تفرض عمليات التطور في اي مجتمع الانتباه الى ضرورة تحقيق هدفين اساسين من بين اهداف اخرى، هذان الهدفان هما: التنمية الاقتصادية كمياً ونوعياً، والتنمية السياسية عمقاً واتباعاً. ذلك ان ضمان استمرار بقاء المجتمع واطراد تقدمه وحيويته بكونهما من الغايات الاساسية، اي غايات وجودية يعتمدان ويؤشران بنفس الوقت على حيوية الانسان والثقافة والقدرة على الانتاج والتفاعل.
قد يعتقد البعض ان مثل هذين الهدفين يمكن تحقيقهما بوساطة القرارات والاجراءات وتوفير المستلزمات الضرورية للتنفيذ. ومع ان ذلك يبدو صحيحاً على مستوى مرحلي ولكن ما هو اكثر ضمانة للاستمرار وجوب خلق وتفعيل المجتمع الاكثر مدنية واكثر حداثة ومؤسساتية.. وهذا يستدعي بداية وجود اطار نظري يمثل مرجعية للنماذج التطبيقية التي سيجري العمل على تنفيذها فليس هناك مجتمع مدني وحديث بدون افكار مدنية وحديثة. كما ان ليس هناك ما يضمن تقدم المجتمع المطرد بدون توفر المعايير الضابطة لحركة وتقدم المجتمع وغاياته.
وخروجاً من باب التعميم الى التفعيل يمكن القول بان توفر المنهجية والتنظيمات البنيوية العقلانية والسياسات التربوية والاعلامية والمنظومة القيمية الضابطة هي اهم المعايير لضبط حركة تقدم المجتمع. والاهم من ذلك كله وبدايته هي القيادة الريادية التي عليها ان تتولى مهمة تحديث المجتمع بمختلف قطاعاته.
ان هذه المستلزمات ترد في كل خطاب اصلاحي او ثوري، وقد يجري التعبير عنها ببرامج يمكن لأي كان تنفيذها. ربما يكون ذلك ممكناً في اوضاع التطور العادية عندما يكون المجتمع والدولة متحررين من عوامل الضغوط الخارجية والداخلية، ولكن في اوضاع مثل التي تمر ويمر بها العراق حالياً يصعب القول بان امكانية مواجهة المستقبل وما يقتضيه من تحديث وتمدين الدولة ومؤسساتها والمجتمع وقطاعاته.. لا يمكن ان تتم الابأيمان القيادات الريادية في مختلف المجالات.
بهذه المستلزمات كقضايا مركزية تحتل اهمية نسبية عالية جداً في قناعاتها مع توافر ثقة عالية بقدرة المجتمع والعقل الاجتماعي على التعامل مع التقدم وهذا يعني ايضا وتحديداً الايمان بالحرية الانسانية وتبنيها كقضية مبدئية، وهي مسألة يجب ان لا تكون موضع خلاف وان ما يقال عن نسبية الحرية يمكن معالجته من خلال الضبط القانوني للسلوك وليس من خلال ضبط الفكر وايقاعاته لانه دون الايقاعات المتباينة للفكر لا يمكن الوصول الى حالة من الابداع الفكري القادر على انتاج تصورات مستمرة لتقدم المجتمع ومعالجته لمشكلاته.
وعدا عن الايمان بالحرية الانسانية وحفزها للابداع، من الضروري ان تكون التجريبية العلمية ركناً اساسياً في تفكير المجتمع وادائه، وهذا لا بد من ضبطه بمعايير موضوعية صارمة لا يجوز التطاول عليها، لاننا في النهاية سنكون امام مهمة تحديث العقل وهي الاستحقاق الاول والرئيس للتحرر من التخلف وتجاوزه.
ويبقى من اهم شروط وضوابط حركة تقدم المجتمع هو ارساء المؤسسة التنظيمية العقلانية، لان المؤسسة ليست فقط التعبير عن الدولة الحديثة، دولة القانون، والمجتمع المدني، ولكن لانها ايضاً تمثل الاطار الوطني لحل المشكلات، وهي الحلقة الاساسية لتحقيق مهمة ايصال التخلف الى التقدم. فهي ادارة لحشد الطاقات ووضعها في المسارب المفضية الى الاهداف المنشودة، ولا يعني ذلك مجرد جهاز لتجميع وتراكم الجهود والانجازات، وانما ايضا لان المؤسسة التنظيمية العقلانية ذات طبيعة محافظة ايجابية لا تسمح باحداث التغييرات غير المحسوبة او ذات البعد الذاتي وانما تكون حركتها غالباً باتجاه التقدم مع توافر ضبط عقلاني كافٍ.
ان الدولة العراقية تقف امام تحدي التحديث المجتمعي والمؤسساتي، وهي بذلك تواجه حقائق موضوعية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر تلك الحقيقة التي تتصل بمنهجية التنمية السياسية بشكل عام والتي يمكن استخلاصها من تجارب مختلف الدول، وهي ان التنمية الاساسية لم تعد مجرد معادلة تقوم على توفر مؤسسات العمل السياسي كآلية والنوايا الديمقراطية التي تحكم التوجه الحالي للدولة.
والتنمية الاقتصادية كذلك لا تقوم على مجرد توافر المعادلة الرأسمالية في الاقتصاد، الادخار، فالاستثمار، فالانتاج. ان التنمية بشكل عام والتنمية السياسية تحديداً تقوم على اساس مركب من المعادلات القيمية والبنيوية المؤسسية المعقدة، وتقتضي ان تلتزم النخبة السياسية بمهمة تحديث المجتمع وانمائه، ووضع الانسان في المكان الذي خصص له بطبعه باعتباره مستخلفاً في الارض.
ومنذ استخلاف الانسان في الارض عمل على تحويل جهده الى حالة نضال او تكيف مع الطبيعة، وما ان حقق نجاحاته الاساسية حتى بدأ في تطوير شروط بقائه ودخل مرحلة الحداثة وفي كل الحالات كانت القيادة الريادية هي التي تصوغ الاطار النظري وتنفيذ الاجراء العملي لتحقيق التقدم.
وقد عرف الانسان لغاية الآن، مجموعة من النماذج القيادية التي حققت له تنميته على مختلف اوجهها واهم هذه النماذج- النموذج الملكي المحافظ، الجمهوري الانقلابي، والنموذج البرجوازي الليبرالي التقدمي، والنموذج القومي الوطني المحافظ، والنموذج الديكتاتوري، والنموذج الاشتراكي، ونموذج التنمية المستقلة القائمة على التوفيقية بين نماذج مختلفة.
واذا كنا في العراق نتميز بوجود نظام جمهوري خليط من عدة انظمة وللدولة دور شبه اساسي فيه، وحاولنا عبر التجربة ان نصوغ محاولة تنمية مستقلة، فان المهمة تبدو اكثر تعقيداً عندما تسعى للوصول الى نسق يقود عملية التحديث والتقدم ويوجهها… وهذا يتطلب من القيادة المنظمة ومن النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية ان تكون اكثر ريادية واكثر التزاماً بمنهج مستقبلي تنموي شامل.. فعنوان المرحلة المقبلة يقتضي ايجاد الدولة المدنية الحديثة والمجتمع المنتج والانسان الخلاق.
[email protected]