الخطوات الأمنية والسياسية المتلاحقة فى العراق، تؤكد أن هناك إرادة جماعية لانتزاعه من قبضة إيران، التى نجحت فى
غضون 14 عاما فى السيطرة على مفاصل كثيرة، مكنتها من ارتهان جانب كبير من توجهات وقرارات العراق لرغباتها ومصالحها.
خلال الأيام الماضية نشطت أدوات متعددة، داخلية وخارجية، فى محاولة لإعادة ترتيب الأمور بما يعيد الاعتبار إلى الدولة العراقية، واحترام جميع الأطياف السياسية والمذهبية، والحد من النفوذ المترامى لتنظيم داعش فى الموصل، وتقليص الهيمنة الإيرانية، وعدم تسخير مقدرات البلد لخدمة أغراض طهران الإقليمية.
الحملة العسكرية لاقتلاع تنظيم داعش وفلوله من منطقة الموصل وغيرها، لم يكن ممكنا قبل توافر رغبة إقليمية ودولية داعمة، لأن عناصر الأزمة متشابكة ومعقدة، وتلعب فيها بعض الأطراف أدوارا متفاوتة ومؤثرة، ودون تعاون وتفاهم كافيين سيكون من الصعوبة تنظيف غرب العراق من الإرهابيين وتجفيف منابعهم.
كما أن هذه الخطوة جاءت عقب توافق، بين قوى فاعلة على الساحة السورية، تواجه تحديات عصيبة لاقتلاع المتطرفين من الأراضى المجاورة، التى وجدوا فيها ملاذات آمنة، برضاء ومباركة من الحكام، أو بسبب الاستفادة من الحدود المفتوحة على مصراعيها، والتى تبدو السيطرة عليها عملية غاية فى الصعوبة.
ولأن تركيا أصبحت مضطرة إلى سد كثير من الثغرات الأمنية، على وقع مجموعة كبيرة من التطورات، والنظام السورى يسارع الخطوات فى إحكام قبضته على الأراضى التى تم تحريرها، كان من الضرورى إغلاق البوابة العراقية، التى تحولت إلى رئة يتنفس منها الإرهابيون، واتخذوها قبلة لخلافتهم المزعومة.
عملية تنظيف الموصل ومحيطها من داعش، من التطورات المهمة لتحجيم إيران التى أجادت توظيف هذا التنظيم، ولعبت على التناقضات الخارجية، وتمكنت من فرض هيمنتها على كثير من مفاتيح الحل والعقد فى العراق، لذلك كانت الخطوة الأولى لتقليم أظافر طهران نزع هذه الورقة من بين يديها، والتى ساعدتها فى التغول والانتشار على طول العراق وعرضه، بالتالى فالتكاتف الذى حظيت به عملية التخلص من داعش، غير منفصل عما يحدث فى سوريا، وليس ببعيد عن التصورات القادمة للمنطقة، التى تجمع جهات كثيرة على أهمية خلع الأنياب السامة لإيران منها.
العملية القيصرية التى تتم فى العراق وتتأذى منها طهران، تسير على وتيرة متناغمة مع ما يجرى فى سوريا وغيرها، لأن الأعين أصبحت مصوبة على كل من لبنان، أملا فى إنهاء أسطورة حزب الله، ووضع حد لتمدد إيران من خلال نافذة الحوثيين فى اليمن.
ومع أن عملية إخلاء ذيول إيران من العراق، ربما تستغرق وقتا طويلا، غير أن الشروع فى تدشين هذه الخطة، سوف يكون المدخل المناسب، لاستكمال حلقات خنق الدور الإقليمى لطهران، والذى بات مزعجا لدول كثيرة، تسعى إلى ترتيب أوراقها على قاعدة العداء لإيران.
