كلنا يعي معنى الواقع والتنظير من حيث السياسة، وأبسط ما نجمع به أُسس هذين المفهومين، بأن الواقع مكبح التنظير..! إذا ما غاب عن الأخير دراسة ميدانية و مستقبلية للواقع، اليوم ومن خلال الدراسة المقدمة في سياسة الدولة في العراق، نجد إن التعامل على أساس الواقع، قوض نسب تفعيل دور التنظير، و عمق وجود شيء هجين في رحم التجربة السياسية الجديدة، إسمه “الفساد” وجد بيئته وضالته بين نص القانون وروح القانون ..!
من أغرب ما سجل على الواقع الحكومي في العراق، تارة تجد القانون يتدخل في حماية المفسد من حيث الحصانة، وتارة يذهب المفسد بنفسه ليركب طاولة التقنن بالقانون..! وعلى هذا الأساس فقدنا المصداقية في بعض مباني الدستور، الأمر الذي يدعونا الى التأمل هنا ملياً، هل نحن نتعامل بنص القانون وفرضه..؟ أم بروح القانون ومرونته..؟ وهل الجميع سواسية بالنص أم بالروح..؟.
إذا ما إتفقنا بأننا نعيش مرحلتين وتجربتين سياسية، يفصل بينهما عام (2003) م، لا أريد أن أشخص دور الملائكية والشيطانية، لما بعد التجربة السياسية الجديدة وما قبلها، ولكن أستطيع أن أقول بأن ما نعيشه ونعاني منه ليس وليد الصدفة، ولا قراءة نزلت على جبل الواقع، وبنفس الوقت لم تأتي المرحلة الجديدة لوأد الفساد والقضاء عليه، مع الجزم بأنها كانت قادرة على ذلك، بل وعلى العكس من كل هذا، هي من عمقت الشعور بالفساد ونبذ روح المواطنة، لدى بعض المتصدرين دفة الحكم في الدولة…!
مع الجزم بتغير الواقع السياسي في العراق ما بعد عام 2003، على الصعيد السياسي، ولكن لم يتغير واقع الشعب..؟ وكذلك لم نأتي بجيل ملائكي للحكم، ولم نستبدل شعبنا بجماهير ومجتمعات بعيدة عن الواقع المرير، أطلال وبقايا السياسة والنظام البعثي لازال عالقا بأذهان وأفكار الكثير، والى اللحظة مع شديد الأسف..! فكيف هنا نستطيع ان نمكن السياسة الناجحة في مجتمع لم يعتد عليها..؟.
الشعب الذي بات ناقما من ما يفعله البعثيين، بين ليلة وضحاها تحول الى سارق ينهب ويسرق المحلات والدوائر الحكومية والتجارية..! ومن بعدها تحول الى متوحش يحمل السلاح بين الازقة والشوارع، خلف متسلط متسيد برقاب البسطاء، ومن ثم فتحت لهم بعدها أبواب السياسة ليدخول الحكومة مصلحين للفساد الذي أوجده واقعهم مسبقا..! فالذي لم يحققه في زمن البعث، لعله سيجده في من ركب ركابهم في التجربة السياسية الجديدة..!
من بعد ما تقدم من كلام على واقع التجربة العراقية، نستطيع أن نشخص مكامن الفساد، ليأتي دور تشخيص العلاج، على فرض قاعدة التي تقول” تشخيص المرض نصف العلاج”، ونستطيع هنا أن نحدد: واقع النظام البعثي الحاكم سابقا، والذي يعتبر ماكنة ومصدر فايروس الفساد في التجربة العراقية، ومن ثم: المجتمع المتأثر به..! والذي نستطيع أن نقول بأنه الحاضنة أو البيئة، التي ساعدت على نقل الفايروس للتجربة الجديدة، وأخيراً: الحكومة الجديدة والتي باتت تستورد رجالها من رحم الفقرتين (1-2).
جُل ما تكلمت به لم أقصد واقع الفضاء السياسي الواسع، كون تحديات الواقع تفرض علينا المكونات الأخرى، والتي تتقاطع ما أُملي به هذا المقال، وكلامي هنا عن وسط سياسي تمكنه الأغلبية من تحقيق ما يؤمن به، شرط أن يعترف ويشخص تلك الامور الثلاثة، ويبدأ بمعالجتها، ولكن للعلاج شجون…! قد تنتهي حال ما تنفض عباءة الأحزاب والكتل والتيارات المعنية، كل مفسد من بين طياتها، وتعمل على إستقدام المصلحة الوطنية والمواطنة، لكبح المصالح الشخصية والفئوية والتيارية.