19 ديسمبر، 2024 12:05 ص

معضلة التربية في العراق الحديث

معضلة التربية في العراق الحديث

ناقش هذا الموضوع الكثير من الكتاب والمؤلفين في مؤلفات ضخمة ومقالات متعددة ولكني لن اتوسع في الامر ولن اكتب شيئاً مشابهاً ومقتبساً مما فعلوا بل سأركز على تلك المعضلة في بلدي العراق الذي يشهد منذ عقد من الزمن انهيار واضح في كل شيء مادي ومعنوي في حياة العراقيين لأسباب كثيرة اتمنى ان استطيع الاشارة الى بعضها والا فالإحاطة بكلها مستحيل ولا يدعي احد انه يعرف كل اسباب مشاكلنا اليوم الا مغتر او كاذب!
الهدف من التربية:
لمعرفة المشاكل التربوية التي تواجهنا يجب اولاً ان نعرف الهدف من التربية وما هي التربية اساساً ثم نبحث مشاكل تطبيقها ومن اهم التعاريف للتربية هي انها عملية نقل خبرة الاجيال السابقة الى الاجيال اللاحقة كوسيلة لضمان مستقبل زاهر مستقر ناجح مثمر للناشئين الجدد في محاولة من الاباء لبرمجة اولادهم على مبادئ وقيم واخلاقيات ثابتة وتهيئتهم لمواجهة المتغيرات المتوقعة في المستقبل. وتتضمن العملية محاولة من الاباء لنسخ ما في عقولهم من تجارب واديان واخلاق وسلوكيات في ادمغة اولادهم بطرق متعددة بالترغيب تارة وبالترهيب تارة اخرى معتمدين على الخبرة الشخصية والمشاهدات الانسانية والدروس المستفادة من هنا وهناك.
اين المشكلة؟
اذا كانت المسألة محصورة بين الاب وابنه فأين المشكلة في التربية؟
هذا السؤال هو اول ما يمكن ان يتبادر الى الاذهان وللإجابة عنه نطرح المشاكل التالية التي تسلط الضوء على معضلة التربية ومعوقات تطبيق التعريف سابق الذكر:
1- عدم حرص الكثير من الناس على شيء اسمه تربية بل وحتى عدم معرفتهم لوجود شيء كهذا واقصد بهؤلاء النازحين الجدد الى المدن من الصحاري والبراري والقفار والاهوار والقرى النائية فهؤلاء نشأوا في بادية انسانية بعيدة عن التعقيد والتمدن والحياة المنظمة وهؤلاء اتسمت حياتهم السابقة بالبساطة والسلوكيات الخاصة ببيئتهم البعيدة كل البعد عن جو المدن والتجمعات البشرية الكبيرة والمتجانسة منذ القدم ومختصر القول ان (فاقد الشيء لا يعطيه) وهؤلاء لم يخضعوا لعملية تربية معقدة ومستمرة كتلك التي مر بها اقرانهم في المدن لأنهم ببساطة قضوا جل طفولتهم وصباهم في بيئات جامدة راكدة ثابتة روتينية غير متغيرة بين الطبيعة والكائنات البسيطة وطبعاً لكل قاعدة شواذ ولكن الاغلبية منهم تنطبق عليهم هذا القول.
2- البقاء للأصلح او البقاء للأقوى هو الاخر سبب وجيه يجعل حياة المجتمعات في حالة تدافع مستمر بين القوي والضعيف وبين الظالم والمظلوم وبين المبدئي وارباب المصالح وبين المتدين والمتسيب والمنحل وبين المثقف والجاهل وبين العالم وبسيط العلم والفهم, الامر الذي يشجع ظهور انواع متعددة من القناعات وبالتالي انواع متعددة من التربية المختلفة فنجد الشرس المعتدي الذي اعتاد العيش بقوة ذراعه وتجبره على الناس يحاول ان ينقل تجربته الى اولاده وبالمقابل نجد العالم المثقف الهادئ الذي عاش حياته مستنداً الى جهده الفكري والعقلي والثقافي يحاول ان ينتج عناصر مشابهة له في المجتمع ويربي اولاده على نفس ما تربى عليه من خلق وذوق ودين وعلم وعمل وهكذا نرى ان التربية في الحقيقة هي عملية خاصة بكل عائلة وليست توجه عام للمجتمع الامر الذي يخلق مشاكل متعددة.
3- التحولات السريعة في حياة المجتمعات التي نتجت لدينا منذ عقد من الزمن في فتح الباب على مصراعيه امام كل جديد بغض النظر عن قبحه او صلاحه وهي من مخلفات الانفتاح الغير مقيد بعد تغير النظام في العراق حيث اتسمت حياة العراقيين قبل التغيير بالروتينية والرتابة والانضباط النسبي وقلة التغيرات التي تطرأ على حياة المجتمع الامر الذي سبب في وقته سهولة التربية وتقليديتها وعدم تعدد التوجهات بل تقاربها وتشابهها الى حد كبير الامر الذي نفتقد اليه اليوم والذي لن نناله ابداً بعد ان كان لدينا فطبيعة الكون انه يتقدم الى الامام فقط ولا تراجع الى الخلف الا نادراً.
4- دور المدرسة والشارع والجيران والاقارب وكل من له تماس في حياة الطفل والصبي في غرس تأثيراتهم في نفسية وعقلية الطفل والصبي وحتى الشاب وهنا تبرز معضلة الاباء في صعوبة السيطرة على كل ما يراه ويسمعه ويعيشه ابنائهم الامر الذي يجعل جهود الكثيرين في التربية المنضبطة هباءاً منثوراً في قبال التأثير الجامح للشارع والمجتمع والذي للأسف يعمل بشكل هدام منذ عقد بل عقود من الزمن بسبب الانحدار الاخلاقي والديني الذي لا سبيل لنكرانه!
وما الحل اذا؟
طبعاً الحل لا يمكن اختصاره في عدة كلمات لتراكمات سنين من الهدم فالبناء اصعب من الهدم بكثير خصوصاً وان هناك الكثير ممن لا يدركون حقيقة الهدم بل ويرون ان الوضع ممتاز ومثالي لأنه يعبر عن حقيقتهم وتطلعاتهم نحو الخراب والتدمير والتنافس وفق نظام الغاب بلا دين ولا خلق ولا مبادئ ومن هنا وجب اولاً تشخيص الداء وتعريف الناس به ثم البحث عن الدواء المفيد والمناسب له وفي معرض النصح والتوجيه الى الاباء والامهات اتمنى ان نستطيع اتباع المنهج الاسلامي الواعي في التربية بما لا يبخس حق ابنائنا في تربية صالحة ولا يجعلهم في نفس الوقت ضحية السذاجة والبراءة في قبالة الوحوش البشرية التي تملأ الخافقين حولنا وهنا اود ان اشير الى ان الكثير من الكتب والدراسات كتبت في هذا المجال وهي تمثل كنوزاً في هذا السياق واما في الواقع العملي فقد اختصر رسولالله -صلىاللهعليهوآله- القول فيمايخصتربيةالأطفال بقوله (ص): اتركهسبعا،واضربهسبعا،وصاحبهسبعا. وفي محور بحثنا نقول للأهل ادبوا اولادكم على الدين والاخلاق والمثل والقيم في السبعة الاولى من العمر وراقبوهم وركزوا فيهم تلك القيم في السنين السبعة التالية من عمره مع مراقبة من يصحب ومن يعاشر حتى يبلغ الرابعة عشر من العمر وهو اخطر عمر في حياة الصبي والصبية فيجب حينها ان يبدأ الاباء في شرح حقائق الامر لأولادهم وتوضيح ما خفي عنهم وفتح النقاش على مصراعيه معهم في محاولة لاستكشاف افكارهم وطريقة قراءتهم للأحداث حولهم وتصحيح ما يعلق في اذهانهم من مفاهيم خاطئة ولا ادعي هنا ان الامر سهل يسير فوسط مشاغل الحياة المتزايدة والهوة الكبيرة بين الاجيال المتفاوتة تجعل الامر صعباً مستصعباً وقد فشل فيه الكثيرون بل الاغلبية من الاهل الا ما ندر ممن وفقهم الله تعالى لتحقيق الهدف المرتجى وايصال ابنائهم الى جادة الصواب بسلامة عقلية وجسدية ونفسية بعيداً عن الشذوذ والتعصب والتطرف والتسيب والانحلال . ولا يفوتني في نهاية القول ان اوجه تحذيري للجميع واقول اياكم واياكم وان تتنازلوا عن المثل والقيم والمبادئ والتعاليم الدينية وما يميزنا كبشر عن سائر خلق الله مهما بلغت الظروف من قساوة ومهما بلغ انحدار وتسيب المجتمع فسوف يأتي اليوم الذي يحاسبنا فيه اولادنا في الدنيا على سوء تربيتهم ويحاسبنا ربنا في الاخرة على ذلك ايضاً وكيف اننا ضيعنا الامانة التي كانت بين ايدينا، وفقنا الله واياكم لكل خير واعاننا على زماننا وما فيه ومن فيه.