لم يكن الشعر زينة يتقلدها العربي لتجمل صورته ، ولا إضافة كمالية يجمل بها وجوده، كما يمكنه إضافتها، يمكنه حذفها والعيش بدونها.يقول د. عبده بدوي )): إذا كان الشعر في العالم القديم يعتبر جانباً من جوانب الثقافة أو ملحقاً بها، فإن الملاحظ أن الشعر العربي وبخاصة في الفترات الأولى من الحضارة، كان في الصميم من الحضارة العربية، فنحن إذا نحينا الشعر جانباً، لا نكاد نجد في أيدينا وفي عقولنا شيئاً ذا بال، لأن حضارتنا العربية القديمة وضعت في الشعر أكثر مقوماتها وأعمقها )) ، ولأننا حينما نقول إن الشعر شيء إضافي كمالي زائد، علينا أن نتخيل طبيعة حياة الإنسان العربي ومعاناته وضرورات وجوده. ولم يكن هيغل مخطئاً حينما قال: (( أن العرب دللوا من البداية ودفعة واحدة على أنهم شعب ذو طبيعة شعرية رفيعة)) ، فحياة العربي كلها مجموعة من الصور الشعرية المتتالية ابتداءً من اجتماعه مع قبيلته في أفراحهم وأحزانهم، إلى رحلته وحيداً منفرداً في صحراء واسعة، وما بين ذلك من عمل وجد، ولهو ولعب. بل إن عقليته عقلية شعرية وطريقة تفكيره. ولغته هي (( اللغة الشاعرة )) على حد تعبير عباس محمود العقاد . وإلا فأي تفصيل من تفاصيل حياة العربي لم يدخل فيه الشعر! حياته الجادة أم حياته السرية أم حياته اللاهية!!
ولا يهم بعد ذلك ما نجده هنا وهناك، من مواقف سلبية إزاء الشعر، ابتداءً من التفسيرات التجزيئية لقوله تعالى: (( والشعراء يتبعهم الغاوون ))، أو لما ورد على لسان رسول الله (ص): (( لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً )) بما دفع بعض الباحثين ليجمع هذه العبارات وأمثالها ليقول لنا: أنه كان هناك من يهتم للشعر وينظر له نظرة الإكبار والإجلال، ولكن كان هناك أيضاً من ينظر له نظرة التزهيد فيه، وعده من سقط المتاع. والأمر بلا شك عندنا ليس كذلك، فالعبرة في ما هو موجود، وليس في طبيعة نظرتنا إليه، وكيف ما نظرنا إلى الشعر فإنه تراثنا الكبير، الذي فرض نفسه على معارفنا وثقافتنا من عصور قديمة. كما أن المسألة ليست بما يقال وإلا فإن الأقوال التي تعلي شأن الشعر أكثر وأوفر من الأقوال المقابلة.
ولقد عبر الإنسان العربي عن نفسه وعن مجتمعه بالشعر في كل التفاصيل، بل إنه ثبت أغراضه الشعرية وفقاً لهذه التفاصيل. حيث حماسته وفخره ومديحه ورثاؤه وهجاؤه تعبير مباشر عن خصوماته ومنافراته ونزاعاته واعتداده بالانتماء لقبيلته ولذاته. كما أن مديحه ورثاءه وغزله وهجاءه وطردياته وخمرياته، تعبير مباشر عن علاقاته الشخصية بمن حوله، رضاً وغضباً وحزناً وحباً ولهواً وتسلية.
وبث في شعره ما علمته الحياة من تجارب مريرة وجميلة، وعلوم ومعارف بسـيطة تعلمـها، وتاريخه وتاريخ قبيلته وأيامها وأنسابها. لذا قال الخليفة عمر : (( الشعر علم قوم لم يكن لهم أعلم منه))، ونصح بتروية المتأدبين الشعر.
وهل يتخيل الناظر في تاريخ العرب عربياً لا يعرف الشعر، فإن لم يستطع نظمه لا يرويه، وإن لم يروه لا يستجيب له بشكل أو آخر. إن المطالعة في مصدر واحد من مصادر الشـعر العربي، تثبت هذا. فكم سـيجد القارئ عبارة (( أنشد إعرابي أو إعرابية..)) مطلقة هكذا دون تحديد هوية القائل، حتى أن هذه العبارة قد أثارت انتباهي في كتاب مثل ( أمالي القالي ) لما امتاز به من دقة إسناد وتحقق مما يرويه. ولم أجد تفسيراً مناسباً سوى أن الشعر كان هواءً يتنفسه العرب خاصتهم وعامتهم، بما يعيدنا لعبارة الرسول الأكرم محمد ( ص ) كما يرويها ابن رشيق القيرواني في العمدة: (( لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين )) ، فالشعر ليس جزءً خارجياً مضافاً إلى شخصية العربي، بل هو من صميم جبلّته وتكوينه، كما أن الحنين موجود في الإبل في أصل خلقتها وفطرتها، أو كما قال الدكتور عز الدين إسماعيل عن موقع الشعر في كيان العربي القديم (( إنه كان في تلك العصور ضرورة حيوية بيولوجية)).
وقد نخرج من هذا بأن الشعر جزء عضويّ مهم من شخصية العربي، لا يستطيع أن يسلخه منها في أشد الظروف ضراوة، أو أكثرها راحة واسترخاء. فحينما يدعى إلى القتال ينشد شعراً، وهو يعلم أن الموت أمامه، أو يطلب أن ينشده أحد شعراً .وفي جلسته العائلية الحميمة، ينشده ملاعباً عياله .بل إنه في علاقته مع ربه ينشد الشعر، كما ورد في بعض التلبيات الجاهلية والمناجيات الشعرية عند الإسلاميين. ولا يقتصر الأمر على المتعلمين المثقفين، أو الشعراء والأدباء، كما هو الحال الآن. وإنما هذه صفة عامة الناس بدليل نسبة كثير من الأخبار والمرويات التي تشـير إلى هذا المعنى لمجاهيل إناثاً وذكوراً، صغاراً وكباراً.
ولنلاحظ بعد ذلك كيف دخل الشعر في توجيه المواقف الحياتية والتأثير فيها حينما قامت الدول العربية الإسلامية كالأموية والعباسية وقبلها وبعدها. فكما أن الشعر كان متأثرا بالحياة وبالمجتمع، كذلك كان مؤثراً كبيراً فيهما، إن لم يكن أكبر مؤثر بما فصلته كتب تاريخ الأدب العربي. وللتذكير فقط وليس للاستدلال على هذه البديهية، نلمح إلى الحياة السياسية، وكيف أن الشعر قد ازدهر في أحضانها، وسلك سبلها، وفي الوقت ذاته كثيراً ما وجهها، فاتخذ القادة والزعماء مواقف سياسية مصيرية بتأثير من قصيدة أو بيت. ومثل ذلك في الحياة الاجتماعية، فالازدهار النسبي والحياة المنفتحة، أوجدت كماً ونوعاً نادراً من شعر الحب، أبان العصر الأموي في الحجاز، كما إن هذا الشعر أصبح عاملاً فاصلاً في زعزعة استقرار وحياة بعض شعرائه نفياً وقتلاً. مؤثراً كبيراً فيهما، إن لم يكن أكبر مؤثر بما فصلته كتب تاريخ الدب العربي.وبعدها
ولنلاحظ كيف أصبح الشعر المادة الأساسية، والمصدر الأكثر أهمية في الكتب والمؤلفات التي صنفها علماء العرب والمسلمين في شتى صنوف المعرفة، لا سيما اللغوية والنحوية والنقدية والبلاغية والعروضية والتاريخ والتراجم والسير، بل الدينية أيضاً. فقد كان ابن عباس كثيراً ما يستند إلى الشعر في توضيح مسائل في التفسير، وحاجج حسانُ عمرَ فقهيّاً في إنشاده الشعر في المسجد النبوي الشريف، بإقرار الرسول(ص) بذلك. ولا نعدم المؤلفات ذات الموضوعات البعيدة عن الشعر، تنظم شعراً، كموضوعات الفقه والمنطق والفلسفة وغيرها، أو تدرس الشعر من وجهة نظرها.
هكذا يرى المطلع على تاريخ الأدب العربي، أن الشعر لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا تعامل معها. ومن هنا كان العرب يمتلكون أكثر وأوفر تراث شعري بين أمم الأرض على أن ما حفظته أيدي الزمان لم يكن إلا القليل من الكثير.
[email protected]