كان الوداع مع الحبيبة بغداد في يوم الجمعة المصادف 28 /12/1990 ،حيث الألتحاق بعد آخر إجازة دورية بجبهة الصمود والتصدي المزيّفة أمام جيوش تحالف 30 دولة بقيادة أمريكا لتحرير الفرع ( الكويت ) من الأصل ( العراق ) بعد غزوها بهمجية من قبل القائد الضرورة صدام واذاعة بيان اعلانها المحافظة العراقية التاسعة عشر !!! . ( لقد خسف الله الأرض بقارون الكويت ) …. تلك كانت مقدمة البيان الذي زلزل الأرض في 2/8 / 1990 حينما كنت مجازاً في البيت محتضناً كتاب تسريحي من الجيش !!!! ثم تلاه بيان دعوة كافة الضباط المجندين والأحتياط للألتحاق فوراً فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وشتمت النظام وصدام بأعلى صوتي !! فما علاقتي بالجيش وأنا مدرس ثانوية ؟؟ رنّ جرس البيت حينها ، فتح والدي الباب واذا به جارنا حياوي ( أبو صباح) يطلب من والدي أن أخفض صوتي خوفاً عليّ من المنافقين في المنطقة !!!جلست قليلاً وعادت بي الذاكرة الى 1986 حينما صدر قرار بتسريح كافة الضباط المجندين والأحتياط والجنود من المدرسين والمعلمين وأكملت حينها معاملة التسريح وما بقي الا اعلان ذلك في الجريدة الرسمية وكنت حينها آمر سرية في لواء الأهوار في قاطع العمارة فذهبت حينها الى الصديق العقيد جبار أبو فرح ( مدير تجنيد العمارة ) في مكتبه وقلت : بشّرني أبو فرح هل صدر القرار ؟ فأعطاني جريدة الثورة المشؤومة…. قرأت القرار وكانت أول فقرة فيه (( أ- لايشمل الضباط المجندين والأحتياط )) فعدتُ الى الجبهة غاضباً فأخبروني بإنتحار النقيب المجند صادق( من سكنة محافظة البصرة ) حال علمه بالخبر فزاد غضبي على صدام وغروره . المهم التحقت بجبهة أم المعارك وكنت حينها ملازم أول مجند( مساعد آمر وحدة الميدان الطبية /16 ) وكنت بأنتظار الترقية الى نقيب في 6/1/1991 ، تم تكليفي بقيادة سرية انذار مبكر للفرقة تابعة للفوج الثالث لواء 109 وفعلاً استلمت قاطع مسؤوليتي على الحدود العراقية السعودية قرب منطقة حفر الباطن أمام ( مخفر عليمه السعودي ) الذي كان قلعة مضيئة ليل نهار في الصحراء حيث مولدات الكهرباء التي لا تنقطع ولا لحظة واحدة ،بينما كان مخفرنا العراقي الفقير الذي شغلناه عبارة عن هيكل كرفان فقط فارغ عدد 2 !!! كان مخفر عليمة السعودي يبعد عنا 400 متر تقريباً ، المهم بدأنا وكالمعتاد بحفر الخنادق الشقية في القاطع لغرض الأختفاء من رصد العدو فظهرت المئات من الحشرات كالخنفساء السوداء والحشرات الزاحفة والطائرة فقلت : ظَلمْنا وحلّ غضب الله علينا ، وبعد انجازنا للعمل زارنا كل من قائد الفرقة العميد الركن محمود و آمر لواء 109 المقدم الركن جلال علي حسون وآمر فوجنا الثالث الرائد أحمد عبد الله خلف ودار الحديث حول الحرب المرتقبة فقال قائد الفرقة : اطمئن كامل لن تحدث أية حرب هذه مجرد حرب باردة اعلامية فقط …. ثم طلب مني سجادة الصلاة ليصلي وكان في منتهى الأدب وقمة الأخلاق ، شربنا الشاي سوية وقبل مغادرته قال : هل تحتاج أي شيء ؟؟ قلت : نعم سيدي أحتاج خشب وصفيح لتغطية الخنادق الشقية والملاجيء لغرض الغش والأختفاء …. قال : ثق بالله حصة الفرقة من القيادة 18 صفيحة ( جينكو ) فقط وعندي 3 ألوية اضافة الى المدفعية والدبابات ولا أعرف لمن أعطيها !!!!!! قلت : وماذا عن مشكلة الأتصالات السلكية واللاسلكية فهي لاتعمل !!!! قال هذه مشكلة الجيش كله لأن أمريكا عملت تشويش وعطّلت كل شيء !!!!! ثم قال آمر اللواء : بالنسبة لصفيح الجينكو سأرسل لك سيارة حمل ايفا تاخذها وتعمل جولة في الصحراء على مكانات