هو شهر الصيام والقيام، وهو شهر الذكر والقرآن، وهو شهر العطاء والإحسان..
في هذا الشهر يتوجب علينا ان نسعى جاهدين لكي لا نحرم من رحمة الله وغفرانه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشقي من حرم رضوان الله في هذا الشهر) لانه يمثل ـ بحق ـ فرصه نوارنية كبيرة وجذابة من شأنها ان تفتح أمام الإنسان آفاق الرحمة والعظمة الإلهية؛ الا ان الشقي من يفوت هذه الفرصة الكريمة على نفسه، أرأيت لو ان انسانا ما عاد من شط الفرات ظمأنا؟.. فهو الشقي بمعنى الكلمة.
لقد حدد ربنا جل جلاله الأهداف السامية من شهر رمضان عبر الآية القرآنية الكريمة، حيث قال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن). فهو ربيع القرآن، وما علينا الا ان نعي هذه الجلالة والقدسية عبر تلاوة آيات الذكر الحكيم، والتدبر فيها، وان نكيف أنفسنا مع مستواها لنزداد معرفة، بربنا وقربا منه.
فإن استطاع أحدنا فليختم القرآن في كل ثلاثة أيام منه، كما كان بعض الأئمة من أهل البيت عليهم السلام يفعل ذلك، وإلا ففي كل عشرة أيام، وإلا فمرة واحدة على الأقل خلال طيلة الشهر. ولكن المهم في قراءة القرآن، هو التدبر فيه، وأخذ العبرة من آياته..
ولا يخفى ان للقرآن مفاتيحه الخاصة به، ومن لم يمتلك هذه المفاتيح يكون عاجزا وممنوعا عن الدخول في رحابه، ولن يستوعب شيئا من معارفه وبصائره..
والمفتاح الأول والأساس للدخول في عالم القرآن، هو الإيمان به، واقتراب القلب بلهفة إليه. ولذلك كان علم القرآن خاصا بمن يقوم الليل، ويذكر الله كثيرا، ويخشع لكلمات ربه، وينتظر اليوم الآخر. وهذه هي حقيقة الإيمان وانعكاسه.
فإذا أراد المرء ان يستوعب كلام الله، فعليه ان يطهر نفسه من الوساوس والشكوك والادران الفكرية والعاطفية، ومن حب الدنيا وهوى النفس.. على اعتبار ان القرآن كتاب لا يمسه الا المطهرون؛ الذين يقومون أناء الليل وأطراف النهار، عابدين خاشعين لله تعالى، وهم لا يستكبرون.
وكان من نعم الله علينا ان أكرمنا بشهر الخير والبركة، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، حيث من الضروري جدا ان نعتبر هذا الشهر المبارك فرصة لا تعوض، لنكرس فيها تطهرنا وإيماننا وخضوعنا وخشوعنا وتوبتنا.. ولنجعل من فرصة هذا الشهر محطة تزود بطاقة الإيمان وفتح مغالق القرآن لأيامنا التالية. فساعات الصوم، ولحظات السحر الرائعة، كلها مواقع لإستجابة الرب للدعاء الخالص لفهم القرآن فهما حقيقيا، لتوطيد العلاقة بالقرآن حتى يكون لنا خير زاد في الدنيا والآخرة.
ثم ان الله تعالى يصف كتابه المجيد بأنه (هدى للناس وبينات من الهدى) أي انه هدى للناس جميعا، وان كل إنسان بمقدوره ان يغترف منه على قدر وعيه واستيعابه.
أما الصفة الأخرى التي تطالعنا الآية الكريمة بها، فهي ان القرآن عبارة عن (الفرقان) الذي يميز بين الحق والباطل، نظرا إلى ان الإنسان من شأنه الضياع بين أمواج الحجب والظلمات والملمات التي تعصف به، ما لم يتسلح بكتاب الله ليزيح الحجب ويطرد الظلمات ويتجاوز ويقفز على العقبات والملمات.
وثمة التفاتة؛ ان الأمر بالصيام في هذا الشهر الكريم لم يكن عبثا أو لهوا، بل هناك غاية سامية جدا، وهي ان نزول القرآن في هذا الشهر بالذات يقترن اقترانا واضحا مع واجب تهذيب المرء لنفسه من خلال الصوم والالتزام بما أمر الله به ونهى عنه ولا وسيلة أفضل لتحقيق هذه الغاية السامية من تكريس التوجه إلى القرآن والتدبر فيه، إذ يوفر الصوم فرصة تنقية الذات من الرواسب الجاهلية.
ان المهم هو ان يكمل الإنسان عدة الصيام ثلاثين يوما في السنة، ولكن الواجب ان يجعل هذه الثلاثين يوما في شهر رمضان المبارك، الا إذا طرأ عليه طارئ في هذا الشهر من سفر أو مرض فعليه إكمال عدة الصيام في أي شهر شاء.
ولا يخفى انه حينما يصوم الإنسان أيام شهر رمضان أو أية أيام أخر، فإن عزيمته تنمو، وإرادته تترسخ، ونيته تتوفر على الإخلاص والنزاهة.. فيصبح بذلك أقدر على مواجهة المشاكل والصعوبات، وأقدر على الكف عن المحرمات..
ومن هنا فإن للصوم ثلاث درجات:
الدرجة الأولى، ان الصوم عن المفطرات عموما من الفجر إلى مغيب الشمس.
الدرجة الثانية: ان جوهر الصيام هو الهدف من تشريعه من قبل الله تعالى، وهذا الجوهر يتجسد فيما تشير إليه الآية الكريمة: (لعلكم تتقون) أي ان الهدف من فريضة الصيام هو تنمية ملكة التقوى في داخل الإنسان الصائم، فتنمو بذلك معرفته بربه، وقدرته على التحكم بنفسه وما تحوي من أهواء وشهوات وغرائز، وتقيده بحدود الله في حياته.
الدرجة الثالثة: ان تصوم مع الإنسان نفسه عن وساوس الشيطان، وان يكون فؤاده خاليا الا من ذكر الله تبارك وتعالى، رغبة في التوجه والتسامي إليه.
إذ الصوم؛ هذا الفرض الذي شرع لكافة أبناء البشر على مر التاريخ، كما صرح القرآن بذلك؛ هذا الفرض لم يأخذ أهميته العظمى لمجرد الامتناع عن الأكل والشرب والجنس فحسب، وإنما كانت أهميته لما يفترض ان يدفع الإنسان نحو التعلق الوثيق بخالقه المتعالي.
ولكن السؤال هنا: هو كيف نستطيع ان نستفيد من هذا الشهر الفضيل أكبر فائدة ممكنة؟
ربنا تبارك وتعالى يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) وعليه؛ فإن أهم شيء ينبغي التوجه إليه، هو ان يعرف المخلوق بأن خالقه ليس بعيدا عنه، وأنه عند ربه وبين يديه. وإلى هذه الحقيقة يشير النص الوارد في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام الذي علمه لتلميذه أبي حمزة الثمالي رحمه الله، حيث جاء فيه: (وان الراحل إليك قريب المسافة، وإنك لا تحتجب عن خلقك الا ان تحجبهم الأعمال دونك).
أما سبب نزول الآية الكريمة المتقدمة الذكر؛ فهو ان إعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله: يا رسول الله؛ هل ربنا بعيد فنناديه، أم قريب فنناجيه؟ فنزل قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب).
ويجدر القول هنا؛ حينما يكون الإنسان بعيدا عنك، فإنك ترفع صوتك مناديا إياه كي يلتفت إليك، اما إذا كان قريبا منك، فإنك تتحدث إليه بهدوء. وهذا القريب قد لا يكون متوجها أو ملتفتا إليك.
غير ان الرب عزوجل يختلف عن أي قريب آخر، فهو على الدوام، قريب مجيب ملتفت إلى المخلوق برحمته وحنانه ومنته.
ومن حقك ان تسأل: إذن لماذا في بعض الأدعية نكرر القول يا الله عشر مرات، الا يكفي ان نناجيه مرة واحدة ليجيبنا؟
بلى؛ ان الرب يجيبك من النداء الأول، ولكنك قد تكون غافلا عمن ناديت. لذا فإنك بحاجة إلى تكرار ذكره الشريف، حتى تشعر بعظمة الرب المنادى. وهذا الإحساس هو ما يمكن ان نسميه بحضور القلب حين التحدث إلى الله عز اسمه، والا فإن الإنسان الداعي إذا كان حاضر القلب، متوجها بكله إلى الله، فإن نداءا واحدا يكفيه.
ومن هذا المنطلق، فإن الآية التي تصف حقيقة القرب الإلهي تعلمنا في الوقت ذاته شيئا من آداب الدعاء، الآداب التي لابد ان تقوم على أساس التوجه إلى منزلة الرب، وإلى حقيقة وجوهر الدعاء، وإلى ضرورة الا تكون الدعوة مجرد كلمات تخرج من أفواهنا.
أما الشرط الذي يضعه الله لإستجابة دعاء الإنسان، هو ان يكون ذلك الإنسان مستجيبا لنداء الرب، مؤمنا به، مبتعدا عن الغي والضلالة.. وعند ذاك ينال الإستجابة الربانية.
وهنا تنبغي الإشارة إلى ان هذا الشهر الكريم يمثل فرصة مهمة للغاية في ان يتوجه الإنسان إلى ربه عبر قراءة الأدعية المأثورة عن لسان النبي وأهل بيته عليه وعليهم السلام؛ الأدعية التي تضم بين دفتيها المنهج التربوي الأصيل لمن أراد السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.