17 نوفمبر، 2024 9:43 م
Search
Close this search box.

معركتنا التنويرية وقوى التخلف

معركتنا التنويرية وقوى التخلف

بسبب الجهود الكبيرة المبذولة من قبل قوى التخلف والانحطاط التي تدعي الحفاظ على الاصالة والتراث، جعلت بيننا وبين الغرب سنوات ضوئية… فحاربت بضراوة محاولات التنوير والنهضة والتقدم التي لم يتحقق بعضها الا بعد ان خاضت معارك مع هذه القوى المحافظة والرجعية.

وقد تطلبت هذه المعارك تضحيات كبرى مع طلائع التنوير والتحديث والعقلانية… في بلادنا، فدفع البعض منهم حياته ثمناً لموقف او رأي يحمله ويؤمن به، واثبتوا بذلك، انه على الرغم من ان لا شيء اقوى من فكرة آن اوانها، فان الافكار الجديدة لا تترسخ من دون تضحيات… وكانت النتيجة في المحصلة، ان هذه المعارك خلصت الغرب وقتها من ارث ثقيل فانتقل الى مستوى حضاري جديد فيه الكثير من السلبيات ومن الايجابيات… لكنه بالتأكيد ارقى من مستنقع الماضي.

ويكمن جزء صغير من مشكلتنا نحن العرب المعاصرين، في اننا نقارن بين واقعنا وواقع الغرب، فنبتئس لعظم الهوة الحضارية التي تفصل بيننا. ونكتفي بالتذمر والمقارنة الشكلية دونما تحليل، وقلما نفكر بالطريق الذي سلكوه والثمن الذي دفعوه لقاء التنوير، والأخطر من ذلك اننا نتجنب التفكير بالطريق الذي يتوجب علينا ان نسلكه، والثمن الذي يتعين علينا ان ندفعه لو اردنا الانتقال الى مستوى حضاري ارقى، فيستمر البعض منا بالنظر الى الماضي عوضاً عن التطلع الى المستقبل، فلا يأخذون من التاريخ سوى رؤية ضيقة الافق يرسمونها هم لانفسهم دون ان تعبر عن جوهر الحضارة العربية الاسلامية. وينظر البعض الآخر باستلاب مبتذل الى الغرب مماثلين بين الحداثة وبين التقليد الاعمى، فلا يأخذون سوى القشور التي تدعو للتنوير والعقلانية، سبيلها في ذلك التعلم من تجارب الامم كلها وخوض معركة التحديث الخاصة بنا بانفتاح على ثقافات الشعوب الاخرى دونما انغلاق ودونما ابتذال كيما تطور هويتنا الحضارية وندخل العصر الحديث. ومن نافل القول ان هذا الهدف لا يتحقق الا بانتاج العلم والمعرفة والفنون في جو من الحرية والتسامح والديمقراطية والاحترام والتنوع.

ان الشعوب المتخلفة تفهم دينها فهماً متخلفاً، كما يقول المفكر سمير امين، وهذا ما كان حاصلاً في اوروبا في العصور الوسطى. فقد ذكر التاريخ ان (برونو) أُحرق حياً لانه أصر على الكفر القائل بأن الارض ليست مركز الكون. وهدد (غاليليو) بالمصير نفسه ان أصر على هرطقته القائلة بأن الارض تدور حول الشمس، واحرق العديد من الابرياء بعد اتهامهم بالسحر والشعوذة.

اننا لا نمل من ترداد هذه الاحداث التاريخية كيما نبرهن على اننا قد سبقنا الغرب في التوصل الى هذه الحقائق، حيث كان التفكير العلمي مزدهراً في العصور الاسلامية المبكرة… لكننا في العادة لا نضع هذه الاحداث في سياقها، فهي وان كانت حقائق تاريخية، فانها تمثل الجزء القاتم من تاريخ الغرب، اما الجزء المشرق الذي يتجاهله فهو النضال الذي خاضه العلماء والفنانون والمفكرون الغربيون من اجل تثبيت مفاهيم تتراوح في اهميتها من حق الفنان في ان يرسم لوحة فنية لا توافق المعابر الفنية التي وضعتها الكنيسة، مروراً بحق المواطن

في ان يطرح افكاراً جديدة للنقاش العام، وانتهاء بحركة الاصلاح الديني، وكان من نتائج هذا النضال تبلور وتجذر مفاهيم الديمقراطية والحريات الشخصية والعقلانية والتسامح لدى الفرد الغربي وبالتالي في المجتمعات الغربية بعامة . انني اسارع فأذكر، لا ادعو لتقبل هذه المفاهيم دونما نقد.

هل كان هذا التفكير العلمي العقلاني حكراً على الغرب؟

ابداً، فقد توصل علماؤنا وادباؤنا الاوائل الى اراء في غاية الاهمية والتقدم، بل لقد تبلورت بعض الاراء في تيارات فكرية وسياسية سبقت عصرها. فهاهم المعتزلة يرفعون من شأن العقل، وها هم القرامطة يدعون للعدالة الاجتماعية، وها هم اخوان الصفا يضعون اسس التفكير العلمي، وها هو النظام يقول ان الانسان يستطيع من خلال العقل معرفة نواميس الكون، كما يقول بوجوب وجود قانون موضوعي يحكم العلاقة بين المواطن والحاكم، هذا دون ان نذكر تفاصيل حركة العلم والادب والترجمة والتأليف التي ازدهرت حتى نهاية العصر العباسي الاول.

