادة (140) من الدستور .
وطلب المدعي في لائحة دعواه الحكم بالغاء المادة (23) من القانون المشار اليه بفقراتها كافة.
اما المدعى عليه (رئيس مجلس النواب اضافة لوظيفته) فقد طلب رد الدعوى باعتبار ان المدعي لم يقدّم اي دليل على ان تقسيم كركوك الى اربعة مناطق انتخابية هو تقسيم عنصري، وان ذلك تم نتيجة عدم الاتفاق على اساس للإحصاء السكاني للمحافظة ولخلق نوع من التوافقية الوطنية بين المكونات لحين حسم موضوع الإحصاء. واوضح المدعى عليه ان قرارات المحكمة الاتحادية العليا التي استشهد بها المدعي لا علاقة لها بالدعوى وانها تخص انتخابات مجلس النواب، فضلا عن عدم الاشارة الى اوجه مخالفة المادة 23 لأحكام المواد الدستورية.
تنازل المدعي عن دعواه جزئيا
لعل مما يلفت النظر في هذه الدعوى ان المدعي اقام دعواه طالبا الغاء المادة 23 موضوع البحث بكاملها اي بفقراتها السبع، غير انه عاد وحصر دعواه في الجلسة المؤرخة 16 تموز/ يوليو 2013 بطلب الغاء الفقرتين (اولا) و (ثانيا) من تلك المادة وصرف النظر عن طلب الغاء الفقرات الخمس الاخرى من تلك المادة.
والواقع اننا لم نجد بين من تناولوا موضوع القرار الصادر في هذه الدعوى بالنقد والتجريح او التأييد والإشادة، من يتطرق الى سبب هذا التغيير المفاجئ في طلب المدعي، او بعبارة اخرى الكتلة التي يمثلها، وحصره بالفقرتين الاولى والثانية فقط، فيما عدا بعض الاشارات التي عللت هذا التغيير بان المدعي فهم من سير مجريات الدعوى بان من المحتمل صدور قرار بردها ان بقيت بالشكل الذي اقيمت به. غير اننا لا نرجح هذا الاحتمال بسبب ان المحاكم ممنوعة من الإحساس بالرأي قبل صدور اي قرار منها.
مضمون قرار المحكمة العليا
قررت المحكمةالاتحادية العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 26 اغسطس 2013 الغاء الفقرتين اولا وثانيا من المادة 23 موضوع البحث لعدم دستوريتهما، ورد طلب الالغاء بالنسبة للفقرات الخمس الاخيرة من نفس المادة لحصر المدعي دعواه بالفقرتين اولا وثانيا من هذه المادة. وصدر القرار باغلبية ثمانية اعضاء، وخالف العضو التاسع القرار حيث اوضح ان الدعوى واجبة الرد لتغيير موضوعها.
استندت المحكمة العليا في قرارها الى ان الفقرة (اولا) الزمت ان يكون تقاسم السلطة الادارية والامنية والوظائف العامة في المحافظة بالتساوي بين المكونات الرئيسية. ولذا فان النص قد فوّت الفرصة وحرم من لم يكن بين المكونات الرئيسية من اشغال تلك الوظائف، وان ذلك يخالف احكام المادة 16 من الدستورالتي تشترط تكافؤ الفرص لجميع العراقيين. واحتجت المحكمة بان هذا النص فيه بعض الابهام، اذ لم يحدد النص هذه المكونات او معيار تحديدها. واضاف القرار في حيثياته ان هذه الفقرة تتعارض مع احكام المادة 14 من الدستور ايضا والتي تفيد بان العراقيين متساوون امام القانون دون تمييز، اضافة الى ان محافظة كركوك لم يتم فيها اجراء احصاء سكاني ولم يتم معرفة عدد السكان لكل مكوّن رئيسي في المحافظة. ووجدت المحكمة ان نفس هذه الحيثيات تنطبق على الفقرة ثانيا ايضا من حيث حصر اعضاء اللجنة بالمكونات الرئيسية في المدينة وان ذلك لا يحقق تكافؤ الفرص الذي اوجبته المادة 16 من الدستور.
