10 أبريل، 2024 4:16 م
Search
Close this search box.

معايير الأحتراف السياسي : بين الدوغمائية والبرغماتية

Facebook
Twitter
LinkedIn

لما كانت السياسة بالمفهوم الواقعي المعاش تعني ؛ علم ضبط التوازنات الحزبية ، وفن إدارة الصراعات الإيديولوجية ، وفهم تحليل العلاقات الاجتماعية ، وقدرة معالجة الأزمات السياسية . فهي ، والحالة هذه ، تحتاج إلى بحث علمي متواصل ، ودراسة معرفية مستمرة ، وسبر فكري متعمق ، وحفر تاريخي دائم . تتيح لمن ينخرط في مسالكها وينغمر في أتونها ويتعفر في معتركها ، ليس فقط إمكانية تخطي حدود الإدراك الشعبي المقرون بالثابت والجزئي ، وتجاوز تخوم الوعي التقليدي الممهور بالآني والمباشر ، اللذان لا يستوعب المرء من خلالهما فكرة السياسة إلاّ ما يختص بجوانبها المتعلقة ؛ بحيازة مقاليد السلطة بوسيلة العنف ، والهيمنة على مؤسسات الدولة بانتهاج التسلط ، والإمساك بأعنة النظام بواسطة الخنوع ، والاستحواذ على الشؤون العامة بأساليب الغش والخداع فحسب . بل ، والأهم من ذلك ، تمنحه المقدرة على استخلاص الملموس من المجرد ، واستنباط المعلوم من المجهول ، واستقراء الواقعي من الرمزي ، واستشراف المستقبل من الحاضر ، واستنتاج التوقعات من التفاعلات ، واستشفاف الاحتمالات من المصادفات . بحيث يتحول مدلولها الإجرائي من كونها مجرد فوضى إرادية واختيارات عشوائية ، لا تتطلب سوى جرأة المغامرة الجامحة وطيش القوة المنفلتة ، إلى أنظمة مؤسسية ورهانات عقلانية ، تستلزم مراعاة شروط الواقع الآيل إلى التحول والتبدل ، وتستدعي الأخذ بنظر الاعتبار ظروف المجتمع الماثل إلى التغيير والتحوير . والواقع إن الحدّ الفاصل ما بين مظاهر الذهنية الدوغمائية وخصائص السلوك البرغماتي – لاسيما في مضمار العمل السياسي – يكاد أن يكون حدا”فضفاضا”وفاصلا”هلاميا”، يصعب على من تعوزه المعرفة ويشح لديه الفهم ، تبين الفروقات واستشفاف الاختلافات القائمة بين تصلب المواقف وتعنت الآراء في الحالة الأولى وتقلب الاتجاهات وتحول الاهتمامات في الحالة الثانية . بيد إن المتمرس عمليا”والمتحصن نظريا”لا يخفى عليه استخلاص ما بين هذه وتلك من تباين على مستوى التعامل مع معطيات الواقع وانعطافاته من جهة ، وعلى صعيد الوعي بمنتجات الفكر وانزياحاته من جهة أخرى . فإذا ما توخينا التقيد بمعايير الاحتراف السياسي ، وحرصنا على الالتزام بمقاييس التحليل الموضوعي ؛ لمعرفة أنماط التجلي وترسيم حدود التمفصل بين العقليتين الدوغمائية والبرغماتية ، أمكننا القول بأن الأولى غالبا”ما تفضي إلى تنميط الذهنيات ونمذجة السلوكيات ، من منطلق الحرص على ثبات المجتمع واستقرار النظام ، دون أن تحتكم إلى ما يمور في رحم الواقع من صراعات في البنى الاجتماعية وانقطاعات في الأنساق الثقافية . هذا في حين تقود الثانية إلى تبرير المواقف حتى وان كانت خاطئة وتسوّغ التصرفات حتى وان كانت مشينة ، طالما تجد فيها ضالتها وتحقق من خلالها مقاصدها ، متعللة بالمبدأ الميكافللي الشهير (الغاية تبرر الوسيلة) ، دون أن تراعي حرمة لمبادئ إنسانية عامة أو اعتبارا”لقيم أخلاقية مشتركة . ولكي لا يأخذ الموضوع طابعا”مناقبيا” / وعظيا”، حري بنا أن ننأى به عن أهواء الرأي الشخصي ونجنبه الوقوع تحت طائلة التصورات الذاتية ، التي من شأنها حصر المعنى للوقائع في نطاق ضيق لا يتعدى حدود الرغبة ، وتقييد الدلالة للمعطيات في إطار الفهم الأحادي والإدراك الجزئي . موجهين أدوات تحليلنا شطر المستويات العميقة للظواهر الاجتماعية ، ومتتبعين مسار الحركات الصاخبة للقوى السياسية ، حيث التفاعلات البينية قائمة ، والصراعات الجانبية مستمرة ، والطفرات النوعية متوقعة ، والانقطاعات البنيوية محتملة . وعلى ذلك فليس من المستبعد أن يتحول صاحب الذهنية البرغماتية إلى دوغمائي من الطراز الأول ، أو بالعكس أن ينقلب الدوغمائي إلى برغماتي من الصنف المميز ، إذ إن المسألة برمتها مشروطة بطبيعة الموقف الذي يستدعي حصول ذلك التحول ، وماهية المصلحة التي تستلزم حدوث ذلك الانقلاب . وهنا لابد لنا أن نلفت الانتباه إلى حقيقة أن الموقف الذي نقصده والمصلحة التي نعنيها ، لا تتعلق بما هو شخصي / فردي وما قد ينطوي عليه من نظرة مطلبية ونزعة مكسبية ، سرعان ما تضمحل وتتلاشى في خضم المزايدات والمفاضلات ، بقدر ما يتصل بما هو شأن سياسي أولا”وأخيرا”، وما يمثله من اعتبارات وطنية عليا وما يعكسه من اهتمامات استراتيجية قصوى . تتمثل بسيادة سطوة الدولة ، وشرعية سلطة الحكومة ، وتدعيم سلطان النظام ، وتعزيز هيبة القانون من جهة ، والحرص على ترابط مكونات المجتمع السوسيولوجية ، وتماسك أصول جماعاته الانثروبولوجية ، وتواصل علاقات أفراده السيكولوجية ، وتفاعل أرومات رموزه الإيديولوجية من جهة أخرى ولعل تجارب العالم الغربي ، حيال هذه المسألة ، تمنحنا البرهان القاطع وتضرب لنا المثل الأعلى ، لاسيما لجهة الكيفيات والآليات التي استطاع الغرب من خلالها ، اقتناص الفرص واهتبال الخيارات التي هيئتها له مرحلة السبات – الأحرى أن نقول النكوص – الحضاري ، حين ولج العالم الشرقي أطوارها ولا يزال يتجرع مرارتها ويتمرغ في وحولها . بحيث تمكن ذلك الغرب وخلال فترة زمنية قياسية من تجاوز تبعات حروبه الدينية الدامية ، وتخطى عقبات صراعاته السياسية الضارية ، التي كانت قرونه الوسطى الموسومة بالظلامية – إنصافا”للحقيقة نقول إن تلك الحقبة لم تكن ، كما تصفها دوما”كتب التاريخ العربي والإسلامي ، جدباء من كل إنجاز وخاوية من كل قيمة –  شاهدا”عليها ، ويشرع ، من ثم ، بفرض تفوقه العسكري ، وبسط سلطانه السياسي ، ونشر تقدمه العلمي ، وتعميم إبداعه الفكري ، وتسويق ابتكاره الصناعي ، وغزو إنتاجه البضاعي . وذلك لمستلزمات احتواء شعوب الشرق الغارقة في تخلفها والمستكينة لأقدارها ، وإحكام السيطرة على مواقعها الجيوبولتيكية ، وتكثيف الاستنزاف لثرواتها ومواردها الطبيعية ، وتأبيد الهيمنة على مصائرها التاريخية ، وتبرير الاستحواذ على كنوزها الحضارية . ففي الوقت الذي كانت فيه معاقل العقلية الدوغمائية تحكم قبضتها على سائر الشؤون الداخلية للمجتمع الغربي ؛ تارة باسم المصالح القومية الضيقة ، وتارة ثانية بحجة الدعاوى الدينية المتعصبة ، وتارة ثالثة بزعم المهام الحضارية الكاذبة . فان مراكز توجيه العقلية البرغماتية كانت قد تكفلت بخرق الحدود الطبيعية والسياسية والاجتماعية للبلدان الخارجية ، استجابة لنوازع المنافسات التجارية ، ونزولا”لدوافع الصراعات الاستراتيجية ، بعد أن تسللت إلى وعي شعوبها (الطفولي) ، وروضت اراداتها (العنيفة) ، ودجنت شخصياتها (العصابية) ، وهذبت ثقافاتها (الهمجية) . كل ذلك حصل دون أن يتجرأ أحدا” من أمراء الإقطاعيات ، أو ملوك الامبراطوريات ، أو حكام الجمهوريات على التضحية بجزء من المصالح القومية العليا للدول أو التفريط بالثوابت الوطنية المقدسة للشعوب ، كائنة ما كانت أنماط الدول وأشكال الحكومات التي حكمت ربوع ذلك العالم . وإذا ما انعطفنا باتجاه تجارب بلدان الشرق بشكل عام ، وأوطان العالم العربي على نحو خاص ، وتجربة العراق التي هي مدار بحثنا هنا بصورة أخص ، فانه لا مناص من وقوعنا فريسة لنوبة عارمة من الضحك – لأن شرّ البلية ما يضحك كما يقال – ليس لأن المجتمعات المصنفة ضمن أدنى مقياس للتغيير ، وأوطى مؤشر للتطور ، وأسفل سلم الحضارة ، أضحت عقيمة حضاريا”وعاجزة إنسانيا”عن توليد مثل هذا الطراز من العقليات ، وبالتالي تجهل ما هو حق لها لتصونه وما هو واجب عليها لإنجازه – إن تجهل شيء ما فلا تثريب عليك إن أخطأت في فهمه ، ولكن أن تعيه على وفق مزاجك الخاص ، وأن تستغله بناء على رغبتك الذاتية فتلك هي المصيبة – بل ولأننا آثرنا أن نفسّر الدوغمائية بما ينسجم ومصالحنا في ثبات التوترات السياسية ، حتى وان كانت ضاجة بالمآسي والويلات . واستقرار المنغصات الاجتماعية ، حتى وان كانت صاخبة بالنزاعات والتناحرات . واستمرار المعاناة الاقتصادية ، حتى وان كانت حبلى بالمظالم والحرمانات . وتأبيد الزعامات السلطانية ، حتى وان كانت تنتج الدكتاتوريات والشموليات . وتبجيل الأساطير التاريخية ، حتى وان كانت مصدرا”للانقسامات والاسنقطابات . وتقديس الخرافات الدينية ، حتى وان كانت تحض على التطهيرات والابادات . والحفاظ على الترهات العرفية ، حتى وان كانت تقمع العقليات والفكريات . كما إننا فهمنا العقلية البرغماتية كما لو أنها قناع متعدد الأوجه ، يخفي حقيقة ما نضمر ويستر طبيعة ما نشعر؛ بحيث تعلمنا أن نتاجر بالأقوال ونساوم بالأفعال ، حتى وان كان ذلك على حساب المبادئ الوطنية والقيم الأخلاقية . وان نبرع بالحصول على كل شيء مقابل ألاّ نعطي أي شيء ، حتى وان كان ذلك على حساب الحقوق والواجبات . وان نكون دائما”في المقدمة نحصد المكاسب ونتمتع بالامتيازات ، حتى وان تطلب الأمر تهميش الآخرين وإقصاء الجميع . وان نزعم امتلاك العلم وحيازة المعرفة ، خلاف ما نفهم مستلزمات الأول ومناقبيات الثانية ، حتى وان كان ذلك يفضي إلى تزييف الوعي وتسطيح الشخصية . وهكذا فقائمة المقارنات تطول ، إن أردنا ذلك ، وتفاصيل المتقابلات تتشعب ، حيال المواقف الانتقائية / المصلحية التي يبديها فرسان التغيير السياسي في عراق اليوم ، لجهة تعاطيهم الحرباوي / الثعلبي مع جيشان الوقائع وهيجان الأحداث ، على وفق مقياس تصوراتهم المبهمة وتبريراتهم الملتوية ، بحيث إن الأمور تبدو كما لو أنها مادة صلصالية ، سهلة التكوين حسب المطالب وطيّعة التشكيل بموجب الرغبات . فحين يتعلق الأمر ، وهم في موقع القوة والشعور بالاقتدار ، (بكم) المكاسب الشخصية والفئوية و(نوع) الامتيازات العنصرية والجهوية – ولا نقول الحزبية لأن اللبيب بالإشارة يفهم – فانه لا أحد يضارعهم ، كائنة ما كانت الظروف والأحوال ، في إبداء التصلب الذهني والتعصب القومي والتمذهب السياسي ، للحد الذي يسوقهم  إلى تجريم المعارض حتى وان كان مهادن على جبهة السياسة ، وتحريم المخالف حتى وان كان مسالم على جبهة الدين ، وتأثيم المغاير حتى وان كان على جبهة الطائفة . أما أن تدعوهم الحاجة ، وهم في موقع الضعف والإحساس بالانكسار ، لإيثار مبدأ المرونة في التعامل مع الخصوم وطرق سبل المساومة مع المعارضين ، فإنهم على استعداد ودون تردد ؛ لتضييع الوطن وتبضيع الدين وتسليع الإنسان . هنا نكون قد أوضحنا – دائما”في حدود السياسة وإطار السلطة –  التباينات الدلالية والتعارضات الرمزية ؛ بين أن يكون المرء (دوغمائيا”) في مجال الثوابت الوطنية والمصالح القومية والأسس العقلانية والقواعد المؤسسية والمعايير الإنسانية ، أو العكس التعهّر السياسي والتحجر الفكري والانغلاق الإيديولوجي والتخندق الديني والتمترس المذهبي التحصن العرقي . وبين أن يكون (برغماتيا”) لا يألوا جهدا”في البحث عن كل ما من شأنه ؛ ترصين سيادة الدولة وتعزيز سلطة الحكومة وتوقير هيبة القانون  وترسيخ أمن المجتمع وضمان حقوق الإنسان ، أو العكس تقويض سيادة الأولى بالأجندات الإقليمية والدولية ، إضعاف سلطة الثانية بالمحاصصات الطائفية والتكتلات القبلية ، والاستغناء عن هيبة الثالث باعتماد العصابات والمليشيات ، وتهديد أمن الرابع بتعميق الانقسامات واثارة النزاعات ، وانتفاء حقوق الخامس بانتهاج الانتهاكات والخروقات .   
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب