5 نوفمبر، 2024 12:21 م
Search
Close this search box.

معركة جنين على لسان قائدها “عُمر علي باشا”

معركة جنين على لسان قائدها “عُمر علي باشا”

مقدمة
ترَدَّدتُ كثيراً في أن أكتب شيئاً عن “معركة جَنين” (1948) وقائدها “المقدم الركن عمر علي”، فقد سبقني إليها العشرات من كبار القادة والباحثين، فضلاً عن عدم إمتلاكي وثائق رسمية عن “معركة جنين” وخطّتها وتفاصيل تنفيذها.
ولمّا نشر هذا الموقع الأغر يوم (3/شباط/2018) ما نقلتُه عن “أمير اللواء الركن عمر علي باشا” بشأن الأوضاع التي سادت “فلسطين” قبل إندلاع حربها (1948)، حتى أطرى عليّ أصدقاء ومتابعون ومؤرخون حيال ما سردتُ من حقائق ظلّت خافية عليهم، دافعينني نحو المزيد ما دمتُ قد إستقيتُها من شخص “عمر علي باشا” وعلى لسانه -والتي ربما لا يمتلكها غيري- فقد أتيتُ اليوم على كيفية قيادته لـ”معركة جنين” كما رواها ببعض التفصيل، وقد صَقَلتُها بالإفادة من الروايات الآتيات:-
مذكرات “أمير اللواء الركن حسين مكي خماس” عن حرب فلسطين، والتي أصدَرَها نجله “اللواء الركن علاء الدين”.
موسوعة تأريخ القوات العراقية المسلّحة -الجزء الثالث- الصادرة من وزارة الدفاع للفترة (3/10/1932- 14/7/1958).
الزعيم (العميد) الركن الدكتور شكري محمود نديم- أحد ضباط ركن القيادة العراقية خلال حرب فلسطين.
العميد “شاكر محمود السامرائي”- أحد ضباط الفوج/2- اللواء الجبلي/5 الخائض لـ”معركة جنين” مع آمره “المقدم الركن عمر علي”.
رواية “عمر علي” عن “معركة جنين”
هاتفتُ “العم عمر باشا” مُستأذناً زيارته بعد صلاة التراويح مساء (السبت-14/رمضان) الموافق (16/1/1965)، وكلّي شوقٌ ليستكمل حديثه عن “معركة جنين”، فإبتدأنا من حيث إنتهينا في جلستنا السابقة:-
بوادر “حرب فلسطين”
أنـا:- نعم يا عم…. في لقائنا قبل أربعة أيام بلغ بكم المَطاف إلى تحريك فوجك من شمالي الوطن إلى “فلسطين”؟؟
عمر باشا:- صحيح، وسأختصر الحديث كثيراً… فقد كنتُ آمراً للفوج/2- اللواء الجبلي/5 في قاطع “قضاء عقرة” لثلاث سنوات منصرِمات، وقد شاركنا -ضمن تشكيلات الفرقة/2 بقيادة “أمير اللواء مصطفى راغب باشا”- في إخماد تمرّد مسلّح ضد الدولة تَزعََّمه “أحمد آغا البارزاني” مع أخيه الأصغر “ملاّ مصطفى” خلال الفترة (آب-ت1/1945) قبل أن نَهزِمَهم إلى “إيران” في غضون شهرَين.
أما في أواسط (1947) فكنا لتوّنا قد أرغمنا مئات المسلّحين البارزانيين بصحبة “ملاّ مصطفى البارزاني” حالما علمنا بعودتهم لأرض العراق إثر إنهيار “دولة مَهاباد” الكردية على يد الجيش الإيراني، مُرغِمينَهم في غضون أسبوعين على الهروب إلى “روسيا”.
وفي أواخر (1947) كانت بوادر حرب مع اليهود بائنة للعَيان، فرَجَوتُ آمر لوائنا الجبلي/5 “الزعيم (العميد) ياسين حسن” أن يفاتح المراجع الأعلى ليكون فوجي من أوائل الوحدات التي قد تتوجّه لإنقاذ “فلسطين”… وإستحضرتُ لذلك بتحويل مشاعر منتسبي الفوج من أساليب قتالٍ غير نظامي بأسلحة بسيطة إلى خوض معارك حيال جيشٍ معادٍ متدرّب يمتلك أسلحة جيدة ويُتَوَقَّع منه التشبث بمواقعه.