موقف مكوّنات كركوك من القرار
قابلت الاحزاب الكردية قرار المحكمة الاتحادبة العليا بالامتنان، ولا غرو فان الدعوى اقيمت من قبل عضو في مجلس محافظة كركوك ينتمي الى المكوّن الكردي. ذلك لأن النص الذي حاول ايجاد حل للتجاوزات على الاملاك العائدة للدولة وللاهالي، وكذلك تقاسم السلطات بشكل عادل بين مكونات المحافظة، لم يكن ليرضي من فرض الامر الواقع في المحافظة واستقدم مئات الألوف من العوائل الى المدينة بغية تغيير التركيبة السكانية فيها. وابدى محافظ كركوك الذي هو عضو في احد الاحزاب الكردية ارتياحه لصدور القرار، واعلن في تصريح له ان المادة 23 كانت عائقا امام اجراء الانتخابات المحلية في كركوك، وان هذا العائق قد زال بصدور هذا القرار.
اما الاحزاب والمؤسسات التركمانية والعربية، فقد اعلنت رفضها القاطع للقرار وابدت انه قد اتخذ بدواعي سياسية ولإرضاء مكون واحد في المحافظة على حساب المكونات الاخرى فيها. واعلن رئيس الجبهة التركمانية ارشد الصالحي ان هذا القرار قذ اضفى بعدا جديدا على الاوضاع المتازمة في كركوك، وانه اذا ما اجري انتخاب في كركوك فان هذا الانتخاب سوف لا يكتسب الشرعية، وانه سيكون لهم موقف محدد ان لم يتم حل هذا الإشكال، كما انه سيعرض الأمر امام انظار السياسيين الذين يصرّحون دوما ان كركوك صمام الأمان لوحدة تراب الوطن العراقي مطالبا المرجعيات الدينية والقيادات السياسية بتثبيت موقفهم التاريخي حول الحفاظ على خصوصية محافظة كركوك. واضاف الصالحي اننا كنا ننتظر من المحكمة الاتحادية ان تلعب دورا ايجابيا لحل معضلة كركوك المستعصية، في حين انها قد زادت من تعقيد الامور فيها.
وصرّح عمر الجبوري من المكوّن العربي، ان المحكمة الاتحادية قد ارضت طرفا واحدا لحساب الاطراف الاخرى، وان المحكمة تغاضت عن الاسباب الحقيقية لتشريع هذه المادة في وقته، مضيفا ان مجلس النواب اضحى لزاما عليه بعد هذه المرحلة ان يصدر قانونا جديدا لانتخابات مجلس محافظة كركوك.
والواقع انه كان ينتظر من المكونين التركماني والعربي ان يطلبا من المحكمة الاتحادية العليا الدخول في الدعوى كشخص ثالث الى جانب المدعى عليه ويقدما حججهما القانونية اثناء المرافعات التي اجريت في الدعوى. وكان من المحتمل ان تقبل المحكمة هذا الطلب باعتبار ان موضوع الدعوى يتعلق بهما ويمس حقوق ومصالح هذين المكونين.
تقييم قرار المحكمة الاتحادية العليا
مع ان قرار المحكمة الاتحادية العليا بات ولا يمكن الاعتراض عليه امام اية جهة قانونية وفقا للدستور، الا ان ذلك لا يمنع من التعليق عليه او محاولة تقييمه سلبا او ايجابا.
استندت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها القاضي بالغاء الفقرتين (اولا) و(ثانيا) من المادة 23 موضوع البحث على ان النص الزم ان يكون تقاسم السلطة الادارية والامنية والوظائف العامة في المحافظة المذكورة بالتساوي بين المكونات الرئيسية فيها وان ذلك يخالف مبدأ تكافؤ الفرص، الى اخره من اسانيد اوضحناها في اعلاه.
على ان من البديهيات التي اصبحت مسلّما بها في العراق ان كافة التشريعات والقرارات السياسية الهامة لا تصدر الا وفقا لمبدأ التوافق بين الاطراف المعنية ووفق مبدأ المحاصصة التي وضع الحاكم الاداري الامريكي بول بريمر أسسها في بداية الاحتلال الامريكي للعراق، وقد اضحى هذا المبدأ عرفا دستوريا يعمل به منذ ذلك الوقت من اعلى المستويات الادارية والسياسية وحتى ادنى الدرجات الوظيفية او السياسية. وقد تم اختيار المناصب السيادية الثلاثة وهي مناصب رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الوزراء وتوزيعها بين المكونات الثلاثة وهي المكون الكردي والعربي السني والعربي الشيعي على التوالي وفق هذه الصيغة. وحتى ان اعضاء المحكمة الاتحادية العليا نفسها تم اختيارهم وفق مبدأ المحاصصة والتوافق، فقد تكونت المحكمة المؤلفة من تسعة اعضاء من اعضاء من المكوّن العربي الشيعي والمكوّن العربي السني والمكوّن الكردي والمكوّن التركماني والمكوّن المسيحي. واضحى اختيار عضو من نفس المكون في حالة فقدان احد منهم لعضويته، عرفا تسير المحكمة وفقه. كما ان المناصب الرئيسية في كركوك توزعت بين المكونات الرئيسية وفق مبدأ المحاصصة والتوافق. فقد اسندت وظيفة المحافظ ورئيس مجلس المحافظة الى شخصين من المكون الكردي، واسندت وظيفة نائب المحافظ الى شخص من المكون العربي. ثم ارتأي في سبيل التقاسم العادل للمناصب في كركوك ولأسباب ودوافع سياسية معينة، ان تعهد وظيفة رئاسة مجلس المحافظة الى شخص من المكون التركماني. ناهيك عن ان المناصب الوزارية ومناصب وكلاء الوزراء وقادة الفرق العسكرية تتوزع اعتياديا بين المكونات الرئيسية. وحتى ان المادة التاسعة من الدستور العراقي تنص على ” ان القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية تتكون من مكونات الشعب العراقي بما يراعي توازنها وتماثلها”. وكذلك فان المادة 48 من الدستور تنص ايضا على ان مجلس النواب يراعى في انتخاب اعضائه ” تمثيل سائر مكونات الشعب فيه”. يضاف الى ذلك ان تقاسم السلطات معمول به في كافة المحافظات العراقية وليس في محافظة كركوك وحدها.
والواقع ان المادة 23 موضوع البحث انما ادرجت ضمن نص قانون انتخاب مجالس المحافظ بهدف حل مشاكل أساسية تعاني منها محافظة كركوك، وهي :
1 – استحواذ المجاميع الكردية على معظم المناصب الادارية والامنية في المحافظة ان لم نقل كلها، وحرمان وتهميش المكونات الاخرى فيها مثل التركمان والعرب.
2 – الحاجة الى تثبيت التجاوزات الحاصلة على الاملاك والاراضي العامة والخاصة من قبل المجاميع العربية والكردية قبل الاحتلال الامريكي وبعده، ورفع هذه التجاوزات واعادة الاملاك والاراضي المتجاوز عليها الى اصحابها الشرعيين.
3 – تدقيق البيانات المتعلقة بالوضع السكاني بما فيها سجلات الناخبين بهدف البت في ادعاءات التهجير الماعي الى المحافظة.
وعند تدقيق قرار المحكمة نجد انه انصب على نقطتين فحسب، وهما: تركيبة اللجنة وكون اعضائها من المكونات الرئيسية وحدها، وتوزيع المناصب الرئيسية على المكونات الرئيسية. ولم يتطرق القرار الى التجاوزات الحاصلة على الاملاك ولا الى التغيير السكاني والتحريفات الحاصلة في سجلات الاحوال المدنية وفي سجلات الناخبين. ولم يكن بوسع المحكمة بالطبع ان تقضي بان تصحيح التجاوزات الحاصلة على الاملاك او تدقيق البيانات والسجلات المتعلقة بالوضع السكاني بما فيه سجلات الناخبين، أمور تخالف الدستور، غير انها وفي واقع الأمر وعن طريق الغائها للفقرتين اولا وثانيا من المادة 23 موضوع البحث قد حالت دون تلبية الحاجة الى التوزيع العادل للمناصب والوظائف في كركوك، مثلما قضت على الحل الذي اتت به الفقرتان الملغيتان حول رفع التجاوزات على الاملاك واعادة الحقوق الى اصحابها من جهة، وتدقيق البيانات والسجلات المتعلقة بالوضع السكاني بما فيها سجلات الناخبين من جهة اخرى. ولا شك ان ذلك سيعيد الوضع في كركوك الى المربع الأول مما سيؤدي الى تفاقم النزاعات والاختلافات بين مكونات كركوك. كل ذلك دعى كثيرا من السياسيين والمعلّقين الى القول بان قرار المحكمة اتخذ بدوافع سياسية معينة.
ما الذي يتوجب عمله بعد قرار الالغاء
لا شك ان قرار المحكمة الاتحادية العليا بات وملزم للسلطات الثلاثة في البلاد وفقا للمادة 94 من الدستور. غير انه ينبغي ان لا يغرب عن بالنا بان قرار الالغاء شمل الفقرتين اولا وثانيا فقط من المادة 23 التي تحتوي على سبع فقرات، ويعني ذلك ان الفقرات الخمس من هذه المادة لا زالت موادا قانونية قائمة وواجبة التطبيق. ويكون من المفيد لذلك القاء نظرة سريعة على هذه الفقرات الخمس:
* تقضي الفقرة (ثالثا) بانه “تجري انتخابات مجلس محافظة كركوك بعد تقديم اللجنة توصياتها وما توصلت اليه من نتائج الى مجلس النواب والتي وفقا لها سيقوم المجلس بتشريع قانون خاص لدورة واحدة بانتخابات مجلس محافظة كركوك”. وطالما ان الفقرة نص تشريعي واجب التطبيق، فاننا نستخلص من ذلك ما يلي :
أ – لا بد من اجراء انتخاب لمجلس محافظة كركوك.
ب – ان عملية الانتخابات لا تتحقق الا بعد تقديم اللجنة المبحوث عنهما في الفقرتين الملغيتين.
ج – ان اصدار مجلس النواب قانونا خاصا لا يتحقق الا استنادا الى تقرير اللجنة.
د – طالما ان هذه اللجنة غير موجودة نظرا لإلغاء المحكمة الفقرة التي تتضمن تشكيلها، فالنتيجة الحتمية هي دخول الأمر في حلقة مفرغة وعدم امكان اصدار قانون انتخابات مجلس محافظة كركوك وفقا لهذه الفقرة. وتكون الفقرة الرابعة ايضا عقيمة وبدون فائدة لانها تتحدث عن توفير مستلزمات انجاز اللجنة اعمالها.
* تقضي الفقرة (خامسا) باستمرار مجلس محافظة كركوك الحالي بممارسة اعماله، وبقاء وضع محافظة كركوك على ما هو عليه الى حين اجراء الانتخابات فيها. وهذا امر مفروغ منه ولا احد سيعترض عليه او يجري نقاشا بشأنه.
* الفقرة (سادسا) لا علاقة لها بموضوع هذا المقال لأنها تتحدث عن الدرجات الوظيفية والحقوق التقاعدية لأعضاء مجالس المحافظات.
* تتحدث الفقرة (سابعا) عن انه ” في حال تعذر على اللجنة تقديم توصياتها الى مجلس النواب يسنّ المجلس قانونا خاصا لانتخابات مجلس محافظة كركوك. وفي حال تعذر ذلك تقوم الرئاسات الثلاث (مجلس الرئاسة، رئاسة الوزراء، رئاسة مجلس النواب) وبمساعدة دولية عبر الأمم المتحدة بتحديد الشروط المناسبة لإجراء الانتخابات في كركوك”.
ونستخلص من هذه الفقرة – وهي عبارة عن نص قانوني واجب التطبيق لعدم الغائه من قبل المحكمة الاتحادية العليا – ما يلي :
أ – لقد تعذّرعلى اللجنة تقديم توصياتها الى مجلس النواب خلال فترة وجودها، اي الى تاريخ قرار المحكمة العليا بالغائها، وليس بوسعها الآن ان تقدم تقريرا بتوصياتها لسبب بسيط وهو انها (اي اللجنة) لا وجود قانوني لها بالنظر لإلغائها.
ب – تأسيسا على ما سبق، وتطبيقا لأحكام الفقرة سابعا من المادة 23 يتعين على مجلس النواب اتخاذ الاجراءات القانونية والادارية التي تكفل سن القانون الخاص بانتخابات مجلس محافظة كركوك الذي تحدثت عنه الفقرة “سابعا”.
