23 ديسمبر، 2024 2:05 م

مظاهر الانفراد بالسلطة

مظاهر الانفراد بالسلطة

لا بد من الاشارة الى ان الاحتلال الامريكي للعراق هيأ الشعب العراقي ذهنياً وعقلياً للتفتت والتشتت والتشرذم والى توجيه اصدقائه العراقيين من كل الاطياف الى ان يعادي بعضهم بعض ويخيف بعضهم بعضاً لينغلق كل منهم على نفسه وينعزل عن  قرينه ابن وطنه حتى يتمكن الآخر/ المختلف البغي من مد خباثاته هنا وهناك في عراقنا وبذلك تسهل زراعة عوامل التآكل والانقراض في كيان الشعب العراقي كي يفقد مناعاته وقدراته على البقاء حياً ينبض بالحركة لتستطيع بالتالي ايادي الخبث والتفتيت ان تبتلعه وتقضمه قضما وتحوله كله فيما بعد الى طاقة تخريبية ضمن محيطه العربي والاسلامي.
وعندما يتحدث الواحد منا عن اسباب ما وصلنا اليه الآن،لابد ان يشير الى ان اهم الاسباب في ذلك كله وهو ما فعله ما يعرفون تجاوزاً- ساستنا ورؤساء حكومتنا بعد 9/ 4،  ببلدنا العراق وشعبه.
فقد اختار معظم هؤلاء الافذاذ بالعمالة والخنوع والجرائم.. طريق الانفراد بالسلطة وديمومتها لادارة عراقنا وشعبه. فعراقنا لم يسعده الحظ بالحياة الديمقراطية – السائد عندنا الآن تسيب وليس ديمقراطية – وحكم الاغلبية البرلمانية حتى ولو مرة في حياته وانما تساس اموره وتدار شؤونه برأي فرد يحكمه حكماً مطلقاً مدى حياته ولو موه هذا الحكم المطلق بمظاهر برلمانية شكلية، فالحاكم الفرد هو الذي يعين الوزراء ويقيلهم.
وظاهرة انفرادية القيادة في العراق تنسجم وتتناسب كل التناسب مع رغبات امريكا، فالتعامل مع فرد في يده كل شيء يوفر عليها الكثير من الجهود ويعيد لها الكثير من الطرق الوعرة ويفتح امامها الكثير من الابواب المغلقة، فهو بحرصه الشديد على سلامة نفسه ودوام سلطته يصبح مرهف السمع يتقبل كل النصائح التي يرى فيها سلامته وأمنه، وبهذا يمكن التعامل معه بسهولة، وفي الوقت نفسه يمكن تغييره بسهولة ايضا عند الحاجة، فلا يتطلب الامر اكثر من حفنة ضباط صغار يزحفون عليه ليلاً لكي يحل احدهم – اكثر اجراما وانحطاطاً وخنوعا منه- محله، هذا في حالة ارادت امريكا التخلص منه ومن ما يحمله من اسرار!!
وانطلاقاً من هذا الاعتبار، عرف عراقنا بعد 9/ 4، عدداً كبيراً من المنفردين بالسلطة حتى كأن الغرض من التحرير الامريكي الذي ناله شعبنا بكفاحه – على حد زعمهم – هو خلق زعيم يقوده ويحكمه مدى الحياة وليس خلق شعب ينمو ويتطور ويقوى ويزدهر مع الايام والسنين.
ورغم ما في انفرادية السلطة وديمومتها من تسهيل امور الدولة وضبطها وربطها وفق معايير ثابتة محددة تضمن استقرار البلاد وفق رأي الحاكم الفرد ومزاجه وسياسته فانها تحمل في طياتها سلبيات كثيرة خطيرة وخاصة اذا كان الحاكم شخص ذو انحدار طبقي ذليل وخنوع لا يعرف من شؤون السياسة والحكم الا القهر والقتل والتجويع والترويع وتيئيس الناس من حياتهم وافراغ البلد الذي يحكمه من جميع مقومات وجوده وكيانه.
فانفرادية السلطة وديمومتها سهلت على امريكا واسرائيل وايران توجيه بعض القيادات –تجاوزاً- العراقية توجيهاً يضر بهم وبشعبهم ضرراً كبيراً ويدفعهم دفعاً الى خدمة مخططاتهم في المنطقة وتنفيذه سواء اكان ذلك منهم عن علم وقصد او عن غفلة وجهل.
