23 ديسمبر، 2024 5:11 ص

معبد و كهنة و وثن …

معبد و كهنة و وثن …

وقف الكاهن الاعظم لمعبد الوطن أمام الجموع و خلفه جميع الكهنة بملابس العباد الزاهدين وقال بصوت مسموع .. ( أيها الناس .. ان الوطن يطلب منكم ان تهبوا ما لديكم من أجل اجتياز الأزمة .. عندها الوطن سيرضى عنكم و ستعم خيراته عليكم .. الوطن له فضل على الجميع .. لولا الوطن ما وجدنا اصلا .. لولا الوطن ما تنعمنا بالخير الوفير .. لولا الوطن لما كان لدينا كيان .. لولا الوطن لما كسبنا احترام الآخرين .. و الآن أيها السيدات و السادة الوطن يمر بأزمة .. يمر بضيق حان وقت ظهور محبي الوطن.. لنرى و يرى من منكم شكور و من منكم جاحد .. ) توقف الكاهن الأعظم برهة .. ربما ليرى وقع كلماته على الناس قبل أن يواصل كلامه بالجزء الأخطر .. ( لن تغادروا المعبد إلا و انتم تثبتون للوطن أيمانكم .. ضعوا ما تملكون تحت تصرف الوطن .. حتى لو كانت أرواحكم ) فانبرى أحد المندسين بين الناس ليهتف ( نموت .. نموت و يحيا الوطن ) فتبعه الناس مرددين بحرارة ذات الشعار مع هز الأيادي .. التفت الكاهن الأعظم إلى بقية الكهنة مبتسما وعيناه تشعان ببريق الفوز و النجاح كأنه يقول لهم ما معناه ( هكذا هو الخطاب مع الاتباع ) و فيما كان الناس مستمرون بالهتاف كان حطابا فقيرا يجر حماره العجوز المحمل بالحطب خلفه خارج المعبد .. نظر إلى المعبد إذ استرعاه أصوات الهتاف ولكنه لم يهتم لأن عليه بيع الحطب و شراء ما يحتاج و العودة للبيت .. استوقفه صوت ( لم لست في المعبد أيها الرجل ؟!! ) انتبه إلى الصوت الصادر وقال مرتبكا قبل أن يتبين القائل ( انا أسكن خارج المدينة و لا علم لي .. صدقني ولو علمت لحضرت ) كان رجلا في مقتبل العمر جالسا في ظل جدار بيت مواجها للمعبد واصل الرجل الجالس كلامه ( إلا تحب الوطن ..؟! يبدو عليك ذلك .. أثبت ولائك للوطن ) فقال الحطاب الفقير ( و كيف ذاك يا سيدي ) قال الرجل ( أرقص لي قليلا .. رفه عني ) تبين الحطاب الرجل الجالس فوجده رجلا عاديا من العامة .. مثله تماما أو أنه أفضل منه لأنه يعمل وذاك جالسا في الظل عاطل عن العمل .. هز الحطاب يده مستهزئا وقال ( ومن انت حتى أرقص لك و ارفه عنك ) نهض الرجل من مكانه و اتجه نحو الحطاب و قال ( انا من وجد الوطن من أجله .. وليس كما يدعي الكاهن الأعظم هذا اللص الأعظم ) فقال الحطاب مستنكرا ( هشششش .. لا يسمعك أحدا تقول ذلك ) فقال الرجل مبتسما وقد وقف بجوار الحطاب ( لقد قلتها و سمعوها بوضوح .. و أتفق كل الكهنة وهم اساسا مختلفون في اراءهم على اسكات فكرتي .. انا المواطن ولولا المواطن ما وجد الوطن .. إلا يفهم أحد ما أقول ) فقال الحطاب و قد هم بالابتعاد ( اسكت .. ) فقال الرجل ( نحن من نصنع الوطن .. ان رحلنا و هاجرنا سنخلق وطنا جديدا حيث نستقر ولكن بدوننا هل سيطلق احد على هذه الأرض وطن .؟! ) ابتعد الحطاب جارا حماره خلفه و استمر الرجل يقول ( اهرب .. اهرب كما فعل غيرك كثيرون .. انهم لم يهربوا من كلماتي لم يهربوا من فكرتي بل هربوا خوفا من الكهنة او طمعا برضاهم ) .. أخذ الحطاب يجر حماره وهو يقول ( لنبتعد .. هيا يا حماري ) ولكن ما هي إلا خطوات و أوقفه حارسان وقال أحدهم ( لقد صدرت تعليمات من كهنة المعبد أن يتبرع كل الناس بكل شيء من أجل الوطن ) فقال الحطاب ( انا لا أملك إلا هذا الحمار( فقال الحارس ( سنأخذ الحمار إذن ) فقال الحطاب باندهاش ( لا استطيع العمل بدونه ) فقال الرجل وهو يقترب ( جرب أن تكون حمار يوما و احمل الحطب ) فقال الحارس ( من الممكن أن نصادر الحطب ايضا من أجل الوطن ) في هذه الأثناء و من باب جانبي خرج موكب مهيب .. عربة فخمة تجرها خيول أصيلة و كوكبة من الحرس المدججين بالسلاح وعلى خيول أصيلة تواكب العربة فقال الرجل للحارس ( لم لا توقف صاحب الموكب و تصادر الخيول و العربة لمصلحة الوطن ) فقال الحارس مستنكرا ( ماذا تقول .. ؟! إنه أحد كهنة معبد الوطن .. ) فقال الرجل ( اليسوا هم أيضا أبناء الوطن ؟! أم أن الوطن في الشدة يدفعه الكهنة باتجاه الفقراء لأنهم يعرفون أنهم لا يملكون الرحيل و لا القدرة على الإيمان بشيء آخر .. اما في الغنائم و المكاسب فالوطن لهم .. وهم الوحيدون ابناءه البررة و عامة الشعب تحصيل حاصل ) فقال الحارس محاولا إنهاء الحوار ( اسمع .. خذ الحطاب و حماره وابتعدوا من هنا .. ) .. شعر الحطاب بالفرج سحب حماره مبتعدا فيما قال الرجل مخاطبا الحرس ( أن سماحكم للحطاب بالرحيل دليل على أيمانكم بما اقول ) التفت أحد الحرس وقال ( نعم .. نعم نحن نفهم و نصدق ما تقول و لكننا لا نملك ما نقارع به الكهنة و مؤسسة المعبد هم استولوا على كل المقدرات لا نملك سوى أطاعه الأوامر ) فقال الرجل ( كالعبيد .. !! ) واصل الحارس كلامه ( نعم كالعبيد .. عبد يجد ما يقتات به و سقف يأويه خير من ثائر يلتحف السماء و ينام مع الكلاب الضالة في العراء ) .. ابتعد الحارس .. فتبع الرجل اثر الحطاب و الحمار ليلحق بهما .. وحين صار على مقربة قال الحطاب مبتدرا الرجل ( لماذا تكره الوطن ؟! ) ابتسم الرجل بحزن وقال ( انا أكره الكهنة .. انا أكره المعبد .. ولكني لا أكره الوطن .. والفرق شاسع بينهم .. انا احب الوطن كبيت أجد فيه الأمان و الكرامة .. لا احبه ك(أله) يقام بأسمه معبد فقط لتستقبل فيه الأضاحي و القرابين لتسرق بعدها من قبل الكهنة .. انا احب الوطن الذي اشعر فيه أنني انسان حر .. لا أحبه ك(رب ) تجبى بأسمه الخراج من الفقراء ويدفع بهم إلى المعارك و الحروب لينعم الكهنة و عوائلهم بالأمان .. الكهنة اوجدوا ربا للعبادة ليسرقوا دون حساب أو رقيب .. ربا يمس شغاف قلب المؤمنين به و محبيه .. أسألك بما تحب و تؤمن .. لو سلبوا حمارك باسم الوطن .. فيما هم مازالوا يكنزون الأموال التي لا يعرفون ما يفعلون بها سوى الكنز في الأقبية و الصناديق .. إلا تشتم و تسب .. ( أشار الحطاب برأسه أن نعم ) عندها ستحاكم .. و يحكم عليك القاضي بالسجن لأنك شتمت الوطن و الكهنة و سببتهم .. أسأل سؤالا لأجد إلا طرحه لماذا لا يلتفت القاضي إلى سبب الشتم و السب .. لن يفعل لأن الأمر يمس الكهنة .. و الكهنة لا تمس في العرف الذي اوجدوه باسم الوطن .. الكهنة