امرأة من بين مئات او الاف النساء العراقيات اللواتي جبلن بالاحزان والهموم، هي في العقد السابع من عمرها تجلس القرفصاء متكئة على جدار عراه الزمن والبؤس والحرمان، تبكي جيرانها ومنزلها وذكرياتها وحديقة منزلها والنخلة التي عمدت بدماء ابنها وحفيدتها اللذين استشهدا بقذيفة هاون، اتت من المجهول لتنهي ضحكة طفلة واحلام شاب، حينما كانا جالسين تحتها في احدى مساءات عام (2007) في وقت غاب به العقل وتسيد العنف الطائفي نتيجة لسياسات اعتمدت المحاصصة الطائفية نظاما لها.
انها ام سلام (حياة محمد) بعد ان كفكفت دموعها بمنديل اسود لا يختلف عن لون ملابسها هذا اللون الذي لم يفارق اجساد النسوة في بلد اعتمد الحزن رداءا له، تقول منذ ان تزوجت في الاربعينيات من القرن المنصرم والمعاناة تلازمني، فقد اعتقل زوجي الذي كان مناضلا في الحزب الشيوعي العراقي في الخمسينيات فترة حكم النظام الملكي وبع ذلك من قبل الحرس القومي عام (1963)، وذاق اشد انواع التعذيب في المعتقلات والسجون، ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلتي بين البحث والتنقل من موقف الى اخر لمعرفة مصير زوجي، وبين البحث عن عمل وتوفير لقمة العيش لاولادي، وبعد ان اطلق سراحه في بداية السبعينيات وفصله من عمله عشنا ايام سود من العوز والخوف، تركنا منزلنا وكنا ننتقل من مكان لاخر خوفا من اجهزة الامن القمعية ومن ألاعتقالات وخلال تلك الفترة عمل زوجي في اعمال مختلفة وكان يعمل منذ الصباح الباكر وحتى ساعات متأخرة من الليل ليعيل عائلتنا المتكونة من اربعة اولاد وسبعة بنات ولكي يختفي عن انظار الامن والمخابرات التي كانت تطارده، واستمرت معاناتنا وزادت بعد ان اندلعت الحرب العراقية الايرانية والتحق ابنائي بالخدمة العسكرية وزجِّهم في اتون الحرب في جبهات القتال”.
انها سنوات مظلمة من تأريخ العراق التي راح ضحيتها خيرة الشباب من الاكادميين والعلماء والمثقفين لإرضاء غرائز اشخاص اصيبوا بداء العظمة.
بعد تنهيدة طويلة اكملت حديثها قائلة اثناء الحرب أسرَ الجيش الايراني ابني وانتهت الحرب عام (1988)، وكم كان قلبي يحترق على ولدي في جبهات القتال وادعوا الى الله ان يعودوا سالمين ودموعي لم تتوقف على ابني الاسير، وبعد فرض الحصار على الشعب العراقي نتيجة لاحتلال الكويت من قبل نظام صدام والجوع
والعوز وانتشار الامراض توفي زوجي وابنتي بعد اصابتهما بمرض السرطان، ولهذا التصق السواد بجسدي ولم يفارقه ابدا، وفي عام (2000) اطلق سراح ابني من الاسر وقد حمل امراض القلب والجهاز الهضمي ولم يقوَ على العمل لاعتلال صحته، فعشت اياما سود كنا نحصل خلالها على لقمة العيش بصعوبة، اذ عملت انا وبناتي في صناعة السلال والحصران من سعف النخيل، وكذلك في خياطة الملابس.
وبعد عام (2003) استبشرنا خيرا بالتغيير وسقوط النظام الدكتاتوري البعثي وكلنا امل بأن احوالنا ستتغير نحو الاحسن، ولكن على العكس زادت معاناتي واحزاني ففي عام (2007) استشهد ابني وحفيدتي بقذيفة هاون اثناء الطائفية، وحينها هجرنا من منزلنا في سبع البور الى منطقة البلديات وقمنا باستئجار منزل، ولاننا لم نستطع الاستمرار بدفع الايجار، عدنا بعد عام الى بيتنا رغم عدم استقرار الوضع الامني”.
“وياليتنا لم نعد هذا ما قالته ابنتها انعام وهي في نهاية الثلاثينيات من عمرها تحدثت بألم وحسرة قائلة ” عدنا والاوضاع الامنية لم تتحسن وقوى الارهاب تتكاثر، وفي يوم من عام 2013 كنت في السوق واذا بانفجار انتحاري اعقبه انفجار سيارة مفخخة، فقدت البصر في احدى عيني من اثر الاصابة بشظايا في وجهي وبقية انحاء جسمي، ولم تنتهي الامور الى هذا الحد، فقد هجرنا مرة اخرى من منزلنا اثر توالي سقوط قذائف الهاون وعمليات المجاميع الارهابية، وبفقدان نظري فقدت عملي في خياطة الملابس والاعمال الاخرى التي كنت اعملها من اجل الحصول على المال لتلبية احتياجات المنزل.
انها قصة حياة اغلب النساء العراقيات اللواتي جبلن بالاحزان والشقاء وينتقلن من قهر الى اخر ورغم كل ذلك يحاولن قدر المستطاع التمسك بالحياة والخروج من الظلمة، وإيقاد شمعة لخلق حياة يأملن ان تكون الافضل.