22 ديسمبر، 2024 10:22 م

معالم الديوانية .. إرث ثقافي وتأريخي

معالم الديوانية .. إرث ثقافي وتأريخي

لعبت الأمكنة دورا مهما ًوفاعلاً في قيام المدن ونشأتها واكتسابها هويتها التاريخية والثقافية و ظهورها كمراكز تعج بالحيوية والنشاط والعطاء ، ورغم تبدل وتغير معالم الكثير من هذه الامكنة نتيجة تأثرها بتغيرات بيئية واجتماعية ومتطلبات حياتية أخرى ، الاّ أن ذاكرة المدن ظلت تحتفظ بالعديد من الحكايات التي شكلت جانبا من سيرتها وتاريخها . والديوانية واحدة من المدن التي كان للأمكنة دورا واسهامة في تكوين هويتها الاجتماعية والثقافية ، حيث انتشرت على خارطة جسدها الجغرافي عدد من المعالم التي ظلت الى وقت قريب شاهداًعلى سيرتها المعطاء في حقول الابداع والسياسة والمعرفة ومن أبرزهذه المعالم : ” قصرالجلبي ” ودورة الزمن ثمانية عقود مضت ومازال يغفو على شط الديوانية ، مرّ به الكثير ، لكن القليل منهم يعرف ان هذا البيت الذي أصبح اليوم اشبه بقلعة غابت عنها الشمس كان يوما ً من أبرزالمعالم الدالة في المدينة ، ففي عام 1938 شيده على أرض زراعية التاجر ” محمد الجلبي ” ومن يومها راحت الأنظار ترنو صوبه بعيون تفيض بالحسد والدهشة بسبب طرازه الفريد واعتبروه “قصرا” لتميزه بالشموخ عن بيوت “محلة الجديدة ” البسيطة والمتداعية التي تقابله في الضفة الاخرى من النهر ، وكان الجلبي في المساء يتخذ من شرفة هذا البيت عرشاً حيث يجلس على كرسيه الهزاز والى جانبه كلبه كما ان غليونه لايفارق فمه يقضي مساءه وهو يتطلع من خلف نظارته السوداء مستمتعا بمنظر الصبية وهم يسبحون ويتراشقون بمياه النهر تحت اجنحة النوارس التي تملأ المكان ، وهذا الترف ومظاهر الغنى لم يمنعا اليسار العراقي من التسلل الى حياة هذا البيت فقد سجل التاريخ موقفا وطنياً رائعاً ً لـ ” رياض ” نجل الجلبي وذلك عندما أعتقل مع عدد من الطلبة بسبب مشاركته انتفاضتهم في الديوانية ضد معاهدة بورتسموث عام 1948واصدامها مع الشرطة ، وعندما اضطرت الأخيرة الى اطلاق سراحه نتيجة الضغوطات والوساطات فقد أبى الخروج من السجن وفضل المبيت وقضاء ليل الشتاء في الزنزانة الباردة مالم يخرج رفاقه معه ، ودار الزمن وتغيرت الأحوال و آل هذا البيت الى أسرة كريمة من الديوانية هي ” آل محبوبة ” ولكن هذا الحدث لم يمر دون ان يأخذ حصة من حديث الناس لشدة شغفهم بهذا البيت فقد أخذت الألسن تلوك الاهازيج حوله وتحكي عن صروف الدهر وتقلبات الزمن وقد احتفظ لنا التاريخ : : الدنيا تلعب جقلبي والناس تلعب طوبه ……

من كال قصر الجلبي يصبح لأبن محبوبة . سوق الديوانية الكبير .. ذاكرة شاخت ” سوق الديوانية الكبير ” واحد من المعالم التراثية المهمة في المدينة ، وتكتسب أهميتها هذه لا من كونها تمثل المركز التجاري الرئيسي فحسب ، بل من موقعها المهم ، فهي الشريان الذي يمتد في جسدها من شمالها طولاً الى حيث قلبها النابض ذلك هو نهرها الجميل . وتشير بعض المعالم التي ضمها السوق الى ان وجودها يمتد الى فترة تتجاوز القرن من الزمن، حيث يمكن استدلال ذلك من طريقة تشييد الجامع الصغير ـ الذي يتوسط السوق ـ ذو الممر الطويل المفضي الى باحة كبيرة والذي اسسه الشيخ حمادي الرويلي عام 1868 حيث يوحي ذلك الى ان السوق كانت موجوداة قبل وجود الجامع ، كما ان السوق ومن جهة الشمال ضم بناية ( التوراة ) مكان العبادة للطائفة اليهودية التي كانت منتشرة قبل قرارات التهجير في مطلع خمسينيات القرن الماضي وهذه البناية ظلت قائمة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي و قبل ان تقوم سلطات النظام السابق بهدمها واقامة محال تجارية على أرضها . لقد ظل هذا الأثر ـ السوق ـ والى وقت قريب يمثل صورة مصغرة للمكونات الاجتماعية التي تمثل المدينة حيث شغلت نشاطاته التجارية وجوه بارزة من رجالاتها فمنهم من امتهن بيع الأقمشة ومن بينهم الحاج امين البياتي ، محمود جمعه ، محمد اللبان ، حمدعبد العال ، مهدي الاطرقجي ، الحاج شعلان ، محمد جمعه ، علي العميشي ، الحاج فرمان ، عبد محيل ، حاتم مغامس ، الحاج ملاغي ، علي مهاوي ، محمد حطاب اضافة الى تجار من الأقلية اليهودية ومنهم سالم حسقيل و وناجي نوري عزرا الذي كان آخر اليهود الذبن غادروا المدينة الى بغداد حيث نقل نشاطه التجاري اليها بعد منتصف الستينيات ، كما ضم السوق مختلف الانشطة التجارية التي جعلت منه ممراً ومكانا تؤمه يومياً اعداد كبيرة من ابناء المدينة فتجد فيها المكتبات وابرزها مكتبة الجمهورية لحسين مشروطة ومكتبة مطرود ومكتبة سيد هاشم المكصوصي و الخياطون الذي برز من بينهم جاسم كرزول وعيدان عباده وعبد مظلوم واحمد سلطان الذي تخصص بخياطة التجهيزات الرياضية ، وكذلك الصاغة ومن بينهم الاخوين علي ومهدي الشمري و النجارون ، الحدادون ، وفرع الصفافير وبرز في هذه المهنة آل الوحاش ومحمد علي عبد الصاحب والعطارون ومن بينهم الحاج ليو ورشيد الملا جوده وفيروز والحاج علق ، وكذلك الحمامات التركية اخذت حصة من قائمة هذا الاثر ، وحتى علاوي الفواكه والخضر وجدت لها تحت سقفها ملاذا لعرض بضاعتها ومنها علوتي جلعاوي وعباس شامة ، كما انتشرت على طوله المقاهي العديدة وتميزت من بينها مقهى ” الحاج سعيد ” الذى كان مكانا لتجمع ادباء المدينة صباحا حيث شهد هذا المقهى ولادة الكثير من الاعمال الابداعية والرؤى والافكار ودارت فيه نقاشات ادبية وكان من ابرز رواده كزار حنتوش ، زعيم الطائي ، ثامر الحاج امين ، سلام ابراهيم ، منير ياسين ، عبدالرحيم صالح الرحيم ويوسف محمد علي . كما جالت في هذا السوق باعة الأكلات الشعبية ابرزهم كاظم الحمرة الذي اشتهر بتحضير الدوندرمة وكذلك حنش سلام في طاطليه اللذيذ وجاسم ستاوي في لبنه الرائب والضرير ابو مسلم في مشروباته التي كان يقوم بتحضيرها بنفسه وكاوي في كرزاته الشهيرة وكان لكل من هؤلاء الباعة طريقة خاصة في المناداة والترويج لبضاعته . لقد ظلت السوق والى منتصف السبعينيات الذاكرة التي حفظت للمدينة جانبا واسعا من سيرتها وتاريخها ، ولكن هذه الذاكرة لم تعد تحتشد بكل هذه المعالم والشخصيات ، فقد تأثرت بعوامل التغيير التي نالت جانبا منها وجعلت من الباقي مهدداً بالزوال نتيجة الاهمال وغياب الحس بأهمية هذه المعالم وقيمتها التاريخية كثروة وطنية تمثل ماضي المدينة وارثها الثقافي الغالي . ” شعبان بيك ” تقدرون وتضحك الأقدار بعدما ضاق الأهالي في قضاء الهندية ( طويريج ) ذرعاً بصرامته وشدته في فرض الضرائب وطريقة جبايتها ، قامت الحكومة العثمانية باستبعاده ونقله الى الديوانية ليكون أول قائمقام لها ، لكنه في هذه المدينه لم يغير شيئا من سيرته المتشددة التي عُرف بها فقد سار على ذات الخطى والاسلوب في فرض الرسوم والضرائب ، بهذه السيرة تحدثت به كتب التاريخ عن شخصية القائد العثماني ” شعبان بك ” الذي جاء الى هذه المدينة عام 1857وعندما تململ الديوانيون من ادارته وأشيع بانه سيعود الى قضاء الهندية اضطرب الاهالي هناك لهذا الخبر وسارع جماعة منهم الى تتبع اخباره والظفر به في قضاء عفك حيث سطوا عليه ليلا وقتلوه وانسلوا راجعين بدون ان يشعر بهم احد وكان ذلك عام 1860 م وقد دفن في الجانب الأيمن من نهر الفرات وبنيت فوق قبره قبة وكتب على قبره الآتي : سليل كرام الناس مات فأرخوا ……. قتيل لئام الناس أصبح شعبان يذكر ان قبره ضمته أرض تبرع بها شعبان بيك اثناء حياته وجعلها وقفاً ً لتكون مقبرة للمتوفين من فقراء المدينة الذين لايتمكنون من الدفن في مقبرة النجف في ذلك الوقت ولكن “تقدرون وتضحك “الأقدار فقد كان القبر الأول والوحيد الذي ضمته هذه الأرض هو قبر شعبان بيك” الذي ظل قائما حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي وتمت ازالته بعد هذا التاريخ . ” طاق خضوري ”

شاهد على التآخي في عقود مضت عاشت مدينة الديوانية حالة فريدة من التآخي بين مختلف مكوناتها الإثنية والمذهبية ، وهناك شواهد كثيرة ظلت والى وقت قريب شاخصة وشاهدة على ذلك الزمن الهاديء الجميل الاّ ان هذه الشواهد المتمثلة بعدد من المعالم القائمة على الأرض للأسف طالها العبث والتخريب ولم يسلم منها سوى ” طاق خضوري ” ، حيث مايزال هذا الكيان شاخصاً في المركز التجاري للمدينة وشاهداً على حالة الإلفة والوئام التي سادت الحياة الاجتماعية في المدينة ا أنذاك. وهذا الطاق عبارة عن بناية قامت بطابقين على مساحة 400 م مقابل شط الديوانية تمثل تحفة معمارية ومن الصروح الآثارية في المدينة يعود بناؤها الى عشرينيات القرن الماضي حيث شيدها التاجر اليهودي العراقي ” الياهو ساسون خضوري ” وهو من كبار تجار الحبوب في الديوانية ويعد أول من أسس معملا للثلج وماكنة للطحن فيها ، ومن بين العمال الذين اسهموا في تشييدها هو الأسطة عبد الكاظم ابراهيم حمادي .وقد شهدت هذه البناية عبر سنوات طويلة احداثا عديدة من ابرزها انه بعد قرار تسفير اليهود من العراق ومنهم عائلة ” خضوري ” آلت ملكيتها الى عائلة ” آل شنين “وقد استغلت في خمسينيات القرن الماضي كمحكمة للديوانية وانتهى بها الحال الى محال تجارية بائسة ، فقد تعرضت واجهتها الى التخريب والعبث فأزيلت النقوش والزخارف من على أعمدنها وتآكلت جدرانها بفعل المياه الجوفية التي تسربت الى اسس البناية وسردابها وهي اليوم تشكو الاهمال بعدما كانت يوما عروس الفرات تتباهى بقامتها وشرفتها المطلة على نهر المدينة .