هل يمكن لحكومة فاسدة محاربة الفاسدين والمفسدين؟ من يتصور أن حكومة فاسدة ستحارب الفساد فهو كالتائه في البيداء يرى السراب وكأنه ماء قد يرويه فيركض نحوه ولا يجد غير السراب، فيموت عطشا! ويقترح طريقة لمكافحة الفساد.
سؤال عادل ومشروع يدور على بال كل إنسان في العراق: هل يمكن لسلطات دولة فاسدة كالعراق، حيث تحتل المرتبة 169 في الفساد من بين 180 دولة في العالم في العام 2017 ولم يتحسن الوضع في العام 2018 بل تفاقم، أن تحارب الفساد وتكافح الفاسدين، وتُطهر العراق من رجسهم وشرورهم وعواقب الرجس والشرور؟
وسبب عدالة ومشروعية هذا السؤال يكمن في حقيقة أن الفساد لم يعد ظواهر متفرقة يمارسها هذا الموظف الكبير، أو هذا المصرفي أو التاجر أو القاضي أو ذاك، بل أصبح الفساد المالي والإداري، ومنذ أن تم احتلال العراق في العام 2003 بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية والحاكم المستبد بأمره باول بريمر وبأوامر من إدارة جورج دبليو بوش أولاً، ومنذ أن سَلَّمت سلطة الاحتلال الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث بيد الأحزاب الإسلامية السياسية العراقية ومن تعاون معها ثانياً، نظاماً متكاملاً وفاعلاً وحاكماً في سلطات الدولة الثلاث وأجهزتها المدنية والعسكرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي المجتمع.
إن هذا الواقع الفاسد لا يعني إن النظام البعثي قبل ذاك لم يكن فاسداً، بل كان الفساد يمارس من قبل قيادة البعث الحزبية ومجلس قيادة الثورة مع حفنة من الأعوان ومن يرغب النظام مشاركتهم في الفساد، ولكنه كان يعاقب من يمارس الفساد دون علمه أو خارج إرادته. وكان العقاب يمس الغالبية العظمى من الشعب، إلا في سنوات الحصار الاقتصادي الذي أجبر الكثير من البشر على ذلك بسبب العوز.
ولكن ما حصل في العراق يختلف تماماً. فالاحتلال أفسد الحكام الجدد بالرواتب والمخصصات ووضع ميزانية الدولة بيد الفاسدين والمفسدين، ونشأت فئة اجتماعية رثة فاسدة من حيث السلوك السياسي والمالي والاجتماعي. مثل هذا الواقع الفاسد لا يعني أيضاً عدم وجود مجموعة من الأفراد تتميز بنظافة اليد والعفة، ولكن هذه المجموعة لا تشكل سوى قلة قليلة، إذ من طبيعة النظام الفاسد أن يدفع بأفراد المجتمع بكل السبل المتوفرة إلى ممارسة الفساد، إذ بذلك فقط يمكنهم مواصلة فسادهم واستمرار قهرهم للمجتمع، وإلا لما كان لأبطال هذا النظام الفاسدين مكانٌ لهم في العراق.
لا يمكن أن يعيش الفاسد طويلاً في بلد تسود فيه الحريات العامة والحياة الديمقراطية، إذ سرعان ما يُكتشف الفاسد وتنشر فضيحته ويحاكم. ولكن الفساد ينمو كالفطريات ويتعاظم عدد الفاسدين في ظل الجهل والأمية وانتشار الخرافة ودور شيوخ الدين المسلمين المزيفين منهم، أو الساكتين عن الفساد، أو الذين يعيشون على صدقات كفارة الفاسدين التي يدفعونها لغسل فسادهم، أو كما يعترف الفاسد أمام الكاهن خلف ستار في الكنيسة مثلاً.
