18 ديسمبر، 2024 6:29 م

تقوم تجربة الفنانة هند ناصر على التجريب والإحساس وتطويرهما إلى حيثُ تغذّي لوحتُها العينَ، مارّةً عبرَها إلى روحٍ ظمأى للتحرُّر من القواعد بل والخروجِ عليها. فعبرَ ما يقرب من أربعين عاماً، كان بإمكان هند أن تلتحقَ بالأكاديميا وتنهل منها، ولكن لن يكون، لأنّ الفنانة الأستاذة فخر النساء التي تتلمذت الفنانة هند عليها، سيكون لها رأيٌ آخر في البدءِ بالإحساسِ باللون والتجريد، قبل صوغ الكلام المنمَّق المنضبط. وهو رهانٌ جَسور قام على بُعدِ نظر الأستاذة، وعلى جَدّيّةِ التلميذات في الانتقال من العبثِ باللونِ لخلق مساحةٍ بصريّة، إلى علاقاتٍ بين الألوان والخطوط وضبط الإيقاع الخارجي بما يتواءَم والإيقاع الداخليّ. وهذه التجربة الغنيّة التي ثبتَّت أقدامها في عالم الفنون التشكيليّة في الأردن وفي العالم، أثبتت أنَّ لممارسة الفن مداخلَ متعدّدة، ليست الخبرة الأكاديمية سوى إحداها، وهو ملحَظٌ له علاقةٌ بمراجعة “المدرسة” بمفهومها التقليدي، سواء في مستواها البيداغوجي التعليميّ، أو المتّصل بتعلّم الفنون. فالفن بنواتجه وليس بطرائق تعلّمه أو ممارسته. وكم نبغ في العالم ممن لم يدخلوا مدرسةً ولا تتلمذوا على أحد، وهي بدهيّات، ما تزال تجد معارضين لها، مع أن الفنون الآن في متاحف الفن باتت تتقبَّلُ ما تسمّيه “الفن المعاصر” الذي كان خارج التقييم والقبول. وهو الفن الذي لم تتعهّدْه القوانين التي وضعها أساتذة الفن عبر العصور. إنه ذاك البرّيّ الذي نبت خارج مستنبتات الفن ومزارعه، وأثبت وجوده لديها.
من هذا البريّ كان فنّ هند ناصر. بريّ دجَّنتْهُ بصبرها عليه، وطول مراسِها، ودأبِها وشديدِ إخلاصِها، حتى أدخلَتْهُ المتاحف. وهي إذ تلوذُ بالذائقة لتعريف الفنّ، فلديها ضربةُ ريشةٍ هي المعتمَدُ في البناء التقني للَّوحة، فمن دون هذه الضربة القوية والواثقة والمعتدَّة لن يكون من السهلِ السيطرةِ على مساحة شاسعةٍ قد تصل مترين في مترين! فنحن أمام لوحات هند نشعر أننا أمام امرأةٍ واسعة القدرات، مسيطرةٍ على مقاديرها كلوحةٍ أسَّستْها ثم اشتغلت عليها برويّةِ من تدركُ ما ترى وما تريد. وبين مختلف المواد والألوان التي استعملتْها كنا نرى فنانةً تترقّى حتى بلغَتْ ما بلغتْه من حنكةٍ في التعامل مع اللوحة، وحساسيةٍ في إدارتها.
وعندما نبحثُ عن المرأة في أعمالها نجد أنَّ التجريدَ برمّته عندها ليس سوى مُلحقٍ بالطبيعة المَوجيّة المنحنية للمرأة. فليس في فنّ هند ناصر خطوط مستقيمة، هي في تعريفِ الفيزياء محضُ وَهمٍ. إنها تشتغل على الحركة التي تمور في النفس وفي الكون، ما يجعل الموسيقى تنطلق من اللوحة في اللحظة التي نحدِّقُ فيها. وليس بمكنتنا أن لا نمرّ بمجموعة النساء الملفَّعات بالليلكي، فهي master pieces ، حيثُ تتجلى فيهنّ الفرادة والمقدرة والعين الثاقبة والسيطرة. إنهن نتاجُ معايشةٍ عميقةٍ لمعنى المرأة في الوجود؛ معنىً عميقٍ وغامض كهؤلاء الملتفّات، بعيداتِ الغَوْرِ، الكائنات الوحيدات والمجتمعات. كما ليس بالإمكان المرور عن لوحاتها الأخيرة في النسائيات العرايا، ولا اسكتشات الوجوه المعبّرة وأشجار الطبيعة.. وكلُّها إثراءٌ لتجربتها الغنيّة، وتنويعاتٌ على فهمها العميق للكون وأنوثته.
معرضُ هند ناصر هذا علامةٌ فارقةٌ في تجربتها، وفي السياق التشكيليّ في الأردن.
نقلا عن الغد الاردنية