18 ديسمبر، 2024 8:13 م

معادلة الرزق الحلال

معادلة الرزق الحلال

يتيه كثير من الناس في دهاليز السعي وراء تحصيل الرزق او كسب المال ، ومنهم -بطبيعة الحال- من لايهمه إن كان ماله حراما او حلالا وهؤلاء مجموعة الملحدين واللادينيين وامثالهم ، ويلتحق بهم الدينيون والمؤمنون ومنهم المسلمون ، من الذين لايعني لهم الدين او الإسلام إلا انتماء عقديا في احسن الاحوال على ان يجوفه من أحكام معاملاته وعباداته ، او يعني لهم انتماء هوية موروثة في أسوأ الاحوال دونما نظر الى نظُمه وجوهره وفحواه سواء عقديا او عمليا، وهذا الصنف الأخير يعنينا بمقالنا هذا ومعه الصنف الاكثر انتشارا على خارطة المسلمين -بفضل الله – وهم المهتمون بمسائل الحلال والحرام في كسب عيشهم أو جني الاموال ،
يتارجح الإنسان أن قلّت مخافته من الله الرقيب الديان وغابت عنه رقابة القانون الوضعي بين ان يستغل فرصة الكسب المشبوه او الحرام -إن واتته- ام لا ، وقائده في ذلك هو الحاجة الى تحسين المعيشة وضمان مستقبل الاولاد ، وهذا يراود كثيرا طبقة موظفي المصالح الحكومية-المرتشين- او الأعمال الأهلية -الغشاشين- وكذلك الفرص السانحة للسرقة البواح تحت غياب سلطة القانون او استغفاله بالتخطيط المسبق ،
وإذ ثبت بطلان ماشاع بين الناس انه حديث نبوي او قول ماثور “ماجمع مال الا من بخل او حرام” ، فان الغنى لايتعارض مع النزاهة والتقى وقد راينا اغنياء اتقياء وذُكر لنا ممن كانوا قبلنا مثل ذلك ، بل وكان من الصحابة خير القرون امثال هؤلاء ، ولكن الذي اريد ان اقعّده هنا استنادا الى الاحاديث الشريفة هو : هل من الذكاء الدنيوي استغلال الفرصة “الحرام” إن واتت والمغامرة بضياع الآخرة وحسابها العسير ، وهل ان المتّقي الذي لايستغل ذلك خسران وقد حكم على نفسه ان يعيش فقيرا مستأثرا بالآخرة على الدنيا ام ان فعله أكثر منطقا في الدنيا والآخرة؟ هذه هي المعادلة التي اريد التوقف عندها والتنبيه اليها وحسم الجدل والتردد فيها ،
الحقيقة ان هذا الأمر يحسمه ببساطة حديثان صحيحان عن النبي عليه الصلاة والسلام يكمل احدهما الآخر او يوازنان الشان الدنيوي والاخروي للانسان المتحوط ؛ الأول يدعو الى السعي دون كلل وينبذ التكاسل في طلب الرزق لكنه يربطه بالتوكل ، “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً” فان الطير غير المكلف بالعمل يجدّ الى رزقه ايضا فيغدو جائعا لصيق البطن ويعود شبعانا ملآنها ، فالمستفاد من هذا هو وجوب الحركة والسعي لطلب الرزق الحلال ، فالرزق بعد ذلك على الله بيده الخير يرزق ﴿من يشاء بغير حساب﴾.
والثاني انك تتجنب الحرام والمشبوه في طريقك هذه التي اتخذتها سبيلا للرزق ، ويقينك القائد في هذا انك لن تكسب اكثر مما قسم لك ولا اقل منه مهما فعلت او تحايلت او وطئت الحرام فلو “ان الرزق بالحيلة لما رزق الأحمق” من كلام الامام علي ، فلو ان شيطانا وسوس لك او نفسك اغرتك بتحسين المعيشة ومستقبل الاولاد فانهرها اولا بحديث “كل لحم نبت من حرام فمصيره الى النار” وانت لا تحب ذلك لأولادك ان رضيته لنفسك ، وان عيش الدنيا قصير ، والاهم من ذلك وأجدى هو ان تؤمن انك ان تصاغرت امام هذه الفرصة الحرام وتناولتها فلن تغير من واقعك المكتوب شيئا ، اذ لو كان قد كتب لك الغنى بقدر ماتسنى امامك من مال حرام فانك ستناله حتى وان عففت وكففت يدك عنه الآن فانه سياتيك تماما كما هو ولكن “بالحلال”! ، وهنا تكمن الغرابة والانتباه ، فان قلت ولكن كثيرون عفّوا عن مال حرام ولم يغتنوا بمثله حلالا بعد ذلك ،وانا اقول لك ان كثيرين آخرين استغلوا الفرصة واخذوه فما اغناهم بل سرعان ما تلاشى وذهب وها هم مرة اخرى بيننا فقراء ، ولم يزيدوا انفسهم الا ذنبا ،
