18 ديسمبر، 2024 11:53 م

معركة الفلوجة ..قراءة في ما لا يقال

معركة الفلوجة ..قراءة في ما لا يقال

شهد تاريخ الاديان الذي هو تاريخ الانسانية معارك وصراعات داخلية وخارجية انتهت إلى أنقسام الأديان إلى طوائف وفرق ومذاهب ومدارس وأتجاهات.
هناك نوعان من الصراعات والخلافات ،الأول مدرسي ،والثاني سياسي ،ومحل الأول الأديرة والمعابد والكنائس والمساجد والجوامع والمدارس ،ورجاله المفكرون والعلماء والتلاميذ النابهين والطلبة المشككين والمشاكسين ،ومادته خلاف التنزيل والتأويل والرؤية والأنطباق على الواقع ومديات النص ومحتواه ،وأما الثاني وهو الأخطر ،فرجاله الساسة وصانعي المكائد والحيل وداهقنة البلاطات ومؤججي الفتن والخلافات ،وساحته الغرف الظلماء من القصور وأقبية السجون وشرفات القصور وأطراف المدن وحافات المياه ،ومواده أحقية السلطة والسلطان وشيطنة الأضداد وأبلسة الخصوم ودعاوى مواجهة الزيغ والإنحراف ،وأخطر ما في هذا الصراع أعادة تسويقه “بعد عملية غسيل ذكية” على أنه صراع مدرسي بحيث يتم صياغته في قوالب تناسب الخلافات المدرسية وإلقاه إلى حفنة من الجهال والمتعصبين ليعيدوا أنتاجه بوصفه خلافا مدرسيا محضا ويتم “عن عمد” تغييب جذوره السياسية.
السياق الطبيعي لمعركة الفلوجة حسب ما تقتضيه سيرة الدول والأنظمة : أن هناك مدينة عراقية تتعرض إلى عدوان “خليط داخلي وخارجي” تمثل في جماعات أرهابية شكلت العدو الأساس والتهديد الأكبر للدولة العراقية ونظامها الجديد ،لذا ينبغي على “الحكومة” وبالأخص رئيسها “بوصفه القائد العام للقوات المسلحة بحسب الدستور ” أن يوعز لجميع قواه “الصلبة والناعمة ” للتخطيط والتدبير والتنفيذ لمعركة تحرر المدينة من الأعداء وتخلق الأمن والسلام لأهلها وجيرانه ،وتكفل سلامة الأمن المحلي والخارجي للدولة بأزالة تلك الأخطار ،وأن هذه المعركة هي شأن يخص العسكر وقادته ،ويتاح للقائد الأعلى أن يحشد كل الأمكانات المتوفرة لديه
والخاضعة للدولة “قوى رسمية وشعبية ” من أجل أنجاز المعركة ،وأنه بشكل طبيعي مسؤول “قانونا وأخلاقا” أن تدار تلك المعركة بأكبر قدر ممكن من النظافة وسلامة الأجراءات وأن تكون سلامة المدنيين مقدمة على كل المهام ،وأن تتحرك جميع “عناصر المعركة” بشكل متناسق من أجل أحراز النصر بعيدا عن أي أهداف شخصية أو جهوية لأي طرف فيها من المنخرطين في “التفكير أو التدبير أو التنفيذ”.
لكن الذي حصل في هذه المعركة المهمة في “نتائجها ومخرجاتها وملابساتها وكيفية أنجازها ” ،والذي يتكفل هذا المقال أبرازه في منطقة “ما لا يقال” ،هو شيء مختلف عما تحدثنا عنه في توصيف للصورة الطبيعية.
بشكل موجز كان المشهد السياسي العراقي قبل الشروع بمعركة الفلوجة يمر بأحلك مراحله وساعاته ،فلأول مرة في تاريخ التجربة العراقية الجديدة يحدث أمران في غاية الأهمية ،الأول أعتصام تطور إلى أنشقاق داخل البرلمان ،قاسما أعضائه إلى فريقين رئيسين ،يتشكل كل منهما من خليط من الأعضاء ،ووصل ذلك الشقاق إلى حد التقاذف “المادي” والصراع “الجسدي” داخل قبة البرلمان وأفرز ما سمي بكتلة المعترضين أو المصلحين أو المنشقين التي مضت بطريقها لأسقاط هيئة الرئاسة والشروع بنهج جديد ،والثاني وهو الأهم تطور التظاهرات الى مرحلة كسرت فيها حواجز المنع ودخلت مرتين إلى داخل المنطقة الخضراء الأولى بالدرجة الأساس إلى مجلس النواب والثانية قصدت مقر رئيس الوزراء وأسفر عن تلك المحاولات مشكلات وتداعيات كان الأبرز فيها سقوط ضحايا برصاص حي ما زال المشهد حوله ملتبسا.
هذان الحدثان كانا يضغطان بقوة من أجل استبدال المشهد السياسي القائم وعلى رئسه أزالة السيد العبادي وكابينته أو على الأقل كابينته وإزالة الجبوري وهيئته والحديث عن مشهد جديد يختلف عن تأسيسات ما سبق.
جاءت ” معركة الفلوجة ” بوصفها ” ضرورة أمنية وأستراتيجية ” في أطار أستحقاقات السوق والتعبة وفي حسابات بناء الأمن المستقر بحسب ما تم الأعلان عنه إلا أنها أخفت في طياتها شؤون أخرى هي الأهم في حديثنا
،فقد مثلت متنفسا أمتص حدة الصراع في بغداد ووجهها إلى منطقة لا يجرأ أحد أن يختلف عليها ،وألزم جميع أطراف الخلاف أن يصمتوا لأنه ” لاصوت فوق صوت المعركة ” ،كما أنها وفرت فرصة تاريخية لتعاون “حكومي/شيعي وسني/حكومي وشعبي” في ملف حساس مثل ملف الفلوجة.
رئيس الوزراء العبادي يجد في أنجاز معركة الفلوجة بنصر أبيض فرصة مهمة واستراتيجية أولا للأندفاع في السيطرة التدريجية على ملف الأمن المنفلت “وهو أهم طموحات العراقيين” ومنع تدفق الأرهاب إلى بغداد والمحافظات الذي يعني حياة مستقرة نسبيا وأنتعاش للسوق يتبعه حتما جزما رضا شعبي وتأييد طيب ،وفي عين الوقت ،يستثمر فيها موقف أطراف سنية مهمة بقيادة سليم الجبوري وبعض صقور السنة والذين يرغبون في بائهم في مشهدة قيادة البرلمان والترسيمة الحالية للنظام السياسي والمهددون بالتغيير والأزالة من إندفاعين “برلماني وشعبي” ولذلك من الصالح لهم أن تمضي الفلوجة بأنتصاراتها وأنجازاتها وتمتد إلى مناطق أخرى الأمر الذي يضمن أستمرار شعار “لاصوت فوق صوت المعركة”.
طبعا لا يضع هؤلاء السنة بيضهم كله في سلة حملة العبادي والوضع القائم ،فلا يريدون فقدان أدوات ضغط مهمة لطالما تدرعوا بها وأستثمروها ،وكذلك لأنهم يعرفون أن الأنتخابات قادمة عن قريب ،لذلك لا بد وأن يكسروا هذا التأييد بكلمة “ولكن ” التي يعزفون في ما بعدها على تعرض المدنيين للأنتهاكات وأن البعض يخوضون الحرب بدوافع مذهبية وطائفية ومظلومية أهل الفلوجة وضرورة منع الحشد الشعبي من الدخول إلى المدينة وقاسم سليماني على أطراف الفلوجة وغيرها من المقولات ،والتي تغازل أهلهم في الفلوجة وفي عموم المنطقة السنية ،كما أنها ترسل رسائل مرضية للأعزاء في السعودية والخليج وتركيا والولايات المتحدة وأطراف أخرى ،وتترك مجالا لللوم والعتب بل والضغط في غرف المفاوضات في جلسات توزيع الحصص والأسهم.
يوجد في هذه المعركة خاسرون لا يروق لهم أن تسير وتيرتها كما ينبغي ،فطرف من ساسة السنة غير المستفييدن من المشهد السياسي القائم لا يروق لهم أن تهدأ النقمة على الجبوري وفريقه ،كما أن البعض الذين ينطبق عليهم ” لاحظت برجيلها ولا خذت سيد علي” لا يريدون أن تتكون أنطاعات إيجابية لدى الجمهور السني من عمليات التحرير وتبعاتها.
السعودية والخليج لا تريد لملف داعش أن ينتهي من العراق في هذه الفترة فنهايته في العراق يعني فقدان أهم أدوات الضعط لهم في المشهد العراقي ،كما يعني بدرجة ثانية نجاح حكومة الشيعة ،والذي يؤدي بالتبع إلى أنزياح هؤلاء المتطرفين إلى مناطق أخرى ويمكن أن تصل الأرتدادات إلى مناطقهم ،كما أن هزيمة داعش في العراق تعني أمكانية هزيمته في سورية والتي تعني خسارة فادحة للثقل الخليجي وخصوصا السعودي الذي تصدر لمعركة أسقاط “آل الأسد” ونظامهم ،وهي خسارة تعني تسيد الأيرانيين والروس على مشهدة التسويات في الشرق الأوسط.
الأمريكان لم تروق لهم معركة الفلوجة رغم تشدقهم بمناصرة ما يجري على الأرض ،فأنجاز المعركة “عراقيا” وخصوصا “بجيش وحشد” يعني صفعة في المقاييس العسكرية لأكبر جيش في العالم كانت وما زالت الفلوجة جرحا في جسده ،وأن ذلك الأنجاز يكذب النبواءات المتواترة لهم أنها معركة صعبة وطويلة الأمد ولن يستطيع العراقيون حسمها بأنفسهم ،ولذلك لا بد من خلق تعويقات تقف في طريق هذا الأنجاز ،فمرة لا نوفر غطاء جويا للحشد ،ومرة يتباكون على السنة في الفلوجة ،وأخرى يحذرون من الأستعجال في الخطوات ،كما لا ينبغي نسيان ما يوفره وجود داعش على الأرض العراقية من فرصة سنية وسانحة للتدخل الأمريكي بل للتواجد العسكري والذي يعني لهم الكثير.
الأيرانيون لم يرغبوا أن تمر الفلوجة بدون أن تكون بصمتهم ظاهرة وواضحة “على عناد أمريكا والسعودية وكل الخليج” طبعا بحسب الهمس الأيراني ،فكان الظهور الحسي للسيد سيلماني صورة تغني عن كل تعليق.
“الفلوجة” وما أدراك ما الفلوجة ،فهي ليست مجرد معركة بل هي حدث يمكن أن يعيد ترتيب قطع الشطرنج بشكل مختلف وفي ظل سياقات وتوازنات جديدة ،ولكن الأهم في كل هذا السؤال : هل سيكون ما بعد الفلوجة أكثر كثيرا وأمنا وسرورا للعراقيين ؟ وهل ستؤسس الفلوجة لمرحلة جديدة من عراق معافى مستقر الأمن مبسوط السيادة على كامل أرضه وشعبه ينعم بسلم أهلي ولو نسبيا؟؟؟