الذين كانوا إلى وقت قريب مضى مختلفين إلى الحد الذي اوجدوا لأنفسهم اوطانا داخل الوطن و جزأوه استنادا لإجندتهم الخاصة .. هم أنفسهم اقتضت مصالحهم و تبادل الأدوار في اللصوصية و السرقة أن يتحدوا في انشاء المعبد ليزيدوا من معاناة المستضعفين و الفقراء و الجياع و اسكات الاصوات التي تنادي بالعدالة و الكرامة .. اتحدوا لمحاربة أشخاص لا يريدون سوى الإحساس بإنسانيتهم في الوطن .. الوطن الذي أفرغه الكهنة من كل شيء .. من يسمع كلامي .. المتعلمون المثقفون .. عملوا معاولهم في المدارس و التعليم ليعيش الناس في جهلا حتى لا يمكنهم من فهم كلامي .. من يسمع كلامي .. الأقوياء الأصحاء .. فعملت معاول التهديم في المستشفيات و الصحة .. حتى تنتشر الأمراض و تستوطن و يحتار في أمر شفاءها المواطنين .. من يسمع كلامي .. متوسطو الحال .. ها هم سيطروا على مقدرات الوطن و ثرواته ليكون الناس في فقر أو أحتياج دائم لهم .. لقد ترك الكهنة الشعب في جهل و مرض و فقر من أجل مصالحهم كل ذلك باسم الوطن ) توقف الرجل .. إنها أطراف المدينة حيث ينتمي فيما واصل الحطاب المسير و ما هي إلا خطوات انتبه إلى توقف الرجل .. توقف الحطاب و التفت إلى الرجل و قال ( أحيانا أسأل نفسي ما هو مستقبل أطفالي و انا بالكاد أستطيع أن أوفر ثمن الطعام اليومي لهم احيانا اشعر بأن علي فعل شيء ما ولكن حين التفت حولي أقنع نفسي بأنني أفضل من غيري .. ) الرجل ( لا أحد أفضل من الكهنة هنا .. بتلك الفكرة السخيفة سيطر الكهنة علينا .. عن أي أفضلية تتكلم ؟!) قفل الحطاب راجعا إلى حيث الرجل وهو مطأطأ الرأس ( ماذا تريد أن نفعل انا اعرف و أعيش ما تقول ولكن ماذا نفعل .. ان في الثورة على الكهنة خطر على الوطن) فأنفجر الرجل غاضبا ( و لا خطر على المواطنين في استمرار عيشهم بجهل وتخلف .. بمرض و سقم .. بفقر و عوز .. لا خطر على المواطنين حين لا يرون إلا ظلمة حالكة في مستقبلهم .. عن أي خطر تتكلم .. الخطر على الكهنة اللصوص .. سراق الاحلام و آمال البسطاء ..كان الأجدى أن لا يقولوا نموت .. نموت و يحيا الوطن .. كان عليهم أن يقولوا نموت .. نموت و يحيا الكهنة ) قال الحطاب ناصحا ( لم لا تغادر و تنشئ لنفسك وطنا حيث تستقر واترك هنا انا أخشى عليك من الكهنة وأكثر منهم أتباعهم و المزايدين عليهم ) فقال الرجل وهو ينظر إلى السماء و كان حيلة الجواب على هذا السؤال اعيته ( انا احب أرضي .. أحب الوطن .. كم أتمنى أن ادفن حيث آبائي و أجدادي حيث ترعرعت واشتد عودي .. هل تعتقد أن الأمر سهل .. لا .. لا ) فقال الحطاب محذرا ( احذر من غدر الكهنة .. ) فقال الرجل مطمئنا الحطاب ( سيتركونني أتكلم و أتكلم حتى يقولوا انها الحرية و الديمقراطية ما دام ليس لي اتباع و مادام الناس منشغلين عن الحقائق بالمعيشة و المرض و الفقر .. كما أنت .. أو التملق للكهنة بلا إرادة كما الاخرين ) طبطب الرجل على كتف الحطاب و قفل راجعا .. حاول الحطاب إيقاف الرجل لكنه عدل عن المحاولة فماذا سيقول له.. إنه اجبن من أن يتواصل مع حوار كهذا .. و استدار ليجر الحمار إلى حيث البيت