ج – في حالة اخفاق مجلس النواب في اصدار هذا القانون الخاص ضمن فترة معقولة من الزمن، يكون مجلس النواب ملزما برفع الأمر الى (الرئاسات الثلاث) . ويتعين على الرئاسات الثلاث انذاك ان تستعين بهيئة الأمم المتحدة لتحديد الشروط المناسبة لإجراء الانتخابات في كركوك.
الطريق واضح اذا في مجال حل معضلة انتخابات مجلس محافظة كركوك، ونرى ان يقوم اعضاء مجلس النواب التركمان والعرب بحشد كل طاقاتهم لتأمين تنفيذ مجلس النواب الواجب الملقى على عاتقه وفق الفقرة (سابعا) من المادة 23 موضوع البحث. والكرة الآن في ملعبي الكتلتين التركمانية والعربية وفي ملعب مجلس النواب.
ان صياغة القانون الخاص المشار اليه والاحكام التي ستحتويها مواده أمر له اهمية بالغة. فالقانون الجديد ينبغي ان يجد حتما حلا للتجاوزات الحاصلة على الاملاك العامة والخاصة في كركوك، وينبغي ان يتضمن هذا القانون ما ورد في الفقرة ثانيا الملغية المبحوث عنها اعلاه، وبالأخص موضوع تقاسم السلطة الادارية والأمنية والوظائف العامة في المدينة. ولا يمكن لأحد ان يقول بان هذه الفقرة ملغاة ولا يمكن احياء ما جاء فيها من احكام لأن الفقرة – وكما اسلفنا اعلاه – انما الغيت بسبب الاعتراض على آلية تشكيل اللجنة التي كانت سستتولى تنفيذ محتويات الفقرة، وليس بسبب عدم دستورية رفع التجاوزات على الأملاك او بسبب عدم دستورية تدقيق البيانات والسجلات الخاصة بالسكان او بالناخبين، فالغاية لا يمكن ان تلغى – ان كانت تتفق مع القانون – لمجرد الغاء الوسيلة التي كانت ستحقق الغاية لولا الغاء هذه الوسيلة، وبعكس ذلك فان عدم اصدار هذا القانون سيعني اسدال الستار بشكل كامل على التجاوزات على الاملاك واسدال الستار على الهجرة غير الشرعية الى كركوك
ونرى ان ينص القانون الجديد على تشكيل لجنة يحدد مجلس النواب نفسه اعضاءها وان تكون مهمتها تنفيذ ما يلي:
أ – تثبيت التجاوزات الحاصلة على الاملاك والاراضي العامة والخاصة قبل وبعد تاريخ الاحتلال الامريكي للعراق. على ان تتولى الحكومة الاتحادية رفع وازالة هذه التجاوزات بما يتفق مع القوانين النافذة في البلاد.
ب – تدقيق البيانات والسجلات المتعلقة بالوضع السكاني وسجلات الناخبين في كركوك، وتقديم توصياتها الى المفوضية العليا للانتخابات والى مجلس النواب خلال مدة يحددها المجلس.
ج – يحدد المجلس تاريخ اجراء الانتخابات في كركوك بعد تقديم اللجنة توصياتها المبينة اعلاه.
د – استمرار اعمال المجلس الحالي لحين اجراء الانتخابات في كركوك.
هـ – في حالة تعذر تقديم اللجنة توصياتها المبينة اعلاه خلال عام واحد او خلال اية مدة اخرى يحددها مجلس النواب لأي سبب كان، تقوم الرئاسات الثلاثة (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب، رئاسة الوزراء) بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة بتحديد الشروط المناسبة لإجراء هذه الانتخابات.
ويبقى ان نقول ان وجهات النظر التي يبديها بعض الباحثين والسياسيين الأكراد حول وجوب المبادرة باجراء الانتخابات حالا في محافظة كركوك تتناقض تمام التناقض مع احكام الفقرة (سابعا) من المادة 23 . ونؤكد هنا على ان الوصول الى حل توافقي يرضي الجميع هو الشرط الوحيد لإحلال الاستقرار والطمأنينة في هذه المحافظة، وان احالة الأمر الى هيئة الأمم المتحدة في نهاية المطاف سيعني ان معضلة كركوك ستأخذ بعدا دوليا لا محالة.
* ماجستير قانون عام