الجزء الأمنى فى هذه المعادلة واضح، لكن لا يخلو من مسارات خفية، لأن طهران لديها من القوة ما يجعلها ترفض الجلوس مستسلمة لما يحاك، وتملك من الأدوات ما يمكنها من إرباك بعض الإجراءات، وبالتالى فتكثيف المهام الأمنية حاليا له علاقة بزيادة الضربات المتجهة نحو طهران، على أمل إزعاج التحركات التى يمكن أن تقدم عليها مستقبلا، ومشاركة عناصر عراقية فى العملية على صلة وثيقة بمحاولات شل المفاتيح الرئيسية التى تملكها إيران، والاستفادة من حالة التململ منها، التى أصبحت قاسما مشتركا بين عدد من القوى العراقية.
فى هذا السياق، يمكن فهم الاستدارة السعودية، والتى عكستها زيارة عادل الجبير وزير الخارجية لبغداد، واستقبال وفد عراقى أخيرا فى الرياض، وهى واحدة من العلامات الكاشفة لسحب البساط من تحت أقدام إيران، ورغم الصعوبة التى تواجه هذا الطريق، لكن الشروع فيه لم يكن ليتم دون تلقى إشارات إيجابية متبادلة.
على الساحة الداخلية، تبدو القيادة الحالية مستعدة لإعادة النظر فى تخندقها الطويل داخل محور إيران، والاستعداد للانفتاح على خصوم سابقين، بعد أن وجدت العراق يخسر تدريجيا نتيجة التصاقه الشديد بطهران.
وعلى الساحة الخارجية، جرت مياه كثيرة تصب فى مجرى وضع حد للهيمنة الإيرانية فى العراق أولا، والتى يؤدى التوسع فيها إلى الإضرار بمصالح بعض القوى الدولية، وأبرزها الولايات المتحدة، التى أعلت من شأن سياسة العصا والجزرة، حتى تتمكن من إدخال طهران الحظيرة السياسية التى تريدها، وتضمن عدم الخروج بعيدا عن بيت الطاعة الأمريكي.
المثير أن الرياض بدأت تتحرك بسرعة لتعديل الدفة فى العراق، وضبط بعض الأمور، بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، وفتحت قنوات كانت مغلقة لفترة طويلة، كما أن تركيا أخذت على عاتقها مهمة تجميع القوى السنية، وعقدت لعدد من رموزها اجتماعا نادرا الأسبوع الماضي، ترك انطباعات تشى بأن هناك مرحلة جديدة بدأت فى العراق، لتدارك سلسلة من الأخطاء، قادت إلى نتيجة لم تعد مرضية لكثيرين. نتيجة وضعت العراق فى سلة إيران.
تغيير الملامح التى استقر عليها شكل العراق أخيرا، لن يتم بين يوم وليلة، ويحتاج إلى جهود عدة، لأن العملية الجراحية الصعبة التى تجرى الآن، مرجح أن تؤدى إلى مضاعفات جانبية، تمثل خطرا يفوق المرض الأصلي، ما يتطلب المشى فوق خطوط متوازية، تراعى طبيعة البيئة والعناصر المؤثرة، وتأخذ فى الحسبان أن استئصال الورم الإيرانى بحاجة إلى خطة محكمة، تبعد العراق عن الاقتتال الأهلي.
اللافت للانتباه أن التحرك المصرى نحو العراق بات منصبا على الجانب الاقتصادي، ولم نر تحركا مقابلا على الناحية السياسية، فى حين هناك دول إقليمية تتلاحق خطواتها ليكون لها موطىء قدم ظاهر على الساحة العراقية، ولا تخشى الحساسيات التقليدية، وتخوض معركة كسر العظم الراهنة بلا مواربة، وربما تكون المعركة الجارية واحدة من المقدمات الدالة على توازنات القوى فى المرحلة المقبلة، وإذا كانت مصر عازمة على أن يكون لها مكان إقليمى مؤثر فعليها أن تكون قريبة من المعركة الجديدة لتحرير العراق.
نقلا ع الاهرام