تدريب الفوج على الحرب النظامية
ألغيتُ صفحة الإنسحاب من الذاكرة وطويتُ صفحة التدريب اليومي الرتيب، ووضعتُ منهجاً مفصّلاً لممارسة ((التقدم السريع، الهجوم التصادفي والمُدَبَّر وبالأخص الهجمات الليلية بالإفادة من أبسط الأضواء بإعتماد آلة “الحُك/البَوصَلة”، حركات الإحاطة والإلتفاف، التحوّل الفوري من الهجوم إلى الدفاع ومسك الأرض، الهجمات المقابلة الفَورية لإستعادة هدف قد نخسره، التعرّض على المَنَعات (الصَناكر) المحصّنة، محاصرة القلاع وإقتحامها، التعاون مع المدفعية، قتال الشوارع والمنازل، إلى جانب تطوير القابليات البدنية وتسلّق المرتفعات والصبر على العطش والجوع وتحمّل إنعدام النوم، ناهيك عن الرمي الأسبوعي كلٌّ بسلاحه وسلاح ثانٍ، مع التركيز على الرمي المُتقَن بالهاونات وإستثمار خاصية رشاشات “فيكرس” بالرمي المركّب فوق الرؤوس، إلى جانب التدريب على قذف الرمانات اليدوية أثناء الهجوم والدفاع)).
وهناك إجراءٌ أفادَني كثيراُ بعدئذ إثر إطلاعي على التقارير الدورية التي بدأت الإستخبارات العراقية بإعمامها منذ أواخر سنة (1947) مُتضَمِّنة معلومات عن تشكيل اليهود وحدات مخابرة لأغراض الإستراق والتجسس والتشويش اللاسكي، وذلك بأن يتحدث مخابرو الفوج -ومعظمهم من غير العرب- بالكردية أو التركمانية أو الآثورية في مهاتفاتهم اللاسلكية، ليستحيل على العدو فهمها عوضاً عن “الشفرة” التي يطول فك رموزها.
وفضلاً عن ذلك فقد خرجتُ على المألوف فعَيَّنتُ ((مؤذّناً)) يرتبط بـ”إمام الفوج” الرسمي (كاك فتّاح)، مستثمِراً إمكانات ضابط صف كنا نسمّيه “كريم قوريات” -والذي عُرِفَ مؤخراً بإسم “كريم كولَمَن” المغني التركماني المعروف- لإجادته المقامات وإمتلاكه صوتاً غليظاً- جَهوَريّاً ذا طبقات عالية يطرق الأسماع على بُعد مئات الأمتار، ووجّهتُه برفع الأذان في أوقاته الخمسة، مُضيفاً في نهايته عبارة ((حيِّ على الجهاد)).
طال إنتظارنا أشهراً جراء المواقف السياسية المتضاربة وعدم إتفاق القادة العرب لإنهاء الأزمة قبل إستفحالها، حتى أعلن البريطانيون إنهاء إنتدابهم لـ”فلسطين” وإفراغها من عساكرهم، غاضّين الطّرف -أو سامحين لليهود- بالتمترس في أماكن ومرتفعات في غاية الأهمية مستحوذين على مدن شتى وبقاع طالما حلموا برُبعِها قبل أن يُحَرِّك “العراق” في أواخر (نيسان/1948) طلائع تشكيلات جيشنا -ليسبق جميع الجيوش العربية- للتحشّد في الأرض الأردنية والتهيّؤ لعبور “نهر الأردن” إلى أرض “فلسطين” فجر (15/5/1948).
وتوجّهنا إلى “فلسطين”
أنـا:- ولكن، تبدو أن الحرب إندلعت ومازلتم في “عقرة”.
عمر باشا:- نعم، ولكن إنتظارنا لم يطل طويلاً، فقد حضر السيد آمر اللواء إلى مقر فوجي صبيحة (23/5/1948) وأبلغني -من دون أفواج اللواء- بالتهيّؤ للتنقّل بالقطار النازل إلى “بغداد” بعد ثلاثة أيام فقط، فتم ذلك مساء (26/مايس)، حيث كان السيد “أمير اللواء مصطفى راغب باشا” -قائد الفرقة الثانية، ومقره في “كركوك”- مع متصرف (محافظ) الموصل وكبار الشخصيات وشيوخ العشائر والآغاوات على رأس موديعنا بمحطة قطار الموصل.
وفي صباح اليوم التالي (27/مايس) ترجّلنا في “بغداد” مُنتقِلين إلى “معسكر الوشاش” المُتاخم لأصبح بإمرة جحفل اللواء الجبلي/4 بقيادة “العقيد الركن صالح زكي توفيق”، حيث تداركنا النواقص وإستلمنا خطوطاً من الأعتدة قبل أن نستقلّ فجر (28/مايس) سيارات نقل عسكرية وأخريات مدنية خُصّصت للمجهود الحربي متوجهين عبر الصحراء الغربية إلى “المملكة الأردنية” بـ(أربع) مراحل حتى بلغنا مدينة “المفرق” ظهيرة يوم (31/مايس).
ولكننا لم نرتَح سوى ساعة واحدة حتى أُمِرنا بالإسراع بإجتياز “نهر الأردن” لنبلغ ضواحي مدينة “أريحا” للمبيت ليلة واحدة قبل أن نَتَنَقَّلَ في صبيحة (1/حزيران/1948) إلى “نابلس” ونعسكر مؤقتاً في شماليّ تلك المدينة الجميلة.
أنـا:- أنا لا أعرف المنطقة ولا أستطيع تقدير مواقعها… ولكن أليس طَويُكُم لتلك المسافات -وبضمنها المرحلة الرابعة- في يوم واحد إرهاقاً؟؟
عمر باشا:- نعم… ولكن المسافة بين محطة ضخ “H-5” لا تتعدى (100) كلم عن مدينة “المفرق”، وكان المفترض أن نُقيم قرب مطارها العسكري بضعة أيام… ولكن الموقف الميداني في معظم القواطع أمسى حَرِجاً بعد إنقضاء أسبوعين على بدء العمليات.
أنـا:- موقف حَرِج مع كل هذه الجيوش؟؟؟!!!
عمر باشا:- أووووووه يا صبحي… أية جيوش تتحدث عنها!!! أنا أتضجّر من ترديد كلمة “جيوش” وأكتئب من ذكرها…. فكل القوات العربية النظامية التي تقدَّمَت على المحاور الرئيسة الخمس لم يَتَعَدَّ مجموعُها -مع تكامل جحفل لوائنا في “فلسطين”- على “فرقَتَين”، أي بحدود (20,000-25,000) جندي!!! ولسوف يتقابلون مع ما لا يقلّ عن (100,000) يهودي يحتويهم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، فيما المُفتَرَض -حسب الحسابات العسكرية التي درسناها في الكلية العسكرية- أن يكون معدّل المهاجِمين إلى المدافِعين بنسبة (3) تجاه (1)… ولذلك إختلّ التوازن سِراعاً بتقادم الأيام حتى غَدَت “المبادأة” بين أيدي الصهاينة فباتوا في موقف التعرّض بكل الجبهات وأمسَينا نحن بحالة دفاع!!!
أنـا:- أصبحتُم -يا عم- في موقف الدفاع؟؟!!
عمر باشا:- نعم تماماً… فوقتما وصلنا بلدة “المفرق” وإطلعتُ -بعض الشيء- على الموقف العام في غرفة عمليات مطارها العسكري، فقد تلمّستُه حَرِجاً يسوده الغموض، لما يأتي:-
فاللبنانيون منذ فجر (15/5/1948) لم يتقدموا شبراً واحداً من “رأس الناقورة”.
والسوريون خلال الأسبوعَين المُنصَرِمَين ظلَّ موقفهم مُبهَماً ولا يخبرون أحداً عن مواقعهم.
والقوة الأردنية لم تندفع نحو “بيسان” ولا لـ”جنين-العفولة.” ولم يَفِ “الجنرال كلوب باشا” بوعده (الشفاهي) للقيادة العامة بإعادة قواته الأردنية إلى “القدس”.
والمصريون لم يحرزوا تقدماً واضحاً من الجنوب.
والقيادات العربية العليا لم تُنَسِّق تحرّكاتها الميدانية المفترَضة والمخطّط لها والمُبَلَّغة إليها، ولم تلتزم بتوجيهات القائد العام (الرسمي) للقوات العربية “أمير اللواء الركن نورالدين محمود”.
ولربما كان العراقيون أفضل من أقرانهم العرب في جدّيةً تنفيذهم للخطة العامة، فقد إجتازت وحدات قوتهم الآلية مع فجر (15/5/1948) -بقيادة “الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي”- نهر الأردن نحو “قلعة كيشر”، تبعها جحفل فوج من اللواء المشاة/1 رغم عدم تمكنه من إقتحامها، ودفعوا فوجاً آخر من اللواء المشاة/15 نحو مرتفعات تطلّ على “كوكب الهوى” تمهيداً لإستردادها.

ومع المحاولات الدولية لفرض هُدنة وشيكة بين الطرفَين المحاربَين لإفادة الجانب اليهودي، وبينما كانت القيادة العراقية تستحضر تشكيلاتها لهجوم واسع لإستعادة “كوكب الهوى”، فقد تقرر -لدواعٍ غامضة- تغيير المحور الرئيس للقوات العراقية من مواقع تحشدها في تلك البقاع لتنتشر في قواطع “نابلس”!!!
في أرض “فلسطين”
ووقتما وصلتُ بفوجي إلى “المفرق” ظهيرة (31/مايس) كانت المعلومات الإستخبارية تشير لتعرّض يهودي وشيك وواسع نحو جميع جبهات المواجهة، لذلك أُمِرتُ بعدم التريّث بل إجتياز “نهر الأردن” وبلوغ “أريحا”… وبعد مبيت ليلة واحدة هناك توجهنا صبيحة (1/حزيران/1948) إلى “نابلس” مثلما ذكرتُ.