ففي الدول المتقدمة تحصل حوادث فساد غير قليلة، ولكن سرعان ما تفضح عبر وسائل الإعلام وعبر صحفيين نزيهين لا يخشون القتل على أيدي الفاسدين الذين تم فضحهم، كما يحصل في بلد كالعراق، حيث جرى اغتيال الكثير من الناس الأوفياء لوطنهم وشعبهم بسبب فضحهم للفاسدين في مقالات أو تقارير نشرت لهم، كما حصل للمغدور الدكتور علاء المشذوب وغيره، أو كما يقال عن تسميم الدكتور أحمد الجلبي الذي قام بنشر تقارير عن فساد هائل لمئات المليارات حصلت في فترة حكم المستبد بأمره نوري المالكي على سبيل المثال لا الحصر، رغم أن الرجل كان جزءاً من النظام السياسي الطائفي القائم.
{لا يمكن أن يعيش الفاسد طويلاً في بلد تسود فيه الحريات العامة والحياة الديمقراطية، إذ سرعان ما يُكتشف الفاسد وتنشر فضيحته ويُحاكم.}
{الواقع الفاسد في العراق لا يعني إن النظام البعثي السابق لم يكن فاسدا، لكنه أيضاً لا يعني عدم وجود مجموعة من الأفراد تتميز بنظافة اليد والعفة.}
لقد ادعى وتعهد حيدر العبادي على مكافحة الفساد، ثم صرح بأن مكافحة الفساد أخطر من محاربة الإرهاب، وجَبُنَ أمام الفاسدين من قادة حزبه والأحزاب الإسلامية الأخرى أو من المشاركين معه في الحكم. وحين جاء نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء عام 2006 ادعى بصوت عال إنه مصمم على محاربة الفساد والإرهاب. ولكن كلتا الظاهرتين انتعشتا في فترة حكمه وبجهوده الخاصة في رعاية الفاسدين وحمايتهم وأصبحتا سائدتين وتحول الفساد إلى نظام فاسد بالكامل واشتمل على مئات المليارات من الدولارات الأمريكية.
ثم أعلن المالكي قبل تنحيته عن الحكم ما يلي: “بحوزتي ملفات سأضعها بيد القضاء للثماني سنوات التي كنت فيها رئيساً للوزراء وسأعلنها أمام المحاكم وأجرُّ مرتكبيها من سادة ومشايخ وأبناء مراجع ومسؤولين شيعة وسنة إلى المحاكم ليأخذوا جزائهم العادل”. وتعهد أمام الحضور: “أنا ابن الشهيد الأول الشهيد الصدر لا أخاف والله معي والأدلة معي بإذن الله تعالى”. (راجع: المالكي يهدد بكشف ملفات فساد ثمانية أعوام لمسؤولين كبار وابناء مراجع، سومرنيوز، 20 أغسطس / آب 2015″.
ولكن ماذا حصل؟ اختفت ملفات الفساد، فلو كان قد أعلن عنها لصدر الحكم عليه بالفساد وحماية الفاسدين طيلة سنوات حكمه. لم يعلن عنها ولم يخشَ الله بل خشي من الفاسدين من أمثاله، وبالتالي وفي كل الأحوال فالساكت عن الفساد والفاسدين فاسدٌ ومشاركٌ في جرائم الفساد التي احتوتها تلك الملفات التي لم يعلن عنها والتي عانى ولا يزال شعب العراق يعاني منها حتى الآن.
لعبت المليشيات الطائفية المسلحة التابعة للأحزاب الإسلامية السياسية دون استثناء دوراً كبيراً في نشر الفساد والإرهاب في العراق بممارساتها اليومية في ابتزاز الجماهير الواسعة وفي اختطاف الناس وفرض دفع فدية بآلاف الدولارات الأمريكية، وفي تعذيب معتقليهم وقتلهم أو نقلهم إلى إيران. وغالباً ما كانت عائلة الضحايا تدفع الفدية، ولكن الكثير من الضحايا قُتِلوا تحت التعذيب.
الفساد لم يشمل خزينة الدولة وأموال الشعب فحسب، بل تفاقم ليشمل أعضاء في جسم الإنسان، ولاسيما أعضاء أبناء وبنات العائلات الفقيرة والمعوزة، وأعضاء الأطفال والصبيان والصبايا المشردين، وهي جريمة بشعة ترتكب باستمرار بحق أبناء وبنات العراق.
والفساد يبرز أيضاً في العراق في عبور مئات الأطنان من المخدرات عبر النقاط الحدودية بين إيران والعراق، سواء تلك القادمة من إيران أو عبرها من أفغانستان، وعبر مافيا منظمة تنظيماً جيدا ومرتبطة بمافيات إقليمية ودولية في هذا المجال وبشخصيات نافذة في الحكم، منها ما يبقى في العراق، ومنها ما يمرر إلى دول الخليج أو إلى سوريا فلبنان أو عبر الأردن …إلخ.
الفساد ضارب أطنابه في العقود التجارية ولاسيما تجارة السلاح، وأيضاً في مجال العقار ودور سكن عناصر حزب البعث والحكم البعثي والكثير من الدور الحكومية الأخرى التي استولى عليها حكام العراق الجدد دون وجه حق بعد سقوط دكتاتورية البعث وبدعم من إدارة الاحتلال لرشوتهم وإخضاعهم لإرادتها وقراراتها.
ويمكن لكل عراقي أن يتابع مثل هذه القضايا في حي الخضراء وفي الكرادة الشرقية والجادرية وغيرها في بغداد أو في المدن العراقية الأخرى، وصحف العراق والصحف العالمية والكثير من المواقع مليئة بأخبار صادقة وصحيحة عن هذه السرقات والاستيلاءات المكشوفة. مثل هذه القوى المهيمنة على حكم العراق والمتهمة بالفساد والكثير من الموبقات، لا يمكنها بأي حال محاربة الفساد والقضاء على الموبقات، فهي بذلك تحارب نفسها.
{في الدول المتقدمة تحصل حوادث فساد غير قليلة، ولكن سرعان ما تفضح عبر وسائل الإعلام وعبر صحفيين نزيهين لا يخشون القتل على أيدي الفاسدين الذين تم فضحهم}.
أدرك العراقيون والعراقيات إن من يشكل لجاناً للتحقيق يريد قتل التحقيق وإفشال اكتشاف الجريمة ومن قام بها، بعد أن عاشوا تشكيل مئات اللجان للكشف عن جرائم القتل أو الاختطاف أو الفساد، ولم تكتشف أي حالة حتى الآن. وما اكتشف عبر هروب هذا الوزير أو ذاك الموظف -كما حصل مع السوداني- فإنه سرعان ما يعفى عنه لأنه سكت عن الفاسدين معه ولم يكشف عنهم.
بدأ عادل عبد المهدي بتشكيل مجلس ولديه الكثير من اللجان، وفي مقدمتها هيئة النزاهة، ولكنه يريد أن يشغل الناس بها ويضع على رأسها من نفس القوى الفاسدة، فكيف يمكن محاربة الفساد في مثل هذه الحالة.
لا يمكن محاربة الفساد في العراق إلا من خلال انتفاضة سلمية للشعب ضد الفساد، ضد الحكام الحاليين، القيام بعصيان مدني، إذ بدون ذلك ستتولى المليشيات الطائفية المسلحة وقواها في الحشد الشعبي على حماية النظام الطائفي الفاسد القائم والدفاع عن الفساد والفاسدين.
إن التصور بأن عادل عبد المهدي سيحارب الفساد، كمن يعيش سراباً، كالتائه في البيداء يرى السراب وكأنه ماءٌ يمكن أن يرويه فيركض نحوه ولن يجد غير السراب، فيموت عطشا!!! أيها الناس لقد اتسع الخرق على الراتق، لاسيما وأن “الراتق المنقذ!” قد ساهم في الخرق وتوسيعه.