لكني اتساءل: لماذا نذكر الصور المشرقة فقط من تاريخنا؟ اذ يدعي الكثيرون بفخر ان مفكراً واحداً لم يظلم في تاريخنا. والحقيقة التي ننساها ونتناساها، ان تاريخنا (غاليليوهات) و (برونوهات) عدة، فينسى هؤلاء افراداً مثل حجر بن عدي الكندي الذي عرض عليه معاوية بن ابي سفيان التبرؤ من علي بن ابي طالب، فرفض، فقام بقتله واصحابه. وينسون غيلان الدمشقي الذي طالب عمر بن عبد العزيز ببيع خزائن الامويين ففعل، فنادى غيلان في الناس ليشتروا ما اعتقده انه من حق الناس، فحنق عليه هشام بن عبد الملك. وحين تولى الخلافة حبسه وقطع يديه ورجليه، فظل غيلان ينادي بما آمن به الى ان بعث له هشام من قطع لسانه. كما ينسون ابن المقفع الذي قتله والي البصرة بطريقة سادية بشعة، مثلما ينسون بشار بن برد الذي جلد حتى مات امام الخليفة المهدي، وينسون كذلك الحلاج والسهروردي وكثيرين آخرين. كذلك الأمر ننسى في العادة اضطهاد المعتزلة واتلاف كتبهم وقمع القرامطة بوحشية، واجراءات اخرى كاغلاق باب الاجتهاد.

ومهما تكن التبريرات التي استخدمت في حينه لاضفاء الشرعية على هذه الاعمال فأننا يجب ان نقيمها اليوم بعين ناقدة، ويمكننا القول بثقة، ان العديد من هذه التهم والاحكام، ان لم يكن كلها، كان ظالماً، وليس في الأمر ما يشين، فحوادث كهذه حدثت في تاريخ كل امة. الا انه من المؤسف ان دعوة التنوير والعقلانية هزمت في تاريخنا بعكس ما حصل في الغرب. والمؤسف اكثر من ذلك، اننا لا زلنا ندفع حتى اليوم ثمن تلك الهزيمة، ففي هذا العصر والزمان نرى ممارسات لا تختلف كثيراً عن ممارسات بابوات العصور الوسطى في اصدارهم الحرمانات او في توزيعهم لصكوك الغفران التي بدورها لم تختلف من حيث المبدأ عن دعوة ابو الحسن بن فارس تحريم العمل بالرياضيات او قول الامام الذهبي بان ما من دواء لعلماء الفلسفة الا التحريق والاعدام من الوجود.

الثقافة والفكر لا تهدد احداً، اما قمع مثقف او كاتب او فنان… فانه يهدد المجتمع بأسره. واتساءل: لو طورد اليوم فنان على لوحة رسمها، فأي شاعر نطارد غداً على قصيدة انشدها؟ واي كاتب نضظهد بعد غد على مقال نشره؟ وبعد ذلك اين نتوقف؟

بأمكان البعض ان يدعي معرفة المصلحة العامة فيحدد عشوائياً ما يلائم الشعب/ المجتمع وما لا يلائمه، وبامكان البعض ان يكون في موقع معين فيفسر القانون تفسيراً جامداً لا حياة فيه فيحوله من قانون لحماية الثقافة الى سيف مسلط عليها وعلى المثقفين. افلا ترون معي ان هذا الحال لا يختلف عن العصور الوسطى في اوروبا، ولا يختلف عن التجربة التي مرت بها امتنا قبل الف عام؟

يبدو ان علينا ان نبدأ من حيث ابتدأ الآخرون لا من حيث انتهوا. وان علينا ان نناضل من اجل ضمان حرية التعبير، ذلك ان النصوص الواردة في القانون لم تترسخ في اذهان المجتمع كما هو الحال في الغرب، والسبب في ذلك هو انهم خاضوا المعركة التنويرية التي تمخضت عن تشريع ملائم، اما نحن فلم نخض هذه المعركة فاتى هذا النص على اهميته من دون ان يرتبط بمشاعر المجتمع وقناعاتهم وبالتالي لم يكن بالامكان الا ان يطبق تطبيقاً عرفياً.

اخيراً، لا بد من كلمة صريحة: لا يمكن ان يكون المواطن عضواً فاعلاً في المجتمع ولا يمكنه ان يساهم في بناء الدولة الحديثة ما لم يشعر بكيانه وحريته واحترامه. فما معنى الوطن اذا لم يستطع المرء ممارسة حريته المسؤولة فيه؟

ان ممارسة هذه الحرية هي التي تقود الافراد للانتماء للمجتمع وللوطن. اما الارهاب الفكري الذي يمارس تحت شعار الحرص او الوصاية او غير ذلك من الشعارات، فلن يقود الا الى انتاج افراد جبناء مهمشين او افراد يتطلعون الى الهجرة، والوقوف على ابواب السفارات..

هل نرضى ان يفقد الوطن مبدعيه؟

انها معركتنا التنويرية، وخيارنا واضح، فاما ان تتعايش كل الاراء في جو من الحرية والاحترام والا فأهلاً بالعصور الوسطى.

[email protected]

أحدث المقالات