مفارقات في مقر القيادة العراقية
وحالما حَدَّدتُ موقع المعسكر الوقتي لعدد من ضباطي مع الصباح الباكر يوم (1/حزيران) فقد أسرعتُ لزيارة مقر القيادة العراقية بمدينة “الزرقاء”، فإستقبلني “الرئيس أول (الرائد) الركن شكري محمود نديم” و”الرئيس أول (الرائد) الركن خليل سعيد” بغرفة الحركات (العمليات) لأخبرهما عن تكامل جحفل فوجي في “نابلس” وأستوضح مسؤوليتي ومَن سأئتَمِر بأوامره… ولكني تلمّستُ إرتباكاً واضحاً في تسيير الأمور مع إقتراب الموعد المحتمل لشن الهجمات اليهودية، مصحوباً بضبابية المواقف في جميع القواطع لعدم تلبية السوريين ووحدات جيش الإنقاذ الفلسطيني توجيهات القيادة العامة بالمباشرة بحركات تعرضية في منطقة “بنت جُبَيْل” لتخفيف الضغط المحتمل على القوات العراقية.

وفوق كل ذلك فقد فارَ دمي وقتما بلَّغَني الأخ “شكري نديم” واجب إستلامي لمواقع جحفل الفوج/1-اللواء/1 بجبهة (25) كلم المتشتملة “كَفَر قاسم- رأس العين- مَجدَل بابا”، حيث سأضطر لتجزئة سرايا فوجي وفصائلها فأنشرها على شكل حضائر (عشرة جنود) بتلك المنطقة الشاسعة، حيث ستفصل بين كل حضيرة وأخرى مسافة (1) كلم غير متسانِدة فتكون لقمة سائغة حيال أية هجمة قوية، ناهيك عن كون ذلك الفوج منتشِراً هناك عارِفاً بقاطع مسؤوليته مستطلعاً تفاصيله.
إستقبلني صديقي العزيز “العقيد الركن غازي الداغستاني” -ضابط الركن الأقدم بالقيادة- قبل أن أصِرّ على كون فوجي قد درّبتُه أشهراً للعمل على شكل كتلة واحدة، فالأوجَب الإفادة منه قوةً ضاربة نحو أي قاطع يتعرض لموقف طارئ، فإقتنع بذلك وألغى الفكرة.
الخطة الجريئة-الطموحة
وحالما عدتُ إلى “نابلس” وقبل اللقاء مع ضباط الفوج لأصارحهم بمجريات الأمور، حضر “ساعي راكب دراجة” وبلغني بالعودة فوراً إلى القيادة العامة، لأفاجَأ بأمر طَموح يتعاكس مع سابقه بمقدار (180) درجة، وذلك بالإندفاع -مع وحدات أخرى من جيشنا- من منطقة “طولكرم” نحو “كفر يونا” لبلوغ ميناء “ناثانيا” على البحر الأبيض.
كان الأمر اللاحق تطبيقاً للخطة العامة العراقية -الجريئة والطموحة للغاية- بتشتيت الجزء اليهودي المُعلَن من “فلسطين” -في أعظم بقاعه عمراناً وإكتظاظاً بالسكان- إلى شطرين وحرمانه من إستخدام موانئهم على البحر الأبيض المتوسط.
فرِحتُ بالواجب الجديد وبلّغتُ ضباطي الأقدمين به، وبقيتُ متقلِّباً طوال الليل أفكّر في تنفيذه حتى خرجتُ برفقة معظم ضباط الفوج صباح (2/حزيران) إلى قاطع جحفل لواء المشاة/1 بمنطقة “طولكرم”، مُنهين إستطلاعاً مُفصلاً للعوارض المهمّة والطرق والنياسم التي قد نسلكها، حتى عدنا إلى “نابلس” عصراً ليفاجئني مساعدي “الرئيس أول (الرائد) شاكر السامرائي” -الذي ظلّ خافِراً بمقر الفوج- وقد هَيّأ السرايا للحركة، وهو يعرض عليّ برقية مكتوبة بخط اليد إستلمها قبل ساعتين من القيادة العامة من يدي “ساعي راكب دراجة”، تأمرنا بالحركة (فوراً) إلى “دير شرف” لنكون قريبين من “جنين”.
أنـا:- يا عم عمر إسمح لي بمقاطعة… هل يُعقَل خلال (24) ساعة أن تُبَلَّغ بتسلّم قاطع فوج من اللواء/1، ثم يُبَدَّل الأمر إلى هجوم على “ناثانيا”، وفي أثناء الإستطلاع ينذروك بالتحرك نحو “جنين”…. أليس هذا تخبّطاً؟؟!!
عمر باشا:- لا تُثِر مواجعي -يا صبحي- ودعني مسترسِلاً.
