إذا كان عدد الصحافيين الأميركيين قد انخفض بنسبة 60 في المائة منذ عام 1990 أثر الأزمة الوجودية التي تعاني منها وسائل الإعلام، وفي دولة ديمقراطية فضل فيها الرجال الأقوياء الذين كتبوا دستورها، دولة من دون حكومة على دولة من دون صحافة، فإن ذلك التراجع المخيف في عدد الصحافيين الأميركان يتحول إلى معادلة في غاية الشذوذ عندما يتعلق الأمر بالعراق!
لقد أزداد باطراد عدد “الصحافيين” في العراق منذ عام 2003، وهو خبر لا ينم عن تعافي الصحافة في هذا البلد الذي يعاني من أزمة معايير، بقدر ما يمثل صورة مخيفة عن الانهيار، عندما تصبح الصحافة أسهل المهن في بلد يتم فيه فتح قناة فضائية أو صحيفة إلكترونية، كدكان بقالة لا يحتاج أكثر من رأس مال. أما الحديث عن معايير الدرس الأول للصحفي فذلك لا أهمية له بتاتا، فما بالك بالدروس الأكثر أهمية!
كذلك ساد “سوء التربية الإعلامية” واتخذ “المقدم التلفزيوني” من مشاهير التدوين على مواقع التواصل مثالا لإنتاج الهراء. بدلا من أن يرتدي ربطة عنقه احتراما لصناعة الأفكار وقواعد اللغة!
فقد مثلَ حديث “مراسلة” قناة فضائية عراقية من داخل معرض بغداد للكتاب في الأيام الماضية، ما يمكن أن يُعبّر عن الحثالة التي تلصق بالصحافة العراقية عندما تفاخرت بجهلها وأميّتها، وتحدثت على الهواء مباشرة عما يريده المشاهد والقناة منها! فهي ليست شاعرة ولا فيلسوفة!
لا تكمن الضحالة عند هذه “المرسلة” وحدها، بل زاد مقدما البرنامج نفسه في استوديو البث من مشهد الابتذال التلفزيوني، عندما تبادلا معها الضحكات والتهكم والسخرية من وعي المشاهد، وأرشداها إلى الطريقة التي تتجول فيها بالمعرض وتحاور الناشرين والزوار!
ليست هذه “الفتاة” مثالا شاذا في واقع وسائل الإعلام الحالية في العراق التي لا تبالي بالغثيان الذي تسببه للجمهور، بل تكاد تكون سائدة عندما يتم اختيار مقدمي البرامج والمحاورين في القنوات العراقية وفقا لـ “الشكل” كميزة أساسية، أما ما يتعلق بالمعرفة فذلك أمر لا أهمية له.
عادة ما تتم إدانة الصحافة بعدم الإخلاص لجوهرها بقصص تاريخية معزولة وغير عادلة، كي يسوغ لمن يريدها أن تكون بلا ضوابط لتتنازل بعدها عن حساسيتها. ويتم تجاهل ضغوط السلطة على الصحافة لكسرها أو على الأقل دفعها إلى الانحناء وتقديم فروض الولاء، بينما أوجدت الرثاثة السياسية القائمة في العراق معادلا إعلاميا مبتذلا لها متمثلا بتلك النماذج التي مثلتها “مراسلة” تلك القناة في معرض بغداد للكتاب.
فتلك النماذج الهزيلة تمثل أفضل الطرق وأسهلها للسلطات الحكومية في كسر الصحافة العراقية، عندما تفقدها الجودة الأخلاقية وتترك إدارتها لمجموعة من المهرجين يفتقدون إلى الكياسة والذكاء وصناعة الأفكار وبلا حماسة البحث عن الإجابات الأكثر طلبا من قبل المجتمع العراقي.
وهو ما فعلته أيضا تلك السلطات بسياسة الترهيب وسن “قوانين” يصفها المخلصون لجوهر الصحافة بحماية البرلمانيين ورجال الطوائف وزعماء الميليشيات والأحزاب من عواقب الغباء الخاصة بهم.
لذلك من المهم بالنسبة للصحافيين العراقيين وهم يخوضون معركة وجودية مع الطبقة الأولغارشية ولصوص الدولة، ومعركة أخرى موازية مع المهرجين وحثالة قطاع طرق القنوات الفضائية، أن يكونوا قادرين على تحديد وإعلان قيمهم وأهدافهم واستقلاليتهم. لتفنيد الصورة السائدة عن كون الصحافي العراقي مجرد أداة وتابع لرجال الطوائف والميليشيات وتجار السياسة الأغنياء الذين يديرون وسائل الإعلام من وراء الكواليس.
أما عندما يدير الصحافي ظهره للأفكار المبتكرة، والخضوع لسيطرة العقل القبوري الحاكم، وترك مواهبه مُلكْ الآخر، فإنه سيجعل من الصحافة مقبرة لنفسه، كما فعلت “مراسلة” تلك القناة العراقية التي كانت أشبه بدمية تقفز عندما يحرك الممولون الخيوط.