17 نوفمبر، 2024 9:29 م
Search
Close this search box.

معاناة من نوع آخر

معاناة من نوع آخر

يتضامن الناس على أمور شتّى لكنهم يبتعدون كثيراً عن المعنى الواضح للتضامن حتى لو كان على حساب سعادتهم.

تبرز المعاناة في أجلى صورها الاجتماعية والسياسية حينما يغيب مفهوم الدولة، وتحل بدل منها سلطة الهويات الفرعية بمختلف صورها، ويتجذّر العنف على أسس مشروعة ومقدسة كحق في الوجود حتى لو كان على حساب الآخرين.

يصل التضامن لدى الجماعات الدينية و الأثنية و العرقية إلى أقصاه، ويقع في مفاضلة خطيرة ومعيارية تميل إلى تعميق حس التضامن بين الجماعات ذاتها، في الوقت الذي يغيب فيه مفهوم الوطن والولاء على أساس المواطنة.

الأمر الذي يهدد مفهوم الدولة برمته هو احتقار الحدود الوطنية للبحث عن وشائج حميمة مع هؤلاء الذين يشاطرونا هويتنا المٌتَخّيلّة.

ننخرط في تضامنات خطيرة تجعل من الحدود أمر مستباح وقضية هامشية مقارنة بالحميميات التي تعقدها هذه الجماعات فيما بينها، ويغدو الوطن جسراً ثانوياً ومنزلاً بدوياً قابلاً للاقتلاع في أي لحظة، فولاءات البدوي تتعدى بيئته المؤقتة.

يبدو مفهوم الدولة من هذه الناحية عصيّاً على فهم الذهنية العربية ويقع في مفاضلات تنتهي بالحكم لصالح السلطة، ويبقى هذا المفهوم أحجية غامضة جداً مقارنة بعطش السلطة المٌحَبّب في ذاكرتنا العربية.

ثمّة أمر غائب عن فهم الكائن البشري وهو المعاناة، ذلك إننا مهما تلونت أشكالنا واختلفت هوياتنا، يبقى هناك شيء لا يفارقنا وهو الإحساس بالمعاناة، ذلك الأحساس العميق الذي يتوزع بطرق مختلفة على مجمل حياتنا النفسية والاجتماعية والسياسية.

وغياب الدولة ومؤسساتها يعمّق هذا الشعور بطرق مختلفة، بدايةً بغياب الأمن ونهاية برخص الأرواح المٌعَلّقَة على مذبح المجهول. العدو الأول للجماعات الفرعية هو مؤسسات الدولة، وهي بمنزلة الكابوس لطموحاتهم وأحلامهم الجامحة، فالمرشّح الأول من هذه الناحية سيكون الدولة، ويحتلّ خرابها سلّم أولوياتهم!.

لا زالت التعاقدات العقلانية التي يحكمها القانون، والتي تشكّل نواة “المجتمع المواطني” غريبة لا بل رجيمة في قاموسنا العربي، ومن جهة أخرى ينتشر مفهوم “الجماعة”، القائم على تعاقدات إلزامية وعواطف مذهبية وقبلية وعرقية بعيداً عن المصالح العقلانية.

يندر ظهور عقد اجتماعي في الوقت الراهن، وتأسيس دولة قائمة على القانون، والسهر على أمن المواطنين وخدماتهم. العقد الاجتماعي لا يروي عطش “الشيخ” لأنه (يسرق) منه امتيازاته السحرية ويربطه قانونياً بالدولة.

وهذا مالا تقبل به الجماعات الفرعية المتمرّدة على كل أشكال العقلانية ,لأنه سيتحول إلى سجن يخنقها داخل حدود الدولة الوطنية، ويقف بالضد من أحلامها العابرة للحدود، ويصعب قبولها استبدال مفهوم “الرعية” بمفهوم أكثر عقلانية وهو مفهوم “المواطن”، لانه سيكون خسارة فادحة لهيمنتها.

إن نسيان المعاناة المشتركة يساهم في تضخيم الأنا والنزوع إلى التميّز والشعور بالأهمية تجاه الآخرين، ما يجعل القبيلة أو المذهب أو العرق هي قدس الأقداس، والجامع للولاءات والمعيار الأوحد لتعميق حس الًتضامن حتى لو كانت معانتنا مشتركة.
نقلا عن العالم الجديد

أحدث المقالات