أنـا:- تأمر يا عم… ولكن لماذا لا تبعث القيادة هكذا أوامر باللاسكي وتعتمد على راكبي الدراجات؟؟!! هل بسبب عدم كفاية مَدَيات الأجهزة؟؟!!
عمر باشا:- كلاّ ليس المديات فحسب، بل جراء إستراقات اليهود اللاسلكية وفكّهم شفرات معظم البرقيات والمكالمات، وقد نشطوا في هذا الشأن فور بدء الحرب، ولذلك إعتَمَدَت القيادة هذا الإجراء وأمَرَت الجميع بإتباعه، مع قبول واقع البطؤ في إيصال الأوامر للمَعنيّين.
وعلى أي حال، فقد إستبشرتُ خيراً بأن هذا الإجراء ربما كان ضمن ((خطة مُخادَعة)) للتستر على التعرّض المُزمَع نحو “ناثانيا”… ولم يأتِ ببالي ما تخبّئه قادم الساعات على فوجي.
ساعات عصيبة سبقت “معركة جنين”
أنـا:- فتطوّرت الأمور.
عمر باشا:- نعم وبسرعة… فحال تَعَسكُرنا قرب “دير شرف” مساء (2/حزيران) فقد زارني الأخ “شكري محمود نديم” ليخبرني أن اليهود باشروا بهجومهم العنيف على “جنين” التي ينتشر فيها (رتل أسد) -بقيادة “المقدم الركن نوح عبدالله الجَلَبي”- والمؤلّف من جحفل فوج المشاة الآلي التابع للقوة الآلية، وأن القيادة تتوقّع أن يستهدف الصهاينة إحاطة جميع البقاع التي تتمركز فيها تشكيلاتنا للوصول إلى “جسر الملك حسين” إبتغاء قطع مواصلاتنا مع شرقيّ “نهر الأردن”… فرجوتُه أن لا يُضخّم الموضوع بل يُخبر السيد القائد العام بضرورة صمود (رتل أسد) في “جنين” ريثما ننفذ -نحن- تعرضنا المُزمَع نحو “ناثانيا”.
حلّت ساعات أول الليل لتطرق أسماعنا إنفلاقات قنابل القصف المدفعي عن بُعد (40) كلم، وفيما خَفَّ بعض الشيء مع منتصف تلك الليلة، فقد غفوتُ مُتعَباً حتى فوجئتُ بالأخ “شكري نديم” مُتَرَجّلاً من سيارته العسكرية… ومن دون تحية ولا سلام ولا مجاملات فقد خاطَبَني لاهثاً:-
((سيدي سيدي… “المقدم نوح” ترك مدينة “جنين” تحت ضغط الهجوم وسحب (رتل أسد) إلى “قلعة جنين” فأحاطهم اليهود بقوة تقدّر ببضعة آلاف… فما عليك سوى التحرك لإنقاذه وإنقاذنا يرحمك الله))!!!!؟؟؟؟؟
التهيؤ للمعركة
أنـا:- فجاء دورك.
عمر باشا:- نعم… صرختُ بأعلى صوتي فإنتبه من سمعني وأيقظ النائمين، فهرع الضباط الأقدمون نحوي ليستوعبوا الموقف، فيما أوقفتُ المُؤذِّن “كريم قوريات” إلى جانبي صارخاً سبع مرات:-
((الله أكبر… الله أكبر… حيّ على الجهاد… حيِّ على الجهاد))
وفي غضون نصف ساعة قُبَيلَ فجر (3/حزيران) كانت سرايا البندقيات الثلاث مع الهاونات والرشاشات “فيكرس” المُلحَقة بها جاهزة للحركة.
رُفِعَ علم فوجنا فوق رأسي وأمسكتُ حَربَةَ إحدى البنادق بيدي اليمنى صارِخاً:-
(((يا رجال العراق… با أبطال فوجنا العالي… يا من قهرتم الجبال… هذا يومكم..، وأنا في مقدمتكم… فإذا رأيتموني متردِّداً فلا تتقدموا شبراً… وإن تلمّستموني خائفاً فإقتلوني… أطلبوا الموت توهَب لكم الحياة… ولَـمّا يُصرَِع أحدُنا ففي جنّة الخلود، وإن لم يُصِبهُ شيء فرأسه مرفوع… لا يجبن أحدكم فَيُخزى… فلنتوكّل على الله -سبحانه- وننقذ رجال الفوج الآلي المُحاصًر فلا نَدَعهم أذِلاّء مُهانين تحت أيدي اليهود…. الله أكبر… الله أكبر))).
وكررتُ الخطاب باللغتين الكردية والتركمانية… فردّد الجميع:- ((الله أكبر… الله أكبر))… وتراكضوا كالمجانين لتلافي أي نقص في أي شيء.
تقدّمنا نحو “جنين”
أنـا:- أدمَعتَ عيني يا عمّي.