اما لو صبرت وعففت وكان من نصيبك ان تغتني فصدقني انك ستغتني عاجلا بالقدر نفسه ولكن بالحلال ، ومصداق ذلك هو الحديث الشريف الثاني “إنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإن أبطأَ عنْها فاتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ” الحديث واضح في كل الفاظه التي روي بها ، فالانسان لن يموت الا وقد استوفى -اخذ ونال- كل ماكتب له من رزق في هذه الدنيا بالكيفية نفسها والقدر نفسه ، ان كان قصرا بناه او مركبا جناه ، فالعاقل اذن من اتقى الله واجمل في الطلب ، اي تأنّى وتحرى وكف يده عن الحرام ، عندها سياتيه ماقسم له وماتمناه لنفسه -إن كان مكتوبا- ولكن بالحلال ،
واذ اني لا استشهد عادة -في شان الدين- بمواقف لي وانا عن التدين الحقيقي بعيد ، ولكن لاني لا اعلم قصة او حادثة عن احد -في مثل ذلك – أصدق الي و اوثق مما مر بي ، فساروي ماحصل لا لزيادة اليقين في هذا فلربما ارادها الله لغبر ذلك ولكن لاندهاشي مما وقع ،
فعند سقوط نظام الحكم في العراق على يد امريكا -وحكومات دويلات الخليج مع مصر وبعض العرب والعراقيين – نُهبت المصارف من بين مانهب آنذاك في خضم الفوضى العارمة “الخلاقة” كما يسميها الغرب! ، وكنت ممن اثّرت فيه سنوات الحصار السابقة كمدرّس براتب شهري قدره 20 دولارا او اقل ، بواقع 3 الاف دينار عراقي -مطبوع محليا آنذاك- ، بعد ان توفّرت لسنوات على مال طيب وحال ميسور سبق ان خسرته كله قبل التغيير ،
وكان لي صديق -زميل جامعي- كنت اواصله واعاونه ماديا ايام الرخاء فذكرني واراد ان يرد لي الجميل ، قدم الى مكتبي بعد ايام قليلة من سقوط بغداد وعرض الآتي : “لدي اخت تعمل موظفة في المصرف الفلاني الفرع الفلاني وقد علمَت ان البنك يحتوي ملايين الدولارات وسقط النظام قبل نقلها الى المركزي او مكان آخر ، وهناك خطة الان يقوم بها بعض رجال المحلة المجاورة لاقتحام المصرف وكسره ونهبه وتقاسم تلك الاموال وسننفذ ذلك قريبا ، فتاتي معي حبا بك وتشارك -رمزيا- ليكون لك نصيب كبير” ، قلت دون تردد – وكنت قد خسرت اموالا مشبوهة مسبقا- لا طبعا لن اشارك واشكر لك المبادرة ، ولم انصحه او اتذاكى عليه لعلمي بحاله وبمعتقده الذي يجيز ذلك ، حاول معي ولم يفلح فابتسم لي وذهب ، بعد ايام عاود الزيارة ولكنه يحمل معه هذه المرة مبلغ 10 الاف دولار جديدة ، قال : هذه هدية مني لك عسى ان اوفي مواقفك معي ايام الحصار فرفضت رفضا قاطعا اغضبه مني فذهب مع ماله منزعجا ولم نتواصل بعدها الا قليلا الى يوم الناس هذا ،
العبرة من الحادثة انه وبعد ايام من ذلك وفي عز ازمتي المالية وحالي السيء عرض علي صديق تاجر ان يستغل مكان مكتبي -الفاشل- في بغداد وان نعمل في استيراد السيارات الاوربية المستعملة التي راجت كثيرا اول الاحتلال بعد سنوات طويلة من الحصار المر ، فتداعت الناس عليها ، وعملت معه بآلية لاداعي لتفصيلها وبعمولة محسوبة حتى جنيت بعد شهور قليلة مبلغا يقارب ال 10 الاف دولار “وبالحلال” ، واشتريت منه سيارة حديثة وغيرت مكاني و و ، وكان قد انتهى عملنا في تلك التجارة عند ذاك الحد ، ولكني رزقت بعده اكثر منه من عملي في التدريس طيلة ما تلاه من السنوات بفضل الله ومنته ،
ولكني اذكر دائما ان مبلغا كبيرا وصلني الى باب داري -في الحرام – فلما مسكت عنه ، وغدوت الى رزقي متوكلا على الله رزقني الله مثله تماما وبالحلال ، فإذن “الا تروا الى الطير تغدو خماصا وتعود بطانا” و” لايموت ابن آدم الا وقد استنفذ رزقه ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ” او كما قال عليه افضل الصلاة واتم السلام .