سألتني أمي الغالية رحمها الله تعالى ذات يوم ،وبعفوية متناهية وباللهجة البغدادية والعبرة تخنقها ، حين رأتني غارقا أكتب وسط أكوام من اﻷوراق المبعثرة والكتب المتناثرة وأقداح الشاي وفناجين القهوة هنا وهناك ،إذ لطالما إتخذت وﻻ أدري لماذا من الفوضوية طريقا للنظام ما أثار حزنها رأفة بي ( بس كلي تالي كتاباتك هذي وين ؟!) .
قبلت يدها ولم أجب على سؤالها إحتراما أولا وﻷنني فعلا لم أكن أمتلك الجواب ، أرتميت بأحضانها كطفل إذ ” ليس في العالم وِسَادَةٌ أنعم من حضن الأم” كما يقول شكسبير ، ومعذرة لتوفيق الحكيم الذي دفعه إحترامه ﻷمه ﻷن يردد ( أمي في قلبي وﻻيمكن أن أتحدث عنها ، إنها من مقدساتي ، فقد أكتب كلمة تغضبها وقد لاتعجبها ) أقول بل سأكتب عنها وأكتب وأضيف ومنذ ذلك الحين وأنا أسأل نفسي يوميا :
هل أنا العبد الفقير الى الله تعالى وقلمي نكتب للفقراء والمعدمين ليصبروا ؟ أم نكتب للموسرين واﻷغنياء لينفقوا ؟
نكتب للمظلومين لينتفضوا ، أم للظالمين ليرتدعوا ؟
نكتب للأبناء ليبروا ، أم للآباء واﻷمهات ليربوا ؟
نكتب للمشردين والنازحين ليتصابروا ، أم للمسؤولين لينصلحوا وللمتمكنين ليأووا ؟
نكتب للمرضى وللمعاقين ليستأنسوا أم للأطباء والممرضين ليخلصوا في رعايتهم ويبذلوا وسعهم ويهتموا ؟ نكتب للدعاة العاملين ، للمفكرين المصلحين ليسترشدوا ، أم للمغرر بهم فينتبهوا ؟
نكتب للمحكومين ليطيعوا ، أم للحاكمين ليعدلوا ؟
للمثقفين ليستبينوا ، أم للجاهلين ليتعلموا ؟
للصالحين ليزدادوا ، ام للفاسدين ليرعووا ؟
هل إن ما أكتبه مجرد رجع صدى وإنعكاس للأحداث المتسارعة و للواقع المأساوي الذي تعيشه اﻷمتان العربية والاسلامية تتسللان من اللاوعي ﻻ إراديا الى القلم والكف التي تحمله ليسطر ما يختلج في صدر حامله ؟ أم نكتب وطنية ، حرصا ، لتمضية الوقت ، ممارسة هواية ، طمعا بشهرة ، رغبة بمال ، رياء ، مراء ، نفاقا ، تزلفا ، تعصبا ، لواكة ، تأثرا بالقطيع أو كما يقول العوام ( على صوت الطبل ، خفن يارجليه ) أم أنني أكتب ﻷخلي مسؤوليتي أمام الباري عز وجل ، ومن ثم أمام أهلي وناسي فأرح ضميرا ليس بوسعه تحمل المزيد من الأعباء وﻷزيح عن كاهلي المزيد من اﻷثقال ؟
هل ما أكتبه له وقع في قلوب القراء ، أثر في نفوسهم ، بصمة في عقولهم ، ومضة في أذهانهم ، أم هي مجرد كلمات تخط على ورق سرعان ما يجف حبرها ويتلاشى أثرها ويذهب بريقها وكأن شيئا لم يدون قط ، وكأن فارسا لم يمتط صهوة قلمه ليشق غبار الكلمات في سبيل الحق ..ساعة ؟
لم أكتب مقالا إلا وأمي كانت تجلس الى جواري وكأنني أستلهم من سكوتها وتساؤلاتها الحائرة وشفقتها علي ورأفتها بي ما يتحول الى سطور تلو أخرى عن جملة مآس تخر لها الجبال هدا تعصف بأبناء جلدتي في العراق وفلسطين وسورية واليمن وليبيا ومصر وفي كل مكان من أرجاء العالمين العربي والاسلامي …أمي الغالية شكرا لكل شيء ،ومعذرة لك عن أي شيء ، شكرا لكل شيء حتى لصفعة بكفك المبارك صفعتني إياها حبا بي ﻻ بغضا لي ،كي ﻻ أزيغ عن طريق الحق وﻻ أحيد ، شكرا لك ومعذرة عن كل ما صدر عني وبدر مني من قلب وفؤاد مكلومين بفراقك ومن عينين مغرورقتين لن تكتحلا برؤياك ثانية وانا لفراقك لمحزونون وﻻنقول إلا مايرضي ربنا ..وأعدك بأنني سأجيب عن سؤالك الذي أرقك وحيرني طويلا ( بس كلي تالي كتاباتك هذي وين ؟ ) بقلم سيكتب لكل اﻷمهات ، اﻷحياء منهن واﻷموات ، وسينهال على الفاسقين والفاسدين والمنحرفين والفاجرين والضالين والظالمين الذين ثكلوهن بأبنائهن وبناتهن وأزواجهن وبأحبابهن وجعلوهن أشباحا ليس بإمكانهن خلع السواد طوال حياتهن في أرض السواد ، وسأقذف بهذا القلم المعطاء على من رسخ الحزن في قلوبكن وإمتهنكن حمما ولو كان كبيرهم الذي علمهم السحر .. فرعون !
وداعا أيتها الحبيبة الغالية “ولن أسميك إمرأة ، سأسميك كل شيء” كما قال محمود درويش ، والى عليين وكل أمهات المسلمين . اودعناكم اغاتي