عمر باشا:- كما دمعت عينايَ، فتلك الساعات لا تفارقني حتى لو طال عمري (1000) سنة.
وفي لحظة المباشرة بالمسير لم أنسَ تذكير الضباط بضرورة التحدث باللاسكي باللغتَين الكردية والتركمانية حصرأ قُبَيلَ وَداعِنا قرية “دير شرف” مع إشراقة شمس (3/حزيران) مُحَمَّلين بسيارات نقل نحو “عَرّابة- قَباطية” في طريقنا إلى “جنين”، سائرين ببطؤ على الطريق العام حذِرين ومترقّبين -كما تدرّبنا- لئلاّ نقع في كمين.
كان الذي يؤلمنا -طوال المسير البطيء- منظر الآلاف من أهالي “جنين” الهاربين والمُشرَّدين بمجاميع تسلك الطريق، حتى غضبتُ على البعض منهم:- ((لماذا تهربون من دياركم؟؟ ألا تمتلكون غيرة على وطنكم؟؟ لِـمَ تجبَنون وتتركون حياضَكم ليستلمها اليهود؟؟)).
وبدأت المعركة
ولساعة ونصف من المسير الحذِر لم نتَلَقَّ نيراناً حتى إقتربنا من بلدة “قَباطية” فعالَجَتها السرية الأمامية من دون خسائر وسيطرت على التلال المُطلة على الطريق، في حين إلتحق إلينا (15) مسلّحاً فلسطينياً ليخبرونا بإحتلال الصهاينة لكامل مدينة “جنين” وجنوبها، فأمرتُ الجميع بالترجل والإنفتاح قبل أن تنهمر علينا عشرات القنابر من (ستة) هاونات، وفيما أسرعت السرية الأمامية بتسلّق الهضاب بين “بَرقين” و”جنين”، فقد إتخذتُ من أعلاها مرصداً يُشرف على عموم المنطقة وبالأخص “قلعة جنين” العملاقة ومحيطها وحتى المدينة” لأستطلع آنياً وأضع خطة سريعة للهجوم، وأوعزتُ لمعاوني “المقدم أنور فَرَنكُول” بفتح مقر خلفي ومنطقة إدارية خلف التلال ليديم زخم المعركة بدفع الأعتدة إلى السرايا عند الحاجة ويستقبل الجرحى والمُصابين.
حرماننا من الإسناد المدفعي
أنـا:- يا عمّي الباشا… ألم يدُر ببالك في تلك اللحظات الصعبة ما يعكّر الصفو؟؟
عمر باشا:- أبداً ومطلقاً… كان همّي الوحيد أن أُضَبِّط الأمور ولا أدَع ثغرة تؤخرنا بإستخلاص رفاقنا المُحاصَرين، ليس بالسرعة الممكنة فحسب بل بأقصى سرعة واجبة، كي لا يُذَلّوا… رغم أن بطرية المدفعية (25رطل) الموضوعة بإسنادنا المباشر لم تستطع اللحاق بنا ((لأسباب فنّية))!!! ولذلك سيُبصَق في وجه آمرِها ويُحال للقضاء العسكري ويُسجَن ويُطرَد من الجيش.
كان الوقت أثمن من التريّث، فبلوغ “قلعة جنين” وبالغ السرعة في إستردادها أعظم بكثير… لذا قررتُ أن لا آبَه بالإسناد المدفعي -رغم دوره البالغ- بل أكتفي بما نمتلكه من الهاونات (3عقدة) ورشاشات “فيكرس” ونعتمد الحركة السريعة والستر بالنار والإسناد المتبادَل كسباً للوقت الذي ينقضي سِراعاً، وقد أفِدنا من مدافع ضد الجو الملحَقة بإمرتنا في تدمير البعض من مواقع العدو الحصينة.
إقترابنا من القلعة
ومن دون الخوض في التفاصيل، فقد إقترَبَت السرايا الثلاث نحو العدو المُحاصِر لـ”القلعة” طوال الظهيرة بإندفاعات شجاعة تُسنِدهم الهاونات والرشاشات… ورغم النيران الهائلة التي صبّها اليهود على رؤوسهم وقتما شنّوا هجوماً مقابلاً فورياً، فقد أرغموهم على التراجع مهزومين وتاركين عدداً من قتلاهم وأسلحتهم… ولربما للمرة الأولى منذ إندلاع الحرب.
وصول الفوج/2 من اللواء/4
عصراً كان جحفل الفوج/2- اللواء الجبلي/4 بقيادة “المقدم يونس شليمون” -والذي وصل “الأردن” لتوّه وحُرِّكَ من دون إستراحة إلى قاطعنا- وقد تسلّق إلى مرصدي عارضاً إستعداده لتتخلّل سراياه عبر سرايا فوجي لإستكمال فك الحصار… ولكني -بعد أن شكرتُه- رجوتُه أن يدفع إحدى سراياه إلى “خانق جنين” لتستُرَ جناحيَ الأيمن وأخرى بإتجاه هضاب “بَرقين” لتحمي جناحي الأيسر، وبذلك يُريح بالي المُنشغِل لأتفرغ لإستكمال ما حقَّقَه فوجي.
وفي تلك الساعة هاتَفَني آمر جحفل اللواء/4 “العقيد الركن صالح زكي توفيق” -باللاسكي- طالباً حضوري بـ”المقر الخلفي” لأُطلِعَه على الموقف، فأجبتُه -باللغة الكردية- ما ملخّصه:-
((أنا الآن -يا سيدي- أقود معركة بكل فوجي، فلا أترك قيادته أمام أنظار جنودي كي ألتقيكَ، فإذا رغبتَ فتكرّم بالحضور إلى مرصدي لتشاهد تفاصيل مجريات الأمور، فـ”الآمرون بالأمام” في كل صفحات القتال عدا الإنسحاب… وإذا لم ترغب فإبعث أحد ضباط الركن لينقل لك الموقف)).
القرار على صولة في جنح الظلام
إحتفَظَت سرايايَ الثلاث على ما إستحصلوه بإتجاه “قلعة جنين”.. ولكن شدة المقاومة اليهودية، وكون الساحة مفتوحة بواقع مئات الأمتار، والتي على السرية الأمامية قطعها تحت رصد العدو ونيرانه المباشرة مع إحتمالات تحمّل تضحيات وخسائر كبيرة جعلتني أرى الأوجَب في تأجيل الصولة الأخيرة شريطة تنفيذها بهجمة ليلية سبق وأن تدرّبنا عليها وأتقَنّاه ولو بشكل نَظَري.
فبعد الضياء الأخير لمساء (3/حزيران) زرتُ “الرئيس أول (الرائد) عثمان عبدالله” -آمر السرية/3 الأكثر تقدّماً- وأبلغته لأكون إلى جانبه عند الصولة بالساعة الثالثة فجر (4/حزيران)… وبعد زيارتي للسرية/2 -بقيادة “الرئيس أول (الرائد) حسين أمين”- قبالة “بَرقين” لأطمئن على رصانة موقفه قبل إبلاغه بموعد الصولة، فقد إتفقنا على إستثمار المباغتة -التي يُفتَرَض تحقيقُها- بشن هجوم ليلي يترافَق مع الصولة المُزمَعة ليستعيد بلدة “بَرقين”… ثم توجهتُ نحو مواضع الهاونات والرشاشات “فيكرس” الـمُتَمَوضِعات خلف السرية/2 وأيقنتُ مدى إستحضاراتهم.
صولة الفجر
قُبَيلَ الساعة الثالثة فجراً وقفتُ إلى جانب “الرائد عثمان” في مقدمة الجميع وقتما صبَّت هاوناتنا -مع ساعة الصفر- عشرات القنابر تصاحبها الـ”فيكرس” بالآف الإطلاقات على رؤوس الأعداء، فأسرعنا نحو المحاصِرين للقلعة الذين -ربما- لم يَدُر ببال أحدهم أن يتلقّوا هذا الكم الهائل من النيران التي إستثمرناها للتقرّب نحوهم بالإفادة من ستر الظلام قُبَيلَ إندفاعنا العنيف نحوهم بصيحات ((اللــــه أكبر…. اللـــــه أكبر)).
إنقضت ساعتَان بين صراخ المَرعوبين وصياح المُستنجِدين وهروب المَصدومين ونُواح الجرحى والمُصابين وتراجع الخائفين وعويل النساء المجَنَّدات وتوجيهات القادة وأوامِر الآمِرين، حتى حلّت الساعة السادسة من صبيحة (4/حزيران) لأجد باب “قلعة جنين” مفتوحاً و”المقدم الركن نوح الجَلَبي” يحتضنني بين ذراعَيه قبل الآخرين وسط الإستبشار (((اللــــه أكبر…. اللـــه أكبر))) في ذلك الموقع الذي إضطر قبول الحصار فيه، حيث لم نَدَع أن يَطال أكثر من (30) ساعة، في حين بشَّرَني “الرائد حسين أمين” وقوفَه على رأس سريته بين منازل “بَرقين”، وقتما إنشغل جنودنا بلملمة ما تركه الأعداء من هاونات ثقيلة ومتوسطة وخفيفة ورشاشات وبنادق وغَدّارات مُهانة وألغاماً متنوعة وخُوَذاً فولاذية وألوفاً من مختلف الأعتدة… ولكن اليهود لم يكتفوا بهزيمتهم من القلعة بل أخلوا بلدة “جنين” بأكملها.
مبعوث “الوصي”
لم أكن على دراية بمدى إهتمام قادة العراق لِـما حصل في “جنين” حتى حلّ ظهر ذلك اليوم (4/حزيران) ليُفاجئنا “اللواء عبدالوهاب عبداللطيف” بحضوره وسط تلك القلعة -مبعوثاً شخصياً من الوصي على عرش العراق “الأمير عبدالإله بن علي”- للإطمئنان على ما حصل، وإبلاغنا تهنئة سموّه على هذا النصر الناجز ودفعنا نحو المزيد.
وبُعَيدَ عودته زارنا “العقيد الركن غازي محمد فاضل الداغستاني” -ضابط الركن الأقدم للقيادة العراقية- يصاحبه “العقيد الركن صالح زكي توفيق” -آمر جحفل اللواء الجبلي/4- وتقرر:-
تسليم مسؤولية “قلعة جنين” لإحدى سرايا الفوج/2- اللواء الجبلي/4 بقيادة “الرئيس أول (الرائد) حسيب علي توفيق”.
إعادة “المقدم نوح” لفوجه الآلي مساءً إلى منطقة آمنة للإسراع في إعادة تنظيمه.
تجميع فوجي خارج القلعة وجعله إحتياطاً بمثابة قوة ضاربة لأي طارئ.
الوصي “عبدالإله” بيننا
ويبدو أن سموّ “الأمير عبدالإله” لم يَرضَ لذاته أن يُتابع مُجرَيات الأمور من “بغداد” ولم يَكتَفِ بمبعوثه الشخصي، بل طار إلى “عمان” صباح اليوم التالي ليطّلع على الموقف العام لدى “الفريق نورالدين محمود”.
ووقتما علمتُ بذلك -ظهيرة (5/حزيران)- أمرتٌ أحد ضباطي بالإسراع إليه ودعوته لزيارتنا… وفي حين لم أكن أتوقع تلبيةً فقد وجدتُ سمو “الأمير” بقيافته العسكرية يرافقه “العقيد صالح زكي”، لنتسلّق سويّةً إلى المرصد -الذي قدتُ المعركة منه- ليرى “قلعة جنين” ومدينتها الجميلة وقد حرّرناهما.
ما بعد “جنين”
أنا:- أسفاً على “الوصي” الذي تمتّع بكل هذه الروحيّة قبل أن يلقى ذلك المصير الهَمَجي صبيحة (14/تموز/1958).
عمر باشا:- أسفاً واحداً فقط!!! بل مليون أسف… فقد كان أشجع الزعماء العرب في قراراته وأعظمهم جرأة في خطواته وأكثرهم إندفاعاً في إجراءاته وأحرصهم على “فلسطين” وإحتمالات ضياعه.
وفي حين لا أزعم كونه متكاملاً ولم يخطأ، فهذا ديدن الإنسان منذ أول الخليقة، ولكن (قـند……….ـــه) ستظل أشرف من كل الرؤوس التي تَسَلَّطَ أصحابها على “العراق” ودَمَّروه منذ إنقلاب (14/تموز) المشؤوم ولغاية يومنا هذا، بل وأشرف وأشرف وأشرف من جميع الذين سيخلفون ناكثي الوعود في قادم الزمان.
أنـا:- صادق يا عمي الباشا… ولكن هل لكم أن تنوّروني عن تطورات الأمور ما بعد “معركة جنين”.
عمر باشا:- هناك مثل يردّده العراقيون وقتما يتوقعون الأنكى من المعضلات والمآسي وتردّي الأوضاع، ويقولون:-((هاي وراها حَصبة وجِدري))، وهذا ما ينطبق تماماً على ما حصل بعد هذه المعركة، وقد يتطلّب سردُها لُمجَلَّدات لا قِبَلَ لي بها سوى بشكل مُجمَل في قادم الأيام، وأفضّل أن يكون بعد عيد الفطر المبارك -بعونه تعالى- كوني أتفرّغ في الأيام العشرة الأواخر من رمضان المبارك للإطالة في التراويح وأداء صلوات التَهَجُّد والنوافل حتى الإمساك.
أنـا:- رغباتك أوامر يا عم عمر، والله -سبحانه- يتقبّل طاعاتك ويسترك من كل مكروه… وآسفٌ على الإطالة معك لحد الإزعاج.
عمر باشا:- أبداً لا إطالة ولا إزعاج فهذا بيتك وأنا بمثابة عمّك… بل أهنّئك على تشبّثك بهذه الأمور وأستأنس بذلك وأشجّعك وأنت ما زلتَ بهذه الرتبة الصغيرة وفجر حياتك العسكرية، لذا أتوقّع -بعد قراءتي لما لَخَّصتَه عن حديثي السابق- أن يكون لك مستقبل مُشرِق -إن شاء الله- في الكتابة عن تأريخ العراق المعاصر وأحداثه

أحدث المقالات

أحدث المقالات