البدو الرحل المتروكة لأنهم يتركون أحياناً براميل فارغة بعد رحيلهم فأجلبها وأفتح البراميل واعملها كصفيح وغطي بها الخنادق بشكل مؤقت !!!!!. ، ثم أتمها آمر الفوج بقوله : ملازم أول كامل بالنسبة للأتصالات حاولوا دفن الوايرات ( الأسلاك ) بالأرض 15 سم حتى لا يؤثر التشويش عليها !!! فقلت لنفسي : اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب !!! فكيف أدفن سلكا يمتد لأربعة كيلومترات في الصحراء وكم من الجهد والوقت أحتاج ؟؟!!! ، ثم قال قائد الفرقة سنذهب كلنا للخلف لنرمي لك بالمدفعية كإسناد لسريتك فأعلمنا بسقوط القذائف … قلت نعم سيدي … فغادروا ، ثم رجعت الى نفسي وضحكت وسألت نفسي : وكيف سأعلمهم وقد أخبرتهم بعطل الأتصالات السلكية واللاسلكية ؟؟ وبعد قليل بدأت بمراقبة جبهة سريتي وأجنحتها فلم أرى أية قذيفة ولم أستطع الأتصال بهم لأعلمهم !!! وبعد فترة عادوا لي ليعلموني أن كل المدافع مستهلكة وأن أقصى مدى لها هو سقوط القذائف خلف سريتي بمسافة 2 كم تقريباً !!! فكّرت وسألت النفس : وكيف سنواجه أحدث الجيوش بجيش هرم لايقدر على شيء ؟؟ ثم لاحظت وكان بقربي رعيل دبابات ساند لسريتي يتم تشغيل دباباته الثلاثة ببطارية واحدة (( چطل ))!!! . حينها أيقنت أن جيش صدام سيكون هباءاً منثورا . ومرّت الأيام ونحن نترقب الجبهة ونسمع أحياناً أخبار اذاعة صوت أمريكا ومونتكارلو ولندن وتصريحات الرئيس الأمريكي بوش الأب بأن ( القضية عربية وعلى العرب حلها بأنفسهم ولا شأن لنا بهم ) لكن تغيّر موقفه بعد لقاءه بأمير الكويت جابر المتواجد في السعودية آنذاك وتوقيعه اتفاقية دفاع مدفوعة الثمن !!!!، بينما أنشغل قسم التوجيه السياسي في جيش صدام بالأكاذيب والضحك على الجيش وذلك بنشره رسالة وتعميمها على الجبهة ومضمونها يقول :ذُكر في كتاب الملاحم والفتن ( أن جيوش العالم تتحالف ضد جيش قائد يتكون اسمه من أربعة حروف فينتصر عليهم ويهزمهم شر هزيمة ويجعلهم كعصف مأكول ) !!! وصلنا الكتاب وضحكت وقلت هل يُعقل هذا في عصرنا الحديث ؟؟ وفي أحد الأيام كنت أراقب الجبهة مع رئيس عرفاء السرية العريف رحيم كاظم راضي مشياً عالأقدام واذا بأفعى الصحراء تعترض طريقنا وقفنا ، فدفنت نفسها في الرمل بحركة بهلوانية وأخرجت رأسها فقط !!! تركناها وتابعنا السير بقرب الحدود واذا بعناصر حرس الحدود السعودي ينادونا : ( يا الأخو عندنا أكل خير من الله وعندنا سكاير وفواكه ومعلبات لو تبغون خير الله چثير ) فقلت لهم : شكراً لكم وكثّر الله خيركم ، بينما كنا في أمس الحاجة للطعام فطعامنا كان عبارة عن صمون ( خبز ) مكورة سوداء تحتوي على عيدان سنبل الشعير وحب الذرة ونوى التمر غير مطحون بصورة جيدة ولا يُكسر باليد المجردة بل بنقعها بمرق البصل الأبيض !!! ، كنت أقضي الوقت بالحديث مع بعض الجنود والنقاش بآيات القرآن مع أحد جنودي من سكنة البصرة اسمه ( طعمة ) اضافة الى التسلية بلعبة الطاولي ، وذات عصر يوم كنت أتسلى بلعبة الطاولي مع رئيس عرفاء السرية واذا بالجندي الحرس يخبرني بأن موكبا من عدة سيارات متجه نحونا !!!!! لبست الحذاء ( البوت ) ووضعت الخوذة على الرأس وأنتظرت فوصل الموكب وكان يتكون من أرقى وأحدث السيارات الكويتية المسروقة ، فُتحت أبواب السيارات وأنتشر جنود حماية الموكب في كل مكان ، تقدّمت لأول سيارة وكان فيها عميد ركن فأشار لي الى السيارة التي تليه فتقدمت منها ورأيت فيها لواء ركن فأشار هو الآخر للسيارة التي تليه وتقدمت منها وظننت أن فيها الرئيس صدام حسين .
(( يتبع ))
[email protected]