ومن سلبيات انفرادية الحكم ، ان شعور الحاكم بانه مفروض على الناس جميعا بقوة القهر والجبر وليس باغلبية الاراء والاصوات يجعله في حالة انشغال دائم بتأمين نفسه وحاشيته ضد اخطار التغيير العنيف الذي لا يملك الناس وسيلة غيرها لتغيير قيادتهم، وانشغاله هذا يجعله يتجه بكل اهتمامه الى متابعة ما يمكن ان يدبر ضده في الخفاء من مؤامرات سرية حتى من اقرب الناس اليه في بعض الاحيان، وبالتالي لا يجد وقتاً لمتابعة اتجاهات الرأي العام واهتمامات الناس ومشاكلهم مما يجعله يجهل الكثير من حقائق الحياة وظروف المحكومين حوله في بلده، وحتى تلك التقارير التي يكتبها له من هم في خدمته المعينون بارادته وقراره، غالباً ما يجانبها الصدق، لأن من يكبتها يمنعه حرصه  على بقائه في منصبه من الاشارة الى اي واقعة يعتقد او يظن ان ذكرها لسيده ورب نعمته قد يعكر مزاجه ويثير غضبه. وبذلك تحدث امور كثيرة في كيان الدولة تسيء الى حاضرها ومستقبلها بعيداً عن سمع وبصر حاكمها الفرد القادر وحده على تصحيح الاخطاء ومعاقبة المذنبين.
وانفرادية السلطة وديمومتها تفرض الجمود على كل مظهر من مظاهر سلوك الدولة وسيرها، فاعلامها بمختلف وسائله يتحول الى اعلام فاتر خال من الحرارة بل خال حتى من الصدق، في معظم الاحيان يردد اسطوانة محاسن الحكم كل يوم بدون انقطاع حتى يمل الناس هذه الاسطوانة فلا يسمعونها او يقرؤنها الا اذا كانوا خائفين او طامعين.
وقد ترتكب الجرائم من كبار رجال الحاشية او الموظفين ويجري ذكرها على كل لسان همساُ وسراً حتى الاطفال في جلساتهم ولكن اجهزة الاعلام العام او الخاص –حتى وان وجد- لا تستطيع ان تشير اليها حتى بالتكذيب والنفي حرصاً على شرف الحكم وسمعته في الداخل والخارج مما يجعلها تتحول كحقائق وقعت فعلاً وتستقر في اذهان الناس الى الابد.
وانفرادية السلطة وديمومتها افقدت الشعب العراقي القدرة على التطور والنمو السريع وتعدد الاتجاهات والابتكارات، وسدت في وجهه الابواب لتختار وتنتقى من بين صفوفه الاقدر فيه والاجدر بقيادته، وبذلك منعته من مجاراة الشعوب الحرة الاخرى في التقدم والتطور والرقي، كما فرضت انفرادية السلطة على الشعب العراقي ان يمارس حياته بطريقة روتينية خالية من التجديد والتغيير، واصبح الانسان العراقي مشدوداً الى نفسه ومنفعته الشخصية المباشرة ينقصه الاحساس بالمسؤولية الجماعية لمنعه من ابداء الرأي في شؤون جماعته، وبالتالي اصبح كل شيء عام في رأيه خارج قدرته ومن اختصاص الحاكم الفرد وحده، وعلى الناس ان يتقبلوه على مضض مرغمين او يرضوا به كقدر فرضته عليهم قوة جبرية عليا.
وانفرادية السلطة  ساهمت بدور رئيسي في تعطيل العقل العراقي وعرقلة نموه لاختيار اهل الثقة دون اهل الخبرة والكفاءة لادارة مرافق الدولة وتسيير شؤونها، وسادت طرق الوساطة والمحسوبية مما فرض على الكثير من الكفاءات العراقية الفرار والهجرة الى الخارج، حيث تلقفتهم هناك المؤسسات العلمية والشركات الكبرى فازدادت بهم تطوراً وازدهاراً وازدادت بلادنا بفقدهم فقراً وعجزاً، كما اضطر كثير من العقلاء والخبراء تحت وطأة الحاجة او الخوف او الطمع ان يمارسوا الدجل والنفاق وتزييف الحقائق وصناعة الاكاذيب وبذلك تعوَّد الانسان العراقي الباحث عن الحقيقة ان يفتش عنها في وسائل اعلام موجهة، بل تعوَّد بعض من القراء العراقيين ممن يتقن لغة اجنبية الا يطمئنوا لصدق شيء يقرءونه الا اذا كان مكتوباً في مطبوعة اجنبية.
وانفرادية السلطة وديمومتها هي التي مكنت امريكا واسرائيل وايران – الثالوث الدنس- من استخدام بعض العراقيين من اهم ادنس واحط منهم لتمزيق شعبنا العراقي وتشتيته وغرس الحزازات والنعرات واثارة عواطف التنافر والتباغض فيما بينه بل استطاع هذا الثالوث ان يستخدم امكانيات بعض الشعوب العربية بواسطة زعمائها المنفردين بالسلطة فيها لمحاربة شعب عربي آخر وقهره  والمساعدة في غزو اراضيه وقتل شيوخه واطفاله ونسائه وتخريب مدنه ومنشآته… فلولا ظاهرة انفرادية السلطة التي زرعها هذا الثالوث في عراقنا وفي المنطقة العربية لما امكن ان تستخدم اسلحة العرب واموالهم ورجالهم لمساندة دول اجنبية طاغية تغزو اراضي عراقنا.
وانفرادية السلطة في عراقنا اليوم هي التي دفعت سلطاته المنفردة بالحكم ان تصدر تشريعات وتغلق الحدود للحد من دخول اخواننا العرب والاقامة فيه اعتقاداً منهم ان تواجدهم بين ظهرانيننا يهدد امنهم واستقرارهم ويسبب في انتزاع سلطاتهم الدائمة من ايديهم، ولو امعنوا النظر قليلاً لادركوا من نصحهم بالانفصال والانعزال هو الذي يخطط لطردهم من سلطاتهم ونعيمها واستبدالهم بآخرين اكثر منهم حماساً لتنفيذ نصائحه وتحقيق رغباته، وأشد منهم قدرة على تمهيد الطريق امام نفور الثالوث الدنس الزاحف نحوهم، ويوم تحين ساعة التخلص منهم سيعرفون بعد فوات الاوان ان الغرض من عزلهم وفصلهم عن اخوانهم العرب هو تسهيل عملية خلعهم من مراكز قيادتهم وليس بقصد حمايتهم وضمان سلامتهم، كما خدعهم بالقول الزائف الناصحون المتآمرون ضدهم، وقصص اصدقاء هذا الثالوث الذين تآمر ضدهم في الخفاء وطردتهم من مراكز نفوذهم او خذلتهم وتخلصت منهم في اللحظات الحرجة الفاصلة تملأ صفحات التاريخ.
في بلادنا العراق اليوم، يملك الحاكم الفرد كل شيء وحده ويتحول جميع الناس الى اجراء لديه، ويقسم مرافق الدولة ومؤسساتها على محاسبيه واقاربه واهل الثقة المقربين الى قلبه في اقطاعيته وينعدم في نظامه الرقيب والحسيب لانعدام المؤسسات الدستورية والقضائية والصحف الحرة ويتحول مال الدولة كله الى مال سائب لا احد له مصلحة مادية او معنوية في حمايته والدفاع عنه، وبذلك يستطيع ذوو الضمائر الميتة ان يؤلفوا شللاً تنتشر هنا وهناك لنهب اموال الدولة وتهريبها الى الخارج ، وتحت اغطية كثيرة من الغش والزيف تعقد عشرات الصفقات المريبة التي تؤدي في النهاية الى انتشار الفساد وخراب الذمم وشعور الناس البسطاء بالجور والظلم وتتعرض الدولة كلها الى الافلاس والخراب كل ذلك يتم تحت غطاء من الاكاذيب والادعاءات الفارغة التي تنشأ عنها في النهاية كوارث اقتصادية تحل بنا بل حلت، والامثلة على ذلك كثيرة ومتعددة…
لقد صاحبت مظاهر الانفرادية السلطوية، مظاهر العنف والقهر بسبب مصادرة ممتلكات الناس ومقتنياتهم وانتزاعهم من اعمالهم وحرفهم ومصادر رزقهم وما يتعرض له المعارضون من سجن وتعذيب وقتل وارهاب واعتداء على الاعراض وتشريد أُسر وترميل نساء وتيتيم اطفال ونهب للمساكن… كل ذلك يخلق لدى الجميع احساساً بالظلم والجور وشعوراً بالمهانة والضياع، وما تتعرض له مرافق الدولة واجهزتها من فوضى وعجز تلو العجز وقصور بعد قصور يفقد الدولة في النهاية مصداقيتها لدى الناس كدولة كفؤة قادرة على ادارتهم والسير بهم.
وانفرادية السلطة هو الذي مكنها من اهدار القوانين والمبادئ الانسانية العامة، فلا يراعى في تنفيذ القوانين وتشريعها مصلحة الدولة العليا بقدر ما يراعى فيها الأمن الشخصي للحاكم وحاشيته فيتعطل سير القضاء في مجالات كثيرة من مجالات العدالة الانسانية ولا يجد المظلوم العاجز نصيراً ينصره او حامياً يحميه من الظلم والجور والفساد المنتشرة فتتعرض اعراض الناس الى الاعتداء وتتعرض اموالهم الى السلب والنهب وكرامتهم الى الذل والاهانة وحياتهم الى التشرد والضياع دون ان يجدوا قضاء عادلاً يضمن لهم حقوقهم ويرد الاعتداء عنهم بينما قد يدفع الانسان منهم حياته كلها ثمناً لرأي قاله رغبة منه في اصلاح ما افسده الدهر من شؤون وطنه وحياته واسرته….
وبقدر ما اصاب شعبنا من انكماش وسوء حال وتوقف عن التطور والنمو بسبب انفرادية الحكم عندنا تعرضت بلادنا الى تقلبات وتيارات سياسية متناقضة ومتعاكسة كان لها اسوأ الأثر في نفسية الانسان العراقي وامنه واستقراره في عمله ووطنه… فالرياح الشاذة ظلت تتقاذفه هنا وهناك وتفرقت به الطرق ما بين حاكم يأخذه قسراً بالعين وحاكم آخر يدفعه قهراً وجبرا الى اليسار وبين قوم ينفخون له بالونات الوحدة الوطنية الزائفة وآخرين يخيفونه من الاختلاط بالناس ويغرونه بالاختباء والانطواء داخل كهوف المذهبية والفدرالية…
وعرف عراقنا في ظل انفرادية السلطة مئات من احكام الاعدام الجائرة التي يصدرها المنفردون بالحكم ضد المخالفين لهم في رأي حول مسألة ما من المسائل المصيرية، كما عرفت ان الفارين من تنفيذ الحكم عليهم كثيرا ما تتاح لهم فرص التخلص من عدوهم ليصدروا بدورهم احكاماً بالاعدام متشابهة على المخالفين لهم في الرأي ايضاً.
وقد بلغ الشطط مداه في بلادنا حتى الوان العلم واشكاله اخذت تتغير وتتبدل حسب رؤية الحاكم وتقديره للأمور… وتتغير تبعاً لذلك رموز الدولة كلها بينما نجد ان دولاً متقدمة لم يتغير فيها لون العلم او رموز الدولة منذ اكثر من اربعمائة عام.
وهكذا استطاعت الانفرادية في السلطة ان تحدث الكثير من الاهتزازات بالنفسية العراقية والكثير من عوامل الحيرة والاضطراب بالعقلية العراقية مما جعلنا في حالة عجز عن التطور الطبيعي والنمو السليم وادخلنا في متاهات وصراعات وخلافات ايديولوجية ومذهبية أتاحت لاضلاع المثلث الدنس ان تبعدنا عن ميدان مجابهته ويلحق الهزيمة بنا في كل ميدان.
ان الكثير مما حدث ويحدث في عراقنا من امور يتناسب كل التناسب مع مخططات الآخر الدنس، فهل نحن جاهلون بطبيعة الرياح التي تسوقنا وتبعثرنا هنا وهناك وتمنعنا من التكامل والتكافل والتلاحم والبحث عن اسباب القوة والنماء والازدهار وتحصين وجودنا كله ضد الاخطار المحدقة بنا؟ ام ان حكومتنا الانفرادية تعلم ولكن عجزها وقصورها تمنعها من اتخاذ اي خطوة ايجابية الى الامام؟
[email protected]