23 ديسمبر، 2024 11:00 ص

قصة قصيرة بعيدا من هموم السياسة وقريبا من هموم العراقيين..
قالت له بلهجة متعبة خالية من المداعبة اتذكر يا ابا فلان عندما كنا في مرحلة الشباب جالسين هناك على ضفة النهر نتكلم عن مستقبل مجهول لكنه مليء بالآمال المفرحة وانتظار لتشكيل عائلة ونحن لانعرف اي شيء عن الزواج سوى القشور من خلال المسلسلات والافلام..
وشاءت الاقدار ان تجمعنا فتم خطوبتي لك وبعدها بإجازتين على ما اذكر والمدة بين الاجازة والاخرى شهر كامل تم الزواج وكانت الافراح تملأ صدورنا ونحن نشاهد فرحة من حولنا من الاهل والمحبين…
التحقت بعدها الى وحدتك العسكرية البعيدة عن منزلنا وياليتك لم تلتحق حيث كان وداعي لك من نوع خاص عندما كان قلبي يرتجف وعيوني تهمر الدموع على شيء مجهول…كنت خائفة جداً لا اعرف اسباب الخوف ودعناك انا واهلك الذين تعودوا على توديعك بالدموع فذهبت الى تلك محطة القطار وسافرت مع زملائك الى محافظات الجنوب حيث هناك وحداتكم العسكرية في جبهات القتال ينتظركم مصير مجهول…كان قلبي يحدثني والوسواس قد ملأ صدري لماذا نتزوج ولماذا نسعى لتكوين اسرة مادامت اقدارنا معلقة بالحروب. وسؤال يدور في عقلي ولم اجد له اجابة لماذا نحب اصلاً ونحن نعيش بلا آمال وبلا استقرار؟؟؟
طالت غيبتك عنا وخاصة عن فتاة متزوجة منذ شهرين لا تعرف عن الفرح شيئاً سوى لحظات لقاءها بعريسها وفرحة عودته سالماً الى اهله..
وكانت الصاعقة التي الكبرى عندما سمعنا ان وحدتكم العسكرية تعرضت لهجوم شرس وتم تسجيلك مع المفقودين. وكلمة مفقود….اسير….شهيد…رهينه…مختطف…تعلمنا عليها نتيجة الحروب التي تمر بها بلادنا….
صرخت والدتك بصوت تبكي له كل حيطان المنزل وهي تولول وتتمتم ببعض الكلمات الحزينة اما انا فشعرت بأن قلبي قد اشتعل بنار وانا مازالت عروس الطم حظي العاثر على قدرات الزمان ولا اعرف لماذا يدخل الحزن لينهي كل ما تبقى من فرحة الشهرين الماضية…
مرت الشهور وجاءتنا رسالة من منظمة الصليب الاحمر الدولي تفيد بانك قد وقعت في الاسر وانك الآن متواجد ضمن معسكرات الاسرى وهنا بدأت المعاناة الحقيقية معي فلقد اصبحت امرأة معلقة بمصير مجهول قد يطول لسنوات وسنوات…سلمت امري واقداري الى خالق الكون طالبا من مساعدتي لأنني اصبحت منهارة جدا وربما افكر احياناً حتى في الانتحار ولكن ايماني بالله يبعدني عن وساوس نفسي….وطال الانتظار والعيون كلها تحوم حولي وكأنني اصبحت فريسة لصقور جياع فلا اهلي يقدرون موقفي ولا اهلك يقفون معي وانت اصبحت في اعداد الاسرى الذين هم يعتبرون (( الأحياء الاموات)) ولم تأتي وطالت غيابك ومرت علينا سنين عجاف اخذت مني ريعان الشباب. عشت خلالها كل يوم بقصة مأساوية جديدة خاصة ونحن في مجتمعات مازالت تحكمها نظرة الرجل المتسلط وان المرأة ضعيفة ولايجوز لها الاختلاط بأغلب طبقات المجتمع وخاصة اذا كانت ارملة او مطلقة او زوجة مفقود او اسير مثلي…
صبرت على فراقك ايها العزيز ثمانية سنوات وبضعة شهور وقد مَن الله علينا بعودتك وان نلتقي من جديد ولكن الامور اختلفت تماما فلقد تغير ذلك الشاب الذي احببته واصابته امراض الزمن الكثيرة وعاد متعباً نفسياً وجسدياً ولم يفكر او يتأمل ان يشاركني الحياة مرة اخرى وها انا اليوم تحولت من حبيبة انتظرت عودة حبيبها الى إمراة تحرص على صحة زوجها وتقدم له كل احتياجاته دون ان يشاركها حياتها الزوجية التي لم تعيشها سوى اسبوع واحد.. اليوم اصبحت بين فكيين العادات والتقاليد وبين زوج مريض نفسياً لا يقبل ان يخرج مع زوجته او الاختلاط بالآخرين يأكله الشك في كثير من امور حياته ومازالت صابرة وثابتة في موقفي هذا وانا اعيش معه اكثر من ثلاثون عام لم اخرج معه ساعة واحدة للنزهة او السفر. وها انا اليوم اجلس قربه اسرد له بايجاز قصة فتاة تعيش في بقعة من الارض اسمها العراق… وربما هناك من النساء من كانت مواقف الحياة معهن اشد قسوة مني ولكنني اردت ان اذكر قصة حياتي للتاريخ وللقارئ الكريم ولكل من يقرأها ليعرف العالم نتيجة الحروب ونتيجة الصراعات التي خلفت خلفها ملايين القلوب المحطمة